بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81)
لما ذكر سبحانه أهل النار وما أعد لهم من الهلاك أتبع ذلك بذكر أهل الإيمان وما أعد لهم من الخلود في الجنان ، وقد جرت عادته جل شأنه على أن يشفع وعده بوعيده مراعاة لما تقتضيه الحكمة في إرشاد العباد من الترغيب تارة والترهيب أخرى ، وقيل: إن في الجمع تربية الوعيد بذكر ما فات أهله من الثواب ، وتربية الوعد بذكر ما نجا منه أهله من العقاب ، وعطف العمل على الإيمان بدل على خروجه عن مسماه إذ لا يعطف الجزء على الكل ولا يدل على عدم اشتراطه به حتى يدل على أن صاحب الكبيرة غير خارج عن الإيمان .
{ بلى } حَرْفُ جوابٍ كنَعَم وجَيْرِ وأَجَلْ وإي ، إلاَّ أَنَّ "نعم" جواب إيجاب و"بلى" جوابٌ لنفي متقدِّمٍ ، سواءً دخلَه استفهامٌ أم لا ، فيكونُ إيجاباً له نحو قول القائلِ : ما قام زيدٌ فتقولُ : بلى ، قد قام ، وتقول : أليس زيداً قائماً ؟ فتقول بلى ، أي : هو قائم ، قال تعالى : {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى} الأعراف: 172 ويُروى عن ابن عباس أنهم لو قالوا: نَعَمْ لَكَفروا . فأمَّا قولُ الشاعر :
أليسَ الليلُ يَجْمَعُ أُمَّ عمروٍ .................... وإيَّانا فَذَاكَ بِنا تَدانِي
نَعَمْ وترى الهلالَ كما أَراه ................. وَيعْلُوها النهارُ كما عَلاني
فقيل : ضرورةٌ ، وقيل : نَظَرَ إلى المعنى ؛ لأنَّ الاستفهامَ إذا دَخَل على النفي قَرَّره ، وبهذا يُقال : فكيفَ نُقِل عن ابنِ عباس أنَّهم لو قالوا نعم لكَفروا ، مع أنَّ النفي صَار إيجاباً؟ وقيل : قَوْلُه : " نعم " ليس جواباً لـ " أليس " إنما هو جوابٌ لقولِه : " فذاكَ بنا تَداني " فقوله تعالى : "بلى" رَدٌّ لقولِهم : {لَن تَمَسَّنَا النار} أي : بلى تَمَسُّكم أبداً ، بدليلِ قولِه : { هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } .
والبصريون يَقُولون : إنَّ "بلى" حرفٌ بسيطٌ . وزعم الكوفيون
أنَّ أصلها بل التي للإِضراب ، زِيْدَتْ عليها الياء ليَحْسُنَ الوقف عليها،
وضُمِّنت الياء معنى الإِيجاب ، قيل: تَدُلُّ على رَدِّ النفي والياءُ تَدُلُّ على الإِيجابِ ، يَعْنُون بالياءِ الألفَ ، وإنما سَمَّوْها ياءً لأنَّها تُمال وتُكْتَبُ بالياءِ .
{ مَن كَسَبَ } يجوزُ في " مَنْ " وجهان ، أحدُهما : أن تكونَ موصولةً بمعنى الذي . والخبرُ قولُه: " فأولئك " ، وجازَ دخولُ الفاءِ في الخبر لاستكمالِ الشروطِ المذكورةِ فيما تقدَّم . ويؤيِّد كونَها موصوفةً ذِكْرُ قَسيمِها موصولاً وهو قولُه : {والذين كَفَرواْ} ، ويجوزُ أن تكونَ شرطيةً ، والجوابُ قولُه " فأولئك " وعلى كِلا القولين فمَحَلُّها الرفعُ بالابتداء ، لكنْ إذا قلنا إنها موصولةٌ كان الخبر : "فأولئك" ولا يكونُ لقولِه {كَسَبَ سَيِّئَةً} وما عُطِفَ عليه مَحَلٌّ من الإِعرابِ لوقوعِه صلةً، وإذا قلنا إنها شرطيةٌ فيجيء في خبرها الخلافُ المشهورُ : إمَّا الشرطُ أو الجزاءُ أو هما ، حَسْبما تقدَّم ، ويكونُ قولُه "كَسَب" وما عُطِفَ عليه في محلِّ جَزْمٍ بالشرط .
و" سَيِّئَةً " مفعولٌ به ، وأصلُها : سَيْوِئةَ ، لأنَّها من ساءَ يسُوِء ، فوزنُها فَيْعِلة ، فاجتمعَ الياءُ والواوُ وسَبَقَتْ إحداهما بالسكون ، فأُعِلَّتْ إعلالَ سَيّد وميّت . وراعى لفظ " مَنْ " مرةً فأفرَدَ في قوله "كسب " ، و" به " و" خطيئته " والمعنى مرةًً أخرى ، فَجَمَع في قوله : {فأولئك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} .
وقرأ نافعٌ وأهلُ المدينة: " خطيئاتُه " بجمعِ السلامة ، والجمهور : " خطيئتُه " بالإِفراد ووجهُ القراءتين ينبني على مَعرفة السيئة والخطيئة . وفيهما أقوالٌ، أحدُها: أنهما عبارتان عن الكفر بلفظَيْن مختلفين . الثاني: السيئةُ الكفرُ ، والخطيئةُ الكبيرةُ . الثالث: عكسُ الثاني . فوجْهُ قراءةِ الجماعة على الأولِ والثالث أنَّ المرادَ بالخطيئةِ الكفرُ وهو مفردٌ، وعلى الوجهِ الثاني أنَّ المرادَ به جنسُ الكبيرةِ . ووجهُ قراءِة نافعٍ على الوجهِ الأول والثالثِ أَنَّ المرادَ بالخطيئات أنواعُ الكفرِ المتجَدِّدَة في كلِّ وقتٍ، وعلى الوجه الثاني أَنَّ المرادَ به الكبائرُ وهي جماعةٌ . وقيل : المرادُ بالخطيئةِ نفسُ السيئةِ المتقدِّمة فسمَّاها بهذين الاسمين تقبيحاً لها ، كأنَّه قال: وأَحاطَتْ به خطيئتُه تلك ، أي السيئة ، ويكونُ المرادُ بالسيئةِ الكفرَ ، أو يُراد بهم العصاةُ ، ويكونُ أرادَ بالخلودِ المُكْثَ الطويلَ ، ثم بعد ذلك يَخْرُجُون .
{فأولئك أَصْحَابُ} إلى آخره تقدَّمَ نظيرُه فلا حاجةَ إلى إعادَتِه .
وقُرئ "خطاياه" تكسيراً وهذه مخالِفةٌ لسَوادِ المصحفِ، فإنه رُسِم "خطيئتُه" بلفظِ التوحيدِ .