عبد القادر الأسود
¤° صاحب الإمتياز °¤
عدد المساهمات : 3986 تاريخ التسجيل : 08/09/2011 العمر : 76 المزاج : رايق الجنس :
| موضوع: الدر النظيم ... سورة البقرة ، الآية : 143 الجمعة مايو 25, 2012 8:42 am | |
| وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143) قوله جلّ ذكره: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} الوسط الخيار ، فجعل هذه الأمة خيار الأمم ، فالصحيح حكمهم ، والصائب نظرهم . {وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً ...} فِيهِ أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الأُولَى قَوْلُهُ تَعَالَى: "وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً" أي: وَكَمَا أَنَّ الْكَعْبَةَ وَسْطُ الأَرْضِ كَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا ، أَيْ جَعَلْنَاكُمْ دُونَ الأَنْبِيَاءِ وَفَوْقَ الْأُمَمِ . وَالْوَسَطُ: الْعَدْلُ ، وَأَصْلُ هَذَا أَنَّ أَحْمَدَ الأَشْيَاءِ أَوْسَطُهَا . رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: "وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً" قَالَ: عَدْلاً. وَفِي التَّنْزِيلِ: "قالَ أَوْسَطُهُمْ" أَيْ أَعْدَلُهُمْ وَخَيْرُهُمْ . َقَالَ زُهَيْرٌ:هُمْ وَسَطٌ يَرْضَى الْأَنَامُ بِحُكْمِهِمْ ...... إِذَا نَزَلَتْ إحدى الليالي بمعظموقال آخَرُ:أَنْتُمْ أَوْسَطُ حَيٍّ عَلِمُوا ................. بِصَغِيرِ الْأَمْرِ أَوْ إِحْدَى الْكُبَرِوَوَسَطُ الْوَادِي: خَيْرُ مَوْضِعٍ فِيهِ وَأَكْثَرُهُ كَلَأً وَمَاءً . ولما كان الوسط مجانباً للغلق وَالتَّقْصِيرِ كَانَ مَحْمُودًا ، أَيْ هَذِهِ الأُمَّةُ لَمْ تَغْلُ غُلُوَّ النَّصَارَى فِي أَنْبِيَائِهِمْ ، وَلا قَصَّرُوا تَقْصِيرَ الْيَهُودِ فِي أَنْبِيَائِهِمْ . وَفِي الْحَدِيثِ: ((خَيْرُ الأُمُورِ أَوْسَطُهَا)) . وَفُلانٌ مِنْ أَوْسَطِ قَوْمِهِ، وَإِنَّهُ لَوَاسِطَةُ قَوْمِهِ ، وَوَسَطَ قَوْمِهِ ، أَيْ مِنْ خِيَارِهِمْ وَأَهْلُ الْحَسَبِ مِنْهُمْ . وَقَدْ وَسَطَ وَسَاطَةً وَسِطَةً ، وَلَيْسَ مِنَ الْوَسَطِ الَّذِي بَيْنَ شَيْئَيْنِ في شي. وَالْوَسْطُ ((بِسُكُونِ السِّينِ)) الظَّرْفُ ، تَقُولُ: صَلَّيْتُ وَسْطَ الْقَوْمِ . وَجَلَسْتُ وَسَطَ الدَّارِ ((بِالتَّحْرِيكِ)) لأَنَّهُ اسْمٌ . قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَكُلُّ مَوْضِعٍ صَلُحَ فِيهِ "بَيْنَ" فَهُوَ وَسْطٌ ، وَإِنْ لَمْ يَصْلُحْ فِيهِ "بَيْنَ" فَهُوَ وَسَطٌ بِالتَّحْرِيكِ . الثَّانِيَة قَوْلُهُ تَعَالَى: "لِتَكُونُوا" أي لأن تكونوا. و"شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ" أَيْ لتشهدوا فِي الْمَحْشَرِ للأَنْبِيَاءِ عَلَى أُمَمِهِمْ ، فقد ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (( يُدْعَى نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلامُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَقُولُ لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ يَا رَبِّ فَيَقُولُ هَلْ بَلَّغْتَ فَيَقُولُ نَعَمْ فَيُقَالُ لأُمَّتِهِ هَلْ بَلَّغَكُمْ فَيَقُولُونَ مَا أَتَانَا مِنْ نَذِيرٍ فَيَقُولُ مَنْ يَشْهَدُ لَكَ فَيَقُولُ مُحَمَّدٌ وَأُمَّتُهُ فَيَشْهَدُونَ أَنَّهُ قَدْ بَلَّغَ وَيَكُونُ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا فَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً...)) وَفِيهِ: ((فَتَقُولُ تِلْكَ الأُمَمُ كَيْفَ يَشْهَدُ عَلَيْنَا مَنْ لَمْ يُدْرِكْنَا فَيَقُولُ لَهُمُ الرَّبُّ سُبْحَانَهُ كَيْفَ تَشْهَدُونَ عَلَى مَنْ لَمْ تُدْرِكُوا فَيَقُولُونَ رَبَّنَا بَعَثْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً وَأَنْزَلْتَ إِلَيْنَا عَهْدَكَ وَكِتَابَكَ وَقَصَصْتَ عَلَيْنَا أَنَّهُمْ قَدْ بَلَّغُوا فَشَهِدْنَا بِمَا عَهِدْتَ إِلَيْنَا فَيَقُولُ الرَّبُّ صَدَقُوا فَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً ـ وَالْوَسَطُ الْعَدْلُ ـ لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا)). وتعني الآيةُ أيضاً أنه يَشْهَدُ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ بَعْدَ الْمَوْتِ ، كَمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ حِينَ مَرَّتْ بِهِ جِنَازَةٌ فَأُثْنِيَ عَلَيْهَا خَيْرٌ فَقَالَ: ((وَجَبَتْ وَجَبَتْ وَجَبَتْ)) . ثُمَّ مُرَّ عَلَيْهِ بِأُخْرَى فَأُثْنِيَ عَلَيْهَا شَرٌّ فَقَالَ: ((وَجَبَتْ وَجَبَتْ وَجَبَتْ)) . فَقَالَ عُمَرٌ: فِدًى لَكَ أَبِي وَأُمِّي ، مُرَّ بِجِنَازَةٍ فَأُثْنِيَ عَلَيْهَا خَيْرٌ فَقُلْتَ: (( وَجَبَتْ وَجَبَتْ وَجَبَتْ)) وَمُرَّ بِجِنَازَةٍ فَأُثْنِيَ عَلَيْهَا شَرٌّ فَقُلْتَ: ((وَجَبَتْ وَجَبَتْ وَجَبَتْ))؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ خَيْرًا وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ وَمَنْ أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ شَرًّا وَجَبَتْ لَهُ النَّارُ ، أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الأَرْضِ أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الأَرْضِ أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ)) . وأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ بِمَعْنَاهُ كذلك . وَرَوَى أَبَانُ وَلَيْثٌ عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (( أُعْطِيَتْ أُمَّتِي ثَلاثًا لَمْ تعط إلاّ الأنبياء ،كَانَ اللَّهُ إِذَا بَعَثَ نَبِيًّا قَالَ لَهُ ادْعُنِي أَسْتَجِبْ لَكَ وَقَالَ لِهَذِهِ الأُمَّةِ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ،وكَانَ اللَّهُ إِذَا بَعَثَ النَّبِيَّ قال له مَا جَعَلَ عَلَيْكَ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ وَقَالَ لِهَذِهِ الأُمَّةِ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ، وَكَانَ اللَّهُ إِذَا بَعَثَ النَّبِيَّ جَعَلَهُ شَهِيدًا عَلَى قَوْمِهِ وَجَعَلَ هَذِهِ الأُمَّةَ شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ)) . خَرَّجَهُ الحكيم التِّرْمِذِيُّ فِي" نَوَادِرِ الأُصُولِ". الثَّالِثَةُ: أَنْبَأَنَا رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي كِتَابِهِ بِمَا أَنْعَمَ عَلَيْنَا مِنْ تَفْضِيلِهِ لَنَا بِاسْمِ الْعَدَالَةِ وَتَوْلِيَةِ خَطِيرِ الشَّهَادَةِ على جميع خلقه، فجعلنا أَوَّلاً مَكَانًا وَإِنْ كُنَّا آخِرًا زَمَانًا، كمَا قال عَلَيْهِ الصلاة والسَّلامُ (نَحْنُ الآخِرُونَ الأَوَّلُونَ)) . وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لا يَشْهَدُ إِلاّ الْعُدُولُ ، وَلا يَنْفُذُ قَوْلُ الْغَيْرِ عَلَى الْغَيْرِ إِلاّ أَنْ يَكُونَ عَدْلاً. الرَّابِعَةُ: وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ الإِجْمَاعِ وَوُجُوبِ الْحُكْمِ بِهِ ، لأَنَّهُمْ إِذَا كَانُوا عُدُولاً شَهِدُوا عَلَى النَّاسِ . فَكُلُّ عَصْرٍ شَهِيدٌ عَلَى مَنْ بَعْدَهُ ، فَقَوْلُ الصَّحَابَةِ حُجَّةٌ وَشَاهِدٌ عَلَى التَّابِعِينَ ، وَقَوْلُ التَّابِعِينَ عَلَى مَنْ بَعْدَهُمْ . وَإِذْ جُعِلَتِ الأُمَّةُ شُهَدَاءَ فَقَدْ وَجَبَ قَبُولُ قَوْلِهِمْ . وَلا مَعْنَى لِقَوْلِ مَنْ قَالَ: أُرِيدَ بِهِ جَمِيعُ الأُمَّةِ، لأَنَّهُ حِينَئِذٍ لا يَثْبُتُ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ . وَبَيَانُ هَذَا فِي كُتُبِ أُصُولِ الْفِقْهِ . قَوْلُهُ تَعَالَى: "وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً" قِيلَ: مَعْنَاهُ بِأَعْمَالِكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ . وَقِيلَ: "عَلَيْكُمْ" بِمَعْنَى لَكُمْ ، أَيْ يَشْهَدُ لَكُمْ بِالْإِيمَانِ . وَقِيلَ: أَيْ يَشْهَدُ عَلَيْكُمْ بِالتَّبْلِيغِ لَكُمْ . قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها} قِيلَ: الْمُرَادُ بِالْقِبْلَةِ هُنَا الْقِبْلَةُ الأُولَى ، لِقَوْلِهِ: "كُنْتَ عَلَيْها". وَقِيلَ: الثَّانِيَةُ ، فَتَكُونُ الْكَافُ زَائِدَةً ، أَيْ أَنْتَ الآنَ عَلَيْهَا ، وَكَمَا قَالَ: "كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ" أَيْ أَنْتُمْ ، فِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ . قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِلاّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ" قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: مَعْنَى "لِنَعْلَمَ" لِنَرَى . وَالْعَرَبُ تَضَعُ الْعِلْمَ مَكَانَ الرُّؤْيَةِ ، وَالرُّؤْيَةَ مَكَانَ الْعِلْمِ ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: "أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ " بِمَعْنَى أَلَمْ تَعْلَمْ . وَقِيلَ: الْمَعْنَى إِلاّ لِتَعْلَمُوا أَنَّنَا نَعْلَمُ ، فَإِنَّ الْمُنَافِقِينَ كَانُوا فِي شَكٍّ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى بِالأَشْيَاءِ قَبْلَ كَوْنِهَا . وَقِيلَ: الْمَعْنَى لِنُمَيِّزَ أَهْلَ الْيَقِينِ مِنْ أَهْلِ الشَّكِّ ، ذَكَرَهُ الطَّبَرِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى إِلاّ لِيَعْلَمَ النَّبِيُّ وَأَتْبَاعُهُ ، وَأَخْبَرَ تَعَالَى بِذَلِكَ عَنْ نَفْسِهِ ، كَمَا يُقَالُ: فَعَلَ الأَمِيرُ كَذَا ، وَإِنَّمَا فَعَلَهُ أَتْبَاعُهُ . وَقِيلَ: مَعْنَاهُ لِيَعْلَمَ مُحَمَّدٌ ، فَأَضَافَ عِلْمَهُ إِلَى نَفْسِهِ تَعَالَى تَخْصِيصًا وَتَفْضِيلاً ، كَمَا كَنَّى عَنْ نفسه سبحانه في قوله: "يا ابن آدم مرضت فلم تعدني " . فقد أضاف المرض إليه سبحانه وتعالى والمراد العبد تشريفاً للعبد وتقريباً له . وفي الحديث: "قال يا رب وكيف أعودك وأنت رب العالمين؟ قال أما علمت أن عبدي فلاناً مرض فلم تعُدْهُ ، أما علمتَ أنّك لوعُدْتَه لوجدتني عنده ..." والحديث في صحيح مسلم .وَالآيَةُ جَوَابٌ لِقُرَيْشٍ فِي قَوْلِهِمْ: " مَا وَلاّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها " وَكَانَتْ قُرَيْشٌ تَأْلَفُ الْكَعْبَةَ ، فَأَرَادَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَمْتَحِنَهُمْ بِغَيْرِ مَا أَلِفُوهُ لِيَظْهَرَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ لا يَتَّبِعُهُ . قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ} اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهَا نَزَلَتْ فِيمَنْ مَاتَ وَهُوَ يُصَلِّي إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ ، كَمَا ثَبَتَ فِي صحيح الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ ، عَلَى مَا تَقَدَّمَ . وَخَرَّجَ التِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا وُجِّهَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْكَعْبَةِ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ ، كَيْفَ بِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ مَاتُوا وَهُمْ يُصَلُّونَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: " وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ " الآيَةَ ، والحَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ . فَسَمَّى الصَّلاةَ إِيمَانًا لاشْتِمَالِهَا عَلَى نِيَّةِ وَقَوْلٍ وَعَمَلٍ . وَقَالَ مَالِكٌ: إِنِّي لأَذْكُرُ بِهَذِهِ الآيَةِ قَوْلَ الْمُرْجِئَةِ: إِنَّ الصَّلاةَ لَيْسَتْ مِنَ الْإِيمَانِ . وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: " وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ " أي بِالتَّوَجُّهِ إِلَى الْقِبْلَةِ وَتَصْدِيقكُمْ لِنَبِيِّكُمْ ، وَعَلَى هَذَا مُعْظَمُ الْمُسْلِمِينَ وَالأُصُولِيِّينَ . قوله: { التي كُنتَ عَلَيْهَا } في هذه الآيةِ خمسةُ أوجهٍ ، أولها: أنَّ " القِبلْة " مفعولٌ أولُ ، و{ التي كُنتَ عَلَيْهَا } مفعولٌ ثانٍ ، فإنَّ الجَعْلَ بمعنى التصييرِ . الثاني: أنَّ " القِبلةَ " هي المفعولُ الثاني ، وإنما قُدِّم ، و{التي كُنتَ عَلَيْها } هو الأول ، والتصييرَ هو الانتقالُ من حالٍ إلى حالٍ ، فالمتلبِّسُ بالحالةِ الأولى هو المفعولُ الأولُ والملتبِّسُ بالحالةِ الثانية هو المفعولُ الثاني ، ألا ترى أنك تقول: جَعَلْتُ الطينَ خَزَفاً وجَعَلْتُ الجاهلَ عالِماً، والمعنى هنا على هذا التقديرِ، وما جَعَلْنا القبلةَ ـ الكعبة التي كانَتْ قبلةً لك أولاً ثم صُرِفْتَ عنها إلى بيت المقدس ـ قبلتك الآن إلا لِنَعْلمَ. الثالث: أنَّ "القبلة" مفعولٌ أول و"التي كنتَ" صفتَهَا ، والمفعولُ الثاني محذوفٌ تقديرُه: وما جعلْنا القبلةَ التي كنت عليها منسوخةً . الرابع: أن "القبلةَ" مفعولٌ أولُ ، و"إلا لِنَعْلَمَ" هو المفعولُ الثاني، وذلك على حَذْفِ مضافٍ تقديرُه: وما جعلنا صَرْفَ القِبْلةِ التي كنت عليها إلاَّ لنعلمَ ، نحو قولِك: ضَرْبُ زيدٍ للتأديبِ ، أي: كائنٌ أو ثابتٌ للتأديبِ . الخامس: أنَّ "القبلةَ" مفعولٌ أولُ ، والثاني محذوفٌ، و{التي كُنتَ عَلَيْهَآ} صفةٌ لذلك المحذوفِ ، وفي قوله: "كنت" وجهان أحدهما : أنها زائدةُ ، ويُروَى عن ابن عباس أي: أنتَ عليها ، وهذا منه تفسيرُ معنىً لا إعراب . والقِبْلَةُ في الأصلِ اسمٌ للحالة التي عليها المقابِلُ ، وقد صار اسماً للمكان المقابل المتوجِّه إليه في الصلاة . وليس له قِبْلَةٌ أي جهةٌ يتوجه إليها . وإذا تقابل رجلان فكلُّ واحدٍ قِبْلَةٌ للآخرِ .قوله: {إِلاَّ لِنَعْلَمَ} قد تقدَّم أنه في أحدِ الأوجهِ يكون مفعولاً ثانياً، وأمَّا على غيره فهو استثناءٌ مفرغ من المفعولِ له العامِّ ، أي: ما سببُ تحويل القبلة لشيء من الأشياء إلا لكذا . وقوله: " لنعلم " ليس على ظاهره فإن علمَه قديمٌ غيرُ حادثٍ فلا بدَّ من تأويلِهِ وفيه أوجهٌ ، أحدُها: لتمييز التابع من الناكص إطلاقاً للسببِ وإرادةَ المسبَّبِ. وقيل: على حَذْفِ مضافٍ أي لنعلمَ رسولَنا فَحَذَفَ ، أو أرادَ بذلك تَعلُّقَ العلمِ بطاعتِهم وعِصْيانِهم في أمرِ القبِّلَه .قوله: {مَن يَتَّبِعُ} مَنْ: فيها وجهان ، أحدُهما: أنها موصولةٌ ، و"يتَّبع" صلتُها ، والموصولُ وصلتُه في محلِّ المفعولِ لـ "نعلم" لأنه يتعدَّى إلى واحدٍ . والثاني: أنها استفهاميةٌ في محلِّ رفعٍ بالابتداءِ و"يتَّبعُ" خبرهُ ، والجملةُ في محلِّ نصبٍ لأنَّها معلِّقة للعلم ، والعلم على بابِه . وقرأ الزهري: "إلا ليُعْلَمَ" على البناءِ للمفعولِ ، وهي قراءةٌ واضحةٌ لا تَحْتاجُ إلى تأويلٍ ، فإنَّا لا نُقَدِّرُ ذلك الفاعل غيرَ اللهِ تعالى .قوله: {على عَقِبَيْهِ} في محلِّ نَصْبٍ على الحال، أي: يَنْقِلِبُ مرتدَّاً راجعاً على عَقِبَيْه ، وهذا مجازٌ ، وقُرىء "على عَقْبَيْه" بسكون القاف وهي لغةُ تميم .قوله: {وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً} إنْ: هي المخففةُ من الثقيلةِ دَخَلَتْ على ناسخِ المبتدأ والخبر ، وهو أغلبُ أحوالِها ، واللامُ للفرقِ بينها وبين إنْ النافيةِ . والقراءةُ المشهورةُ نصبُ "كبيرةً" على أنها خبر كان واسمُ كانَ مضمرٌ فيها يعودُ على التَّوْلِيَةِ أو الصلاةِ أو القِبلةِ المدلولِ عليها بسياقِ الكلامِ . وقرأ اليزيدي عن أبي عمرو برفعِها ، وفيه تأويلان ، أحدُهما: أنَّ "كان" زائدةٌ ، وقد استُدِلَّ على ذلك بقول الشاعر: فكيفَ إذا مَرَرْتَ بدارِ قومٍ ................. وجيرانٍ لنا كانوا كرامِفإنَّ قولَه "كرام" صفةٌ لجيران، وزادَ بينهما "كانوا"وهي رافعةٌ للضميرِ، ومَنْ مَنَع ذلك تأوَّل "لنا" خبراً مقدماً ، وجملةُ الكونِ صفةٌ لجيران . والثاني: أنَّ "كان" غيرُ زائدةٍ ، بل يكونُ "كبيرةً" خبراً لمبتدأٍ محذوفٍ ، والتقديرُ: وإنْ كانَتْ لهي كبيرةٌ ، وتكونُ هذه الجملةُ في محلّّ نصبٍ خبراً لـ "كانت" ودخلت لام الفرقِ على الجملة الواقعةِ خبراً ، وهو توجيهٌ ضعيفٌ ، ولكن لا تُوَجَّه هذه القراءةُ الشاذةُ بأكثرَ مِنْ ذلك .قوله: {إِلاَّ عَلَى الذين} متعلِّقٌ بـ "كبيرة"، وهو استثناءٌ مفرغٌ ، فإنْ قيل: لَمْ يتقدَّمْ هنا نفيٌ ولا شبهُه ، وشرطُ الاستثناءِ المفرَّغِ تَقَدَّمُ شيءٍ من ذلك ، فالجوابُ أنَّ الكلام وإن كان موجَباً لفظاً فإنه في معنى النفي ، إذ المعنى أنَّها لا تَخِفُّ ولا تَسْهُلُ إلا على الذينَ ، وهذا التأويلُ بعينِه قد ذكروه في قوله: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الخاشعين}البقرة: 45 وقيل هو استثناءٌ من مستنثىً محذوفٍ تقديرُه: وإنْ كانت لكبيرةً على الناسِ إلا على الذين ، وليسَ استثناءً مفرغاً لأنه لم يتقدَّمْه نفيٌ ولا شِبْهُه .قوله: {وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ} في هذا التركيب وما أشبهه مِمَّا ورد في القرآن وغيرِه نحو: {وَمَا كَانَ الله لِيُطْلِعَكُمْ} آل عمران: 179 و{مَّا كَانَ الله لِيَذَرَ} آل عمران:179 قولان أحدُهما: أنَّ خبرَ كان محذوفٌ ، وهذه اللامُ تُسَمَّى لامَ الجحود ينتصِبُ الفعلُ بعدها بإضمار "أَنْ" وجوباً ، فيَنْسَبِكُ منها ومن الفعلِ مصدرٌ مُنْجَرٌّ بهذه اللامِ ، وتتعلَّق هذه اللامُ بذلك الخبرِ المحذوفِ ، والتقديرُ: وما كان اللهُ مريداً لإِضاعةِ أعمالِكم ، وهو قول البصريين وشرطُ لام الجحودِ عندهم أن يتقدَّمَها كونٌ منفيٌّ . واشترط بعضُهم مع ذلك أن يكونَ كوناً ماضياً . ويُفَرَّقُ بينها وبينَ لام كي ما ذكرنا من اشتراطِ تقدُّمِ كونٍ منفيٍّ ، ويَدُلُّ على مذهبِهم التصريحُ بالخبرِ المحذوفِ في قول الشاعر: سَمَوْتَ ولم تَكُنْ أَهْلاً لِتَسْمُو ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . والقولُ الثاني للكوفيين: وهو أنَّ اللامَ وما بعدَها في محلِّ الخبرِ ، ولا يُقَدِّرون شيئاً محذوفاً ، ويزعمون أنَّ النصبَ في الفعلِ بعدَها بنفسِها لا بإضمارِ أَنْ ، وأنَّ اللامَ للتأكيدِ ، وهو بَعيدٌ لأنَّ اللاَم لامُ الجرِّ و "أَنْ" بعدها مُرادَةٌ ، فيصيرُ التقدير على قولهم: وما كان الله إضاعةَ إيمانكم ، فإنَّهم لم يقولوا بإضمارِ "أَنْ" بعد اللام كما قَدَّمْتُ نقلَه عنهم ، بل يزعمون النصبَ بها وأنها زائدةٌ للتأكيدِ .واعلم أنَّ قولَك: "ما كان زيدٌ ليقومَ" بلامِ الجحودِ أَبْلَغُ من: "ما كان زيدٌ يقومُ" ، أمَّا على مذهبِ البصريين فواضحٌ ، وذلك أنَّ مع لام الجحود نفيَ الإرادةِ للقيام والتهيئةِ ، ودونَها نفيٌ للقيامِ فقط ، ونفيُ التهيئةِ والإِرادة للفعلِ أبلغُ من نفيِ الفعلِ ، إذ لا يلزمُ من نفي الفعل نفيُ إرادتِه ، وأمَّا على مذهبِ الكوفيين فلأنَّ اللامَ عندهم للتوكيد والكلامُ مع التوكيدِ أبلغُ منه بلا توكيدٍ .وقرأ الضَّحاك: "ليُضَيِّع" بالتشديد ، وذلك أن أَضاع وضَيَّع بالهمزةِ أو التضعيف للنقلِ من "ضاع" المقصور ، يقال: ضاع الشيء يضيع ، وأضَعْتُه أي أهملته فلم أحفظْه ، وأمّا ضاعَ المِسْك يَضوع أي : فاحَ فمادةٌ أخرى .قوله: {لَرَءُوفٌ} قرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وأبو بكر: لَرُؤفٌ على وزنِ "نَدُسٍ" وهي لغةٌ فاشية كقول الشاعر: وشَرُّ الظالمينَ فلا تَكُنْهُ .................... يقاتِلُ عَمَّه الرَّؤُفَ الرَّحيماوقال آخر : يَرَى للمُسلمين عليه حَقَّاً ................ كحقِّ الوالدِ الرَّؤُفِ الرحيمِوقرأ الباقون: "لَرَؤُوف" على وزن "شَكُورٍ" ، وقرأ أبو جعفر: "لَرَوُفٌ" من غير همزٍ ، وهذا دأبُه في كلِّ همزةٍ ساكنةٍ أو متحركةٍ . والرأفة: أشدُّ الرحمة فهي أخصُّ منها ، وفي رؤوف لغتان أَخْرَيَان وهما: رَئِفٌ على وزن "فَخِذٍ" ، ورَأْفٌ على وزن "صَعْبٍ" . وإنما قُدِّم "رؤوف" على "رحيم" لمناسبة الفواصل . | |
|