وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145)
قوله تعالى: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ} اللامَ هي الموطِّئَةُ للقسَمِ المحذوفِ و "إنْ" شرطيةٌ ، فقد اجتمعَ شرطٌ وقسمٌ ، وسَبَقَ القسمُ فالجوابُ له إذ لم يتقدَّمْهما ذو خبرٍ ، فلذلك جاء الجوابُ للقسمِ بما النافيةِ وما بعدَها ، وحُذِفَ جوابُ الشرطِ لسدِّ جوابِ القسمِ مَسَدَّه ، ولذلك جاء فعلُ الشرطِ ماضياً لأنه متى حُذِفَ الجوابُ وَجَبَ مضيُّ فعلِ الشرطِ إلا في ضرورةٍ ، و "تَبِعوا" وإنْ كان ماضياً لَفْظاً فهو مستقبلٌ معنىً ، أي: ما يتَّبعون لأنَّ الشرطَ قيدٌ في الجملةِ والشرطُ مستقبلٌ فَوَجَبَ أنْ يكونَ مضمونُ الجملةِ مستقبلاً ضرورةَ أنَّ المستقبلَ لا يكونُ شرطاً في الماضي .
قوله: {وَمَآ أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ} ما:إما هي الحجازية فيكون "أنت" مرفوعاً بها ، و"بتابع" في محلِّ نصبٍ ، أو هي الميمية وعليه فـ "أنت" مرفوع بالابتداءِ و"بتابعٍ" في محلِّ رفعٍ خبر ، وهذه الجملةُ معطوفةٌ على جملةِ الشرطِ وجوابِه لا على الجوابِ وحدَه ، إذ لا يَحُلُّ محلَّه لأنَّ نفيَ تَبَعيَّتِهم لقِبْلَتِه مقيدٌ بشرطٍ لا يَصِحُّ أَنْ يكونَ قيداً في نفي تبعيَّتِه قِبلَتَهم . وهذه الجملةُ أبلغُ في النفي مِنْ قولِه: {مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ} كونُها اسميةً متكررٌ فيها الاسمُ ، مؤكَّدٌ نفيُها بالباءِ .
ووحَّد القبلةَ وإن كانت مثنَّاةً لأنَّ لليهودِ قِبلةً وللنصارى قبلةً أخرى لأحدِ وجهين: إمَّا لاشتراكِهما في البطلان صارا قِبلةً واحدةً ، وإمَّا لأجْلِ المقابلةِ في اللفظِ ، لأنَّ قبلَه {مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ} . وقُرِىء "بتابعِ قبلتِهم" بالإِضافةِ تخفيفاً لأنَّ اسمَ الفاعلِ المستكملِ لشروطِ العملِ يجوزُ فيه الوجهان . واختُلِفَ في هذه الجملةِ: هل المرادُ بها النهيُ أي: لا تَتَّبعْ قبلتهم ومعناه الدوامُ على ما أنتَ عليه لأنَّه معصومٌ من اتِّباعِ قبلتِهم أو الإِخبارُ المحض بنفي الاتِّباع . والمعنى أنَّ هذه القبلةَ لا تصيرُ منسوخةً ، أو قطعُ رجاءِ أهلِ الكتابِ أن يعودَ إلى قِبْلتِهم؟ قولان مشهوران .
قوله: {وَلَئِنِ اتبعت} كقولِه: "ولَئِنْ أَتَيْتَ" . وقولُه: "إنَّك" جوابُ القسمِ .
و"إذَنْ" حرفُ جوابٍ وجزاءٍ ، وتَنْصِبُ المضارعَ بثلاثةِ شروطٍ: أن تكونَ صدراً ، وألاَّ يُفْصَلَ بينها وبين الفعلِ بغيرِ الظرفِ والقسمِ وألاَّ يكونَ الفعلُ حالاً ، ودخلَتْ هنا بين اسمِ إنَّ وخبرِها لتقريرِ النسبةِ بينهما وكانَ حَدُّها أَنْ تتقدَّمَ أو تتأخَّرَ ، فلم تتقدَّمْ لأنَّه سَبَقَ قسمٌ وشرطٌ والجوابُ هو للقسمِ ، فلو تقدَّمَتْ لَتُوُهِّمَ أنها لتقريرِ النسبةِ التي بين الشرطِ والجوابِ المحذوفِ ، ولم تتأخَّرْ لِئَلاَّ تفوتَ مناسبةُ الفواصلِ ورؤوسِ الآي .
وتحريرُ معنى "إذَنْ" صعبٌ اضطربَ الناسُ فيه ، وهو أنَّ معناها الجوابُ والجزاءُ ، ولا تقعُ ابتداء كلامٍ ، بل لا بدَّ أَنْ يسبِقَها كلامٌ لفظاً أو تقديراً ، وما بعدها في اللفظِ أو التقديرِ وإنْ كان مُتَسَبِّباً عَمَّا قبلَها فهي في ذلك على وجهين ، أحدُهما: أَنْ تَدُلَّ على إنشاءِ الارتباطِ والشرطِ ، بحيث لا يُفْهم الارتباطُ من غيرِها مثالُ ذلك: أزورُك . فتقول: إذاً أزورَك ، فإنما تريد الآن أن تجعلَ فعلَه شرطاً لفِعْلِكَ ، وإنشاءُ السببيةِ في ثاني حالٍ من ضرورته أن يكونَ في الجواب وبالفعلية في زمانٍ مستقبلٍ، وفي هذا الوجهِ تكونُ عاملة ، ولعملها شروطٌ مذكورةٌ في النحوِ . الوجه الثاني: أن تكونَ مؤكِّدةً لجوابٍ ارتبط بمُقَدَّمٍ أو مَنْبَهَةً على مُسَبَّبٍ حَصَلَ في الحال ، وهي في الحالَيْنِ غيرُ عاملةٍ لأنَّ المؤكِّداتِ لا يُعْتَمَدُ عليها والعاملُ يُعْتَمَدُ عليه ، وذلك ، نحو: "إنْ تأتني إذاً آتِكَ" ، و"واللَّهِ إذاً لافعلَنَّ" فلو أُسْقِطَتْ "إذاً" لَفَهُمَ الارتباطُ ، ولَمَّا كانَتْ في هذا الوجهِ غير مُعْتَمَدٍ عليها جاز دخولُها على الجملةِ الاسميةِ الصريحةِ نحو: "أزورك" فتقول: "إذاً أنا أكرمُك" ، وجاز توسُّطُها نحو: "أنا إذاً أكرمُك" ، وتأخُّرها . وإذا تقرَّر هذا فجاءت "إذاً" في الآيةِ مؤكدةً للجوابِ المُرْتَبِطِ بما تقدَّم ، وإنما قَرَّرْتُ معناها هنا لأنها كثيرةٌ الدَّوْرِ في القرآنِ فتُحْمَلُ في كلِّ موضعٍ على ما يناسِبُ من هذا الذي قَرَّرْناه .
وإذا تقدَّمَها عاطفٌ جازَ إعمالُها وإهمالُها وهو الأكثرُ ، وهي مركبةٌ من همزة وذال ونون ، وقد شَبَّهَتِ العربُ نونَها بتنوين المنصوبِ فَقَلَبُوها في الوقفِ ألفاً وكتبها الكُتَّاب على ذلك .
وجاءت هنا {مِّن بَعْدِ مَا جَآءَكَ} بينما جاءت قبلَ هذا: {بَعْدَ الذي جَآءَكَ} البقرة : 120 وفي الرعدَ: {بَعْدَ مَا جَآءَكَ} الرعد: 37 فلم يأتِ بـ "من" الجارةِ إلاَّ هنا ، واختصَّ موضعاً بـ "الذي" ، وموضِعَيْنِ بـ "ما" ، فما الحكمةُ في ذلك؟ والجوابُ هو أنَّ "الذي" أَخَصُّ ، و "ما" أشدَّ إبهاماً ، فحيث أتى بالذي أشير به إلى العلمِ بصحةِ الدينِ الذي هو الإِسلام المانعُ من مِلَّتَي اليهود والنصارى ، فكان اللفظُ الأخَصُّ الأشهرُ أَوْلَى فيه لأنه عِلْمٌ بكلِّ أصولِ الدينِ ، وحيث أتى بلفظِ "ما" أُشيرَ به إلى العلمِ بركنٍ من أركانِ الدينِ ، أحدُهما: القِبلةُ ، والآخرُ: بعض الكتاب لأنه أشَارَ إلى قولِه: {وَمِنَ الأحزاب مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ} الرعد: 36 . وأما دخولُ "مِنْ" ففائدتُه ظاهرةٌ وهي بيانُ أولِ الوقتِ الذي وَجَبَ على سيدنا رسول الله ـ عليه الصلاة والسلام ـ أن يخالِفَ أهلَ الكتابِ في قِبْلَتِهم ، وهو من بابِ التنوعِ في البلاغة .