يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ
(47)
يذكر الله تعالى بني إسرائيل بسالف نعمه على آبائهم وأسلافهم ، وما كان فَضَّلهم به من إرسال الرسل منهم وإنزال الكتب
عليهم وعلى سائر الأمم من أهل زمانهم ، كما قال تعالى:
{ وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ } الدخان:32 ، وقال تعالى: { وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ } [المائدة: 20].
وتكرار التذكير إنما يفيد التأكيد والإيذان بكمال غفلتهم عن القيام بحقوق النعمة ، وليربط ما بعده من الوعد الشديد به لتتم الدعوة بالترغيب والترهيب ، فكأنه قال سبحانه : إن لم تطيعوني لأجل سوابق نعمتي، فأطيعوني للخوف من لواحق عقابي .
{ وَأَنّى فَضَّلْتُكُمْ عَلَى العالمين } عطف على { نِعْمَتِيَ } وهو من عطف الخاص على العام ، وهو مما انفردت به الواو ، ويسمى هذا النحو من العطف بالتجريد كأنه جرد المعطوف من الجملة ، وأفرد بالذكر اعتناءاً به ، والكلام على حذف مضاف أي فضلت آباءكم وهم الذين كانوا قبل التغيير ، أو باعتبار أن نعمة الآباء نعمة عليهم ، والدليل على ذلك قوله تعالى: { وَإِذْ نجيناكم ..} البقرة: 49 ، والمخاطبون لم يروا فرعون ولا آله ، ولكنه تعالى ذكرهم أنه لم يزل منعماً عليهم ، والمراد بالعالمين سائر الموجودين في وقت التفضيل ، وتفضيلهم بما منحهم من النعم المشار إليها بقوله تعالى: { وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ يا قوم اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاء وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكاً } المائدة : 20 .
ومن اللطائف أن الله سبحانه وتعالى أشهد بني إسرائيل فضل أنفسهم فقال: { وَأَنّى فَضَّلْتُكُمْ .. } وأشهد المسلمين فضل نفسه فقال: { قُلْ بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ } يونس : 8 5 فشتان من مَشهودُه فضلُ ربّه، ومن مَشهودُه فضلُ نفسِه .
فهذه الأمّة أفضل منهم ؛ لقوله تعالى خطاباً لها: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ } آل عمران: 110.
وعن معاوية بن حَيْدَة القُشَيري ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: ” أنتم تُوفُونَ سبعين أمة ، أنتم خيرها وأكرمها على الله ” . والأحاديث في هذا كثيرة ستذكر عند قوله تعالى: { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } ـ إن شاء الله ـ .
قوله تعالى : { وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى العالمين } : ” أنَّ ” وما في حَيِّزها في محل نصبٍ لعَطْفِها على المنصوبِ في قوله : { اذكروا نِعْمَتِي } أي : اذكروا نعمتيَ وتفضيلي إياكم ، والجارُّ متعلَِّقٌ به .
و” الفضلُ ” : الزيادةُ في الخَيْر ، وهو في الأصل يتعدِّي بـ ” على ” ، وقد يَتَعدَّى بـ ” عَنْ ” : إمَّا على التضمين وإمَّا على التجوُّزِ في الحذف ، كقول الشاعر :
لاهِ ابنُ عَمِّك لا أَفْضَلْتَ في حَسَبٍ ……….. عني ولا أَنْتَ دَيَّاني فَتَخْزَوني
وقد يتعدَّى بنفسه ، كقوله :
وَجَدْنا نَهْشَلاً فَضَلَتْ فُقَيْماً ………….. كفَضْلِ ابنِ المَخَاضِ على الفَصيلِ
وفِعْلُه : فضَل يَفْضُل بالضم ، كقَتَلَ يقتُل . وأمَّا الذي معناه الفَضْلة من الشيء وهي البقيَّة ففعلُه أيضاً كما تقدَّم ، ويقال فيه أيضاً: ” فَضِل ” بالكسر يَفْضَل بالفتح كعَلِم يعلَم ، ومنهم مَنْ يكسِرُها في الماضي ويَضُمُّها في المضارعِ وهو من التداخُلِ بين اللغتين .