الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ
(121)
قوله تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} هم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، الذين آمنوا بكتاب الله وصدقوا به .وهم المؤمنون برسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبما جاء به من أصحابه .
وقيل: بل عنى الله بذلك علماء بني إسرائيل ، الذين آمنوا بالله وصدقوا رسله ، فأقروا بحكم التوراة . فعملوا بما أمر الله فيها من اتباع محمد صلى الله عليه وسلم ، والإيمان به ، والتصديق بما جاء به من عند الله .
قال ابن عباس رضي الله عنهما: نزلت في أهل السفينة الذين قدموا مع جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه وكانوا أربعين رجلا اثنان وثلاثون من الحبشة وثمانية من رهبان الشام منهم بحيرا .
وقال الضحاك: هم من آمن من اليهود: عبدُ الله بن سلام ، وسعية بن عمرو ، وتمام بن يهودا ، وأسد وأسيد ابنا كعب ، وابن يامين ، وعبد الله بن صوريا .
وإنما أدخلت الألف واللام في " الكتاب " لأنه معرفة ، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه عرفوا أي الكتب عنى به .
قوله تعالى: { يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ } مبالغة في صفة اتباعهم الكتاب ولزومهم العملَ به، والمعنى:يتبعونه حق اتباعه. فيحلّون حلاله ويحرّمون حرامَه ، ولا يحرّفونه . قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: إنّ حقّ تلاوته: أن يُحِلَّ حلالَه ويحرِّمَ حرامَه ،ويَقرأَه كما أنزله الله ، ولا يحرِّف الكَلِمَ عن مواضعه ، ولا يَتأوّل منه شيئاً على غير تأويله .
وقال غيره:يتّبعونه حق اتّباعه، ألم تر إلى قوله:{وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا} سورة الشمس: 2 يعني الشمس إذا تَبعها القمر . وقولهم: ما زلتُ أتلو أَثَرَه ، إذا تَبِع أثره .
وقال آخر: يعملون بمُحكَمِه ويؤمنون بمتشابهه ، ويكلون ما أشكل عليهم إلى عالمه .
قوله: {حق تلاوته} أيَّ تلاوةٍ ، بمعنى مدح التلاوة التي تلوها وتفضيلها .
قوله تعالى: {أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} يعني جل ثناؤه بـ " أولئك " هؤلاء الذين أخبر عنهم أنهم يتلون ما آتاهم من الكتاب حقّ تلاوته ، وأما قوله: " يؤمنون " فمعناه: يصدِّقون به. و" الهاء" التي في قوله: "به" عائدة على "الهاء" التي في "تلاوته" ، وهما جميعاً من ذكر الكتاب الذي قاله الله: {الذين آتيناهم الكتاب} . فأخبر الله جل ثناؤه أن المؤمن بالتوراة ، هو المتَّبعُ ما فيها من حلالها وحرامها ، والعاملُ بما فيها من فرائض الله التي فرضها فيها على أهلِها ، دون من كان محرفاً لها مبدلاً تأويلها ، مغيّراً سننَها تاركاً ما فرض الله فيها عليه .
وإنما وصف جل ثناؤه من وُصف بما وصف به من متبعي التوراة وأثنى عليهم ، لأنّ في اتِّباعِها اتِّباعُ محمدٍ نبيِّ الله صلى الله عليه وسلم وتصديقُه ، لأن التوراة تأمر أهلَها بذلك ، فأخبر جل ثناؤه أن متبعي التوراة هم المؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وهم العاملون بما فيها .
قوله تعالى: { وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } ومن يكفر بالكتاب الذي يتلونه حق تلاوته . ويجحد ما فيه من فرائض الله ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، وتصديقه ، ويبدله فيحرف تأويله ، أولئك هم الذين خسروا علمهم وعملهم ، فبخسوا أنفسهم حظوظها من رحمة الله ، واستبدلوا بها سخط الله وغضبه .
قولُه تعالى: { الذين آتَيْنَاهُمُ } رفعٌ بالابتداء، وخبرهِ: " يَتْلُونه " والجملةُ من قولِه " أولئكَ يؤمنون ": مستأنفةً . أو الجملةُ من قوله: " أولئك يؤمنون" هو الخبر و"يتلونه" في محلِّ نصبٍ على الحالِ: إمّا من المفعولِ في "آتَيْناهم" وإمَّا من الكتاب ، وعلى كِلا القَوْلَيْن فهي حالٌ مقدَّرة . ويجوز أيضاً أن يكونَ "يَتْلونه" خبراً ، و"أولئك يؤمنون" خبراً بعد خبر ، ومثاله قولهم: "هذا حلوٌ حامِضٌ" فيصبح الخبرينِ في معنى خبرٍ واحدٍ ، هذا إنْ أُريد بـ "الذين" قومٌ مخصوصونَ ، وإنْ أريدَ بهم العمومُ كانَ "أولئكَ يُؤمِنونُ" الخبرَ . و"يَتْلُونه" حالٌ .
قوله: {حَقَّ تِلاَوَتِهِ} فيه ثلاثة أوجه أحدُها:أنَّه نُصِبَ على المصدرِ وأصلُه: " تلاوةً حقاً " ثم قُدِّم الوصفُ وأُضيفَ إلى المصدرِ ، وصار نظير: "ضَرَبْتَ شديدَ الضربِ" أي: ضَرْباً شديداً . فلمّا قُدِّم وصفُ المصدرِ نُصِبَ نَصْبَه . الثاني: أنه حالٌ من فاعل "يَتْلونه" أي: يَتْلُونه مُحِقِّينِ ، الثالث: أنه نَعْت مصدرٍ محذوفٍ . و "حَقَّ" مصدرٌ والعاملُ فيه فعلٌ مضمرٌ وهو بمعنى أَفَعَل ، ولا تجوزُ إضافتُه إلى واحدٍ معرَّفٍ ، إنما جازَتْ هنا لأنَّ تَعَرُّفَ التلاوةِ بإضافتِها إلى الضميرِ ليس بتعرُّفٍ مَحْضٍ ، وإنما هو بمنزلةِ قولهِم: "رجلٌ واحدُ أمِّه ونسيج وحدِه" يعني أنه في قوةِ أفعَلِ التفضيلِ بمعنى أحقَّ التلاوةِ . والضميرُ في "به" فيه أربعةُ أقوالٍ ، أحدُها ـ وهو الظاهرُ ـ : عَوْدُه على الكتاب . الثاني : عَوْدُه على الرسولِ ، فإنه مذكور في قولِه: "أَرْسلناك" إلا أنَّ فيه التفاتاً من خطابٍ إلى غَيْبة . الثالثُ: أنَّه يعودُ على اللهِ تعالى ، وفيه التِفاتٌ أيضاً من ضميرِ المتكلِّمِ المعظِّمِ نفسَه في قولِه: "أَرْسلناك" إلى الغَيْبة . الرابعُ: إنه يعودُ على " الهدى " .