فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37)
{ فتلقى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ } : الفاءُ عاطفةٌ لهذه الجملةِ على ما قبلَها ، و " تلقَّى " تفعَّل بمعنى المجرد . مِن رَّبِّهِ متعلِّقٌ به ، و" مِنْ " لابتداءِ الغايةِ مجازاً ، وأجاز أبو البقاء أن يكونَ في الأصلِ صفةً لكلماتٍ فلمَّا قُدِّم انتصَبَ حالاً ، فيتعلَّقَ بمحذوفٍ ، و" كلماتٍ " مفعول به .
وقرأ ابنُ كثير بنصْبِ " آدم " ورفعِ " كلمات " ، وذلك أنَّ مَنْ تلقَّاك فقد تلقَّيْتَه ، فتصِحُّ نسبةُ الفعلِ إلى كلِّ واحدٍ . وقيل : لمَّا كانَتِ الكلماتُ سبباً في توبته جُعِلَتْ فاعِلَةً . ولم يؤنَّثِ الفعلُ على هذه القراءةِ وإنْ كان الفاعلُ مؤنثاً لأنه غيرُ حقيقي ، وللفصلِ أيضاً ، وهذا سبيلُ كلِّ فعلٍ فُصِلَ بينه وبين فاعِله المؤنَّثِ بشيءٍ ، أو كان الفاعلُ مؤنثاً مجازياً .
{ فَتَابَ عَلَيْهِ } عَطْفٌ على ما قبلَه ، ولا بُدَّ من تقديرِ جملةٍ قبلَها أي : فقالَها . والكلماتُ جمع كلمة ، وهي اللفظُ الدالُّ على معنًى مفردٍ ويُطْلَقُ على الجمل المفيدةِ مجازاً تسميةً للكلِّ باسمِ الجُزِءِ كقوله تعالى : { تَعَالَوْاْ إلى كَلِمَةٍ } ثم فَسَّرها بقوله : { أَلاَّ نَعْبُدَ } إلى آخره .
وقال تعالى : { كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ } يريدُ قولَه : { رَبِّ ارجعون } إلى آخرِه ، وقال لبيد :
ألاَ كلُّ شيءٍ ما خَلاَ اللهَ باطلُ .............. وكلُّ نعيمٍ لا مَحالةَ زائلُ
فسمَّاها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم كلمةً ، فقال : " أصدَقُ كلمةٍ قالها شاعرٌ كلمةُ لبيدٍ " .
والتوبةُ : الرجوعُ ، ومعنى وَصْفِ اللهِ تعالى بذلك أنه عبارةٌ عن العطفِ على عبادِه وإنقاذِهم من العذابِ ، ووصفُ العبدِ بها ظاهرٌ لأنه يَرْجع عن المعصيةِ إلى الطاعةِ ، والتَّوابُ الرحيمُ صفتا مبالغةٍ ، ولا يختصَّان بالباري تعالى . قال تعالى : { يُحِبُّ التوابين } ، ولا يُطْلَقُ عليه ـ سبحانه ـ " تائب " إنما توّابٌ كما سمى هو نفسه ، وإن صُرِّحَ بفعلِه "التوب" مُسْنَداً إليه تعالى ، وقُدِّم التوابُ على الرحيم لمناسبةِ قوله " فَتَاب عليه " ولأنه موافقٌ لخَتْم الفواصلِ بالرحيم .
وقوله : { إِنَّهُ هُوَ التواب الرحيم } نظير قوله : { إِنَّكَ أَنْتَ العليم الحكيم } .
وأَدغم أبو عمرو هاء " إنه " في هاء " هو " فقرأ " إنّهّو" .
واعتُرِض على هذا بأن بين المِثْلَيْنِ ما يمنع من الإِدغام وهو الواوُ، وأُجيب بأنَّ الواوَ صلةٌ زائدةٌ لا يُعْتَدُّ بها .
والمشهورُ قراءةُ : " إنَّه " بكسر إنَّ ، وقُرئ بفتحِها على تقديرِ لامِ العلة " لأنّه " .
فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37)
{ فَتَلَقَّى ءادَمُ مِن رَّبِّهِ كلمات } المراد بتلقي الكلمات استقبالها
بالأخذِ والقبولِ والعمل بها ، فهو مستعار من استقبالِ الناسِ بعضَ
الأحبّة إذا قدم بعد طول الغيبة لأنهم لا يدعون شيئاً من الإكرام إلا فعلوه ، وإكرامُ الكلمات الواردة من الحضرة الإلهيّة الأخذُ والقبولُ والعملُ بها ، وفي التعبير بالتلقي إيماء إلى أن آدم عليه السلام كان في ذلك الوقت في مقام البعد .
و{ من رَّبّهِ } حال من { كلمات } مقدم عليها ، وقرأ ابنُ كثير بنصب { ءادَمَ } ورفع { كلماتٌ } على معنى استقبلَتْه فكأنها مكرِّمةٌ له لكونها سببَ العفو عنه ، وقد يجعل الاستقبال مجازاً عن البلوغ بعلاقة السببيّة ، والمرويُّ في المشهور عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، أن هذه الكلمات هي { رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا } الآية ، وعن ابن مسعود أنها : {سبحانك اللهم وبحمدك ، وتبارك اسمك ، وتعالى جدك ، لا إله إلا أنت ، ظلمت نفسي فاغفر لي ، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت} . وقيل : رأى مكتوباً على ساق العرش ، محمد رسول الله فتشفع به .
فقد أخرج الطبراني في المعجم الصغير والحاكم وأبو نعيم والبيهقي في الدلائل وابن عساكر عن عمر بن الخطاب قال " قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لما أذنب آدم بالذنب الذي أذنبه رفع رأسه إلى السماء فقال : أسألك بحق محمد إلا غفرت لي ؟ فأوحى الله إليه : ومن محمد ؟ فقال : تبارك اسمك لما خلقتني رفعتُ رأسي إلى عرشك فإذا فيه مكتوب " لا إله إلا الله محمد رسول الله " فعلمت أنه ليس أحد أعظم عندك قدراً ممن جعلت اسمه مع اسمك فأوحى الله إليه :
يا آدم إنه آخرُ النبيين من ذريّتك ولولا هو ما خلقتُك " .
وإذا أطلقتَ الكلمة على عيسى عليه السلام ، فلتطلق الكلمات على الروح الأعظم ، والحبيب الأكرم صلى الله عليه وسلم ، فما عيسى ، بل وما موسى ، بل وما . . وما . . إلا بعض من ظهور أنواره، وزهرة من رياض نوّاره ، وروي غير ذلك .
{ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التوّاب الرحيم } التوبة أصلها الرجوع وإذا أُسندت إلى العبد كانت كما في إحياء علوم الدين للإمام الغزالي رضي الله عنه ، عبارة عن مجموع أمورٍ ثلاثة : علم وهو معرفة ضرر الذنب ، وكونه حجاباً عن كل محبوب ، وحال يثمره ذلك العلم ، وهو تألم القلب بسبب فوات المحبوب ، ونسميه ندماً . وعمل يثمره الحال وهو الترك والتدارك والعزم على عدم العود ، وكثيراً ما تطلق على الندم وحده لكونه لازماً للعلم مستلزماً للعمل . وفي الحديث: " الندم توبة " وطريق تحصيلها تكميل الإيمان بأحوال الآخرة وضرر المعاصي فيها ، وإذا أسندت إليه سبحانه كانت عبارة عن قبول التوبة والعفو عن الذنب ونحوه ، أو التوفيق لها والتيسير لأسبابها بما يظهر للتائبين من آياته ، ويطلعهم عليه من تخويفاته ، حتى يستشعروا الخوف فيرجعوا إليه ، وترجع في الآخرة إلى معنى التفضل والعطف ، ولهذا عُدِّيت بـ "على" وأتى سبحانه بالفاء لأن تلقي الكلمات عين التوبة ، أو مستلزم لها ، ولا شك أن القبول مترتب عليه ، فهي إذاً لمجرد السببية ، وقد يقال : إن التوبة لما دام عليها صح التعقيب باعتبار آخرها إذ لا فاصل حينئذ وعلى كل تقدير لا ينافي هذا ما روى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، أنهما بكيا مائتي سنة على ما فاتهما ، ولم يقل جل شأنه فتاب عليهما لأن النساء تَبَعٌ والتَبَعُ يُغني عنه ذكر المتبوع ، ولذا طُوي ذكرُهنّ في كثير من الكتاب والسنّة . وفي الجملة الاسميّة ما يقوي رجاء المذنبين ، ويجبر كسر قلوب الخاطئين حيث افتتحها بأن وأتي بضمير الفصل وعرّف المسند وأتى به من صيغ المبالغة: "التواّب" إشارة إلى قبول التوبة كلما تاب العبد ، ويحتمل أن ذلك لكثرة من يتوب عليهم ، وجمع بين وصفي كونه تواباً وكونه رحيماً إشارة إلى مزيد الفضل ، وقدم التواب لظهور مناسبته لما قبله ، وقيل في ذكر الرحيم بعده إشارة إلى أن قبول التوبة ليس على سبيل الوجوب كما زعمت المعتزلة بل على سبيل الترحُّمِ والتفضُّل ، وأنّه الذي سبقت رحمته غضبه ، فيرحم عبده في عين غضبه . كما جعل هبوط آدم سبب ارتفاعه ، وبعده سبب قربه فسبحانه من توّاب ما أكرمه ، ومن رحيم ما أعظمه ، وقرأ نوفل { أَنَّهُ } بفتح الهمزة على تقدير لأنه .