وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (116)
{وَقَالُواْ اتخذ الله وَلَدًا } نزلت في اليهود حيث قالوا عزيراً بن الله وفي نصارى نجران حين قالوا: المسيح ابنُ الله ، وفي مشركي العرب حيث قالوا: الملائكة بنات الله ، فالضمير لما سبق ذكره من النصارى واليهود والمشركين ، الذين لا يعلمون ، وعطفُه على { قَالَتْ اليهود } البقرة: 3 11 .
{ بَل لَّهُ مَا فِي السماوات والارض } إبطال لما زعموه وإضراب عمّا تقتضيه مقالتهم الباطلة من التشبيه بالمحدثات في التناسل والتوالد ، والحاجة إلى الولد في القيام بما يحتاج الوالد إليه ، ولأنّ الحكمة في التوالد هي أنْ يبقى النوعُ محفوظاً بتوارد الأمثال فيما لا سبيل إلى بقاء الشخص بعينه مدة بقاء الدهر ، وكل ذلك يمتنع على الله تعالى فإنه الأبدي الدائم ، والغنيّ المطلق المنزّه عن مشابهة المخلوقات ، فضمير "قالوا " راجع الى الفرق الثلاث المذكورة سابقاً . أما اليهود والنصارى فقد ذُكروا صريحاً وأمّا المشركون فقد ذُكروا بقوله تعالى: {كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم } أي قول اليهود والنصارى ومن شاركهم فيما قالوا من الذين لا يعلمون .
{اتخذ الله ولدا} الاتخاذ بمعنى الصُنْع والعمل فلا يتعدّى إلاّ إلى واحد ، أو بمعنى التصيير ، والمفعول الأول محذوف أى صيّر بعض مخلوقاته ولداً وادّعى أنه ولدَه لا أنّه ولدَه حقيقة . وكما يستحيل عليه تعالى أنْ يَلِدَ حقيقةً كذا يستحيل عليه تعالى التبنّي واتخاذ الولد ، فنزّه الله تعالى نفسَه عمّا قالوا فى حقّه فقال: { سبحانه } تنزيهه ، والأصل سبّحه سبحاناً على أنّه مصدر بمعنى التسبيح وهو التنزيه ، أي منزّهٌ عن السبب المقتضي للولد ، وهو الاحتياج إلى مَن يُعينُه فى حياته ويقوم مقامَه بعد مماته ، وعمّا يَقتضيه الولد وهو الشبيه فإن الولد لا يكون إلاّ من جنسِ والده ، فكيف يكون للحق سبحانه ولد وهو لا يشبهه شئ؟
وقرأ الجمهور قوله تعالى: "وقالوا" بالواوِ عطفاً لهذِه الجملةِ الخبريةِ ـ اتخذ الله ولداً ـ على ما قبلَها وهو أحسنُ في الربط . وقيل: هي معطوفةً على قوله: "وسعى" فيكونُ قد عَطَفَ على الصلة مع الفعلِ بهذه الجملِ الكثيرة ، وهذا ينبغي أن يُنَزَّه القرآنُ عن مِثْله . وقرأ ابنُ عامر ـ وكذلك هي في مصاحف الشام ـ "قالوا " من غير واوٍ ، وذلك يَحْتمل وجهين ، أحدُهما: الاستئنافُ . والثاني: حَذْفُ حرفِ العطفِ وهو مرادٌ ، استغناءً عنه بربطِ الضميرِ بما قبلَ هذه الجملةِ .
و"اتَّخَذَ" يجوزُ أن يكونَ بمعنى عَمِل وَصنَع ، فيتعدَّى لمفعولٍ واحدٍ ، وأن يكونَ بمعنى صَيَّر ، فيتعدَّى لاثنين ، ويكونُ الأولُ هنا محذوفاً تقديرُه: "وقالوا اتَّخذَ اللهُ بعضَ الموجودات ولداً" إلا أنَّه مع كثرةِ دَوْرِ هذا التركيبِ لم يُذْكَرْ معها إلا مفعولٌ واحدٌ: { وَقَالُواْ اتخذ الرحمن وَلَداً} الأنبياء: 26 ، و{ مَا اتخذ الله مِن وَلَدٍ } المؤمنون: 91 و{وَمَا يَنبَغِي للرحمن أَن يَتَّخِذَ وَلَداً} مريم: 92 . ووَلَدُ: فَعَل بمعنى مَفْعول كالقَبْض والنَّقْص ، وهو غيرُ مقيسٍ ، والمصدرُ: الوِلادة والوَليديَّة ، وهذا الثاني غريبٌ جداً .
قوله: {بَل لَّهُ مَا فِي السماوات والأرض} بَلْ: إضرابٌ وانتقالٌ ، و"له" خبرٌ مقدَّمٌ ، و"ما" مبتدأ مؤخرٌ . وأتى هنا بـ "ما" لأنه إذا اختلَطَ العاقلُ بغيره كان المتكلمُ مُخَيَّراً في "ما" و "مَنْ" ، ولذلك لَمَّا اعتَبَرَ العقلاءَ غلَّبهم في قوله: "قانتون" فجاء بصيغةِ جمع المذكر السالم المختصَّةِ بالعقلاء . و "ما" مصدريّة ظرفيّة .
قوله: {كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ} مبتدأٌ وخبرٌ ، و "كلٌّ" مضافَةٌ إلى محذوفٍ تقديراً ، أي: كلُّ مَنْ في السموات والأرض . وجَمَعَ " قانِتون " حَمْلاً على المعنى لِما تقدَّم من أَنَّ " كُلاًّ " إذا قُطِعَتْ عن الإِضافة جاز فيها مراعاةُ اللفظِ ومراعاةُ المعنى وهو الأكثر نحو: {كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} الأنبياء: 33 ، {وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ} النمل: 87 .
ومِنْ مراعاةِ اللفظِ: {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ على شَاكِلَتِهِ} الإسراء: 84 و{فكُلاًّ أَخَذْنا بذَنْبِه} العنكبوت: 40 ، وحَسُنَ الجمعُ هنا لتواخي رؤوسِ الآي . والقُنُوت: الطاعةُ والانقيادُ أو طولُ القيام أو الصمتُ أو الدعاءُ .