وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55)
{ وَإِذْ قُلْتُمْ ياموسى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ } القائل هم السبعون الذين اختارهم موسى عليه السلام لميقات التوراة ، قيل : قالوه بعد الرجوع، وقتلِ عَبَدَةِ العِجْل ، وتحريقِ عجلِهم ، ويُفهم من بعض الآثار أن القائل أهل الميقات الثاني الذي ضربه الله تعالى للاعتذار عن عَبَدةِ العجل وكانوا سبعين أيضاً ، وقيل القائل عشرة آلاف من قومه ، وقيل : الضمير لسائر بني إسرائيل ، إلاّ مَن عصمه الله تعالى ، واللام من {لَكَ} إنَّما تعدَّى باللامِ دونَ الباءِ لأحدِ وجهين: إمَّا أَنْ يكونَ التقديرُ: لَن نُؤْمِنَ لأجلِ قولِك ، وإمَّا أَنْ يُضَمَّنَ مَعنى الإِقرارِ ، أي : لَنْ نُقِرَّ لك بما ادَّعَيْتَه ، وقرأ أبو عمرو بإدغام النونِ في اللامِ لتقاربُهِما .
وقيل: أرادوا نفي الكمال أي لا يكمل إيماننا لك ، كما قيل في قوله صلى الله عليه وسلم : (( لا يؤمن أحدكم حتى يحبَّ لأخيه المؤمنِ ما يحبُّ لنفسِه )) . والقولُ إنهم لم يكونوا مؤمنين أصلاً لم نَرَهُ لأحدٍ من أئمة التفسير .
{ حتى نَرَى الله جَهْرَةً } ” حتى ” ـ هنا ـ حرفُ غاية ، والجَهْرةُ في الأصل مصدرُ جَهَرْتَ بالقراءة إذا رفعتَ صوتَك بها واستعيرت للمعايَنَةِ بجامع الظُهور التامِّ . والجهرُ ظهورُ الشيء بإفراط حاسّةِ البصرِ أو حاسّةِ السمعِ ، أمّا البصرُ فنحو رأيتُه جهاراً ، وأمّا السمعُ فنحو { وَإِن تَجْهَرْ بالقول فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السر وَأَخْفَى } طه : 7
و” جَهْرَةً ” فيه قولان : أحدُهما : أنها مصدرٌ وفيها حينئذٍ قولان، أحدُهما أنَّ ناصبَها محذوفٌ ، وهو من لفظِها ، تقديرُه : جَهَرْتُمْ جَهْرةً ، والثاني : أنها مصدرٌ من نوعِ الفعلِ وهي نوعٌ من الرؤيةِ . والثاني : أنها مصدرٌ واقعٌ موقعَ الحالِ ، وفيها حينئذ أربعةُ أقوالٍ ، أحدُهما : أنه حالٌ من فاعل ” نرى ” أي : ذوي جَهْرَةٍ . والثاني : أنَّها حالٌ من فاعل ” قُلْتم ” ، أي : قلتم ذلك مجاهِرين ، فقد أتى بمفعولِ القولِ ثم بالحالِ من فاعِلِه ، فهو نظيرُ : ” ضَرَبْتُ هنداً قائماً ” . والثالثُ : أنَّها حَالٌ من اسمِ اللهِ تعالى ، أي : نَرَاه ظاهراً غيرَ مستورٍ . والرابعُ : أنَّها حالٌ من فاعلِ”نؤمن”والأرجحُ من هذه الأقوالِ الستةِ هو القول الثاني.
وقرأ ابنُ عباس « جَهَرَةً » بفتح الهاء وفيها قولان ، أحدُهما : أنها لغةٌ في جَهْرة ، وهي لغةٌ مسموعةٌ عند البصريين فيما فيه حَرْفُ الحلقِ ساكنٌ قد انفتح ما قبله ، والكوفيون يُجيزون فيه الفتحَ وإنْ لَمْ يَسْمعوه . والثاني : أنها جمعُ ” جاهر ” ، نحو : خادِم وخَدَم والمعنى : حتى نرى الله كاشفين هذا الأمر ، وهي تُؤَيِّدُ كونَ ” جهرةً ” حالاً من فاعل ” نَرى ” .
والجَهْرُ : ضدُّ السِّرِّ وهو الكَشْفُ والظهورُ ، ومنه جَهَرَ بالقراءةِ أي : أظهرَها كأنَّ الذي يَرى بالعين جاهرٌ بالرؤيةِ ، والذي يَرَى بالقلبِ مُخافِتٌ بها .
{ فَأَخَذَتْكُمُ الصاعقة } أي استولت عليكم وأحاطت بكم ، وأصلُ الأخذِ القبضُ باليَدِ ، والصاعقةُ ـ هنا ـ نارٌ من السماء أحرقتهم أو جندٌ سماويٌّ سمعوا حسَّهم فماتوا ، أو صيحةٌ سماويّةٌ خرّوا لها صَعِقين مَيّتين يوماً وليلة ، واختلف في موسى هل أصابه ما أصابهم ؟ والصحيح لا وأنّه صَعِقَ ولم يمتْ لظاهر قوله تعالى في حقه : { فلما أفاق } الأعراف: 143، و{ ثُمَّ بعثناكم } البقرة: 56 الخ في حقهم ، وقرأ عُمر وعليّ رضي الله تعالى عنهما ” الصَعْقَةُ ” .
{ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ } جملة حاليّة ومتعلَّق النظر ما حل بهم من الصاعقة أو أثرِها الباقي في أجسامهم بعد البعث ، أو إحياءِ كلٍّ منهم كما وقع في قصة العزيز ، قالوا : أحياه عضواً بعد عضو والمعنى وأنتم تعلمون أنها تأخذكم ، أو وأنتم يقابل بعضكم بعضاً .