روضة الشاعر عبد القادر الأسود
بعد الصلاة على الرحمة المهداة

أهلا وسهلا بك في روضتنا

يسرنا تسجيلك

روضة الشاعر عبد القادر الأسود
بعد الصلاة على الرحمة المهداة

أهلا وسهلا بك في روضتنا

يسرنا تسجيلك

روضة الشاعر عبد القادر الأسود
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

روضة الشاعر عبد القادر الأسود

منتدى أدبي اجتماعي يعنى بشؤون الشعر والأدب والموضوعات الاجتماعي والقضايا اللإنسانية
 
مركز تحميل الروضةالرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخول
بسـم الله الرحمن الرحيم  :: الحمد لله رب العالمين * الرحمن الرحيم * مالك يوم الدين * إياك نعبد وإياك نستعين * إهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم * غير المغضوب عليهم ولا الضــالين ....  آميـــن

 

 الموسوسوعة القرآنية، الجزء الثامن عشر، سورة الفرقان: الآية: 20

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
عبد القادر الأسود

¤° صاحب الإمتياز °¤
¤° صاحب الإمتياز °¤
عبد القادر الأسود


عدد المساهمات : 3986
تاريخ التسجيل : 08/09/2011
العمر : 76
المزاج المزاج : رايق
الجنس : ذكر
الموسوسوعة القرآنية، الجزء الثامن عشر، سورة الفرقان:  الآية:  20 Jb12915568671



الموسوسوعة القرآنية، الجزء الثامن عشر، سورة الفرقان:  الآية:  20 Empty
مُساهمةموضوع: الموسوسوعة القرآنية، الجزء الثامن عشر، سورة الفرقان: الآية: 20   الموسوسوعة القرآنية، الجزء الثامن عشر، سورة الفرقان:  الآية:  20 I_icon_minitimeالأحد نوفمبر 20, 2022 8:23 am

وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا
(20)
قوْلُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} أَيْ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّ الَّذينَ تَقْدَّمُوكَ مِنَ إِخْوانِكَ الْمُرْسَلينَ،كَانُوا بَشَرًا مِثْلَكَ، وَلَمْ تَكُنْ الْخُصُوصِيَّةُ لَهُمْ إِلَّا ظُهُورَ الْمُعْجِزاتِ عَلَى يَدَيْهِمْ. وَقَدْ نَزَلَتْ جَوَابًا لِلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ قَالُوا: {مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ}. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُما: لَمَّا عَيَّرَ الْمُشْرِكُونَ رَسُولَ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِالْفَاقَةِ وَقَالُوا: {مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ ..} الْآيَةَ، حَزِنَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِذَلِكَ، فَنَزَلَتْ تَعْزِيَةً لَهُ ـ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلَامُ، فَقَالَ جِبْرِيلُ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ! اللَّهُ رَبُّكَ يُقْرِئُكَ السَّلَامَ وَيَقُولُ لَكَ: "وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ" أَيْ: يَبْتَغُونَ الْمَعَايِشَ فِي الدُّنْيَا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ الرَّازيُّ عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّهُ قالَ فِي مَعْنَى قولِهِ ـ تَعَالى: "وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ" يَقُولُ: إِنَّ الرُّسُلَ قَبْلَ مُحَمَّدٍ كَانُوا بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ: "لَيْأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاق، وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فتْنَةً" قَالَ: بلَاءً. وَقَدْ حَزِنَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِذَلِكَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ الكَريمةُ تَعْزِيَةً لَقلبِهِ الشَّريفِ ـ علَيْهِ وآلِهِ أَفْضَلُ الصَّلاةِ وأَكْمَلُ السَّلامِ، فَقَالَ جِبْرِيلُ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ! اللَّهُ رَبُّكَ يُقْرِئُكَ السَّلَامَ وَيَقُولُ لَكَ: "وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ" أَيْ يَبْتَغُونَ الْمَعَايِشَ فِي الدُّنْيَا.
قوْلُهُ: {إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ} جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِمْ في الآيةِ: (7) السَّابقةِ مِنْ هَذِهِ السُّورةِ المُياركةِ: {مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ}.
وَإِنَّمَا أَبْقَى اللَّهُ الرُّسُلَ عَلَى الْحَالَةِ الْمُعْتَادَةِ لِلْبَشَرِ فِيمَا يَرْجِعُ إِلَى أَسْبَابِ الْحَيَاةِ الْمَادِّيَّةِ، إِذْ لَا حِكْمَةَ فِي تَغْيِيرِ حَالِهِمْ عَنْ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يُغَيِّرُ اللَّهُ حَيَاتَهُمُ النَّفْسِيَّةَ والقلبيَّةَ والروحِيَّةَ فَقَطْ، لِأَنَّ فِي تَغْيِيرِهَا إِعْدَادًا لنُفُوسِهِمْ وسَرَائرِهِم لِكَيْ تَتَلَقَّى الْفَيُوضَاتِ الْإِلَهِيَّةِ. وَأَمَّا مَا يتَعَلَّقُ بِنَوَامِيسِ الحَياةِ وَنِظَامِ الْخَلَائِقِ وَالْعَوَالِمِ، فإنَّ اللهَ ـ تَعَالَى، يُبقيهَا عَلَى حَالِهَا وَيُحافِظُ عَلَيْهَا كَمَا هِيَ فِي غَيْرِهِمْ مِنَ الْخَلَائِقِ لِأَنَّهُ ـ سُبْحانَهُ، مَا خَلَقَهَا فِيهِمْ عَبَثًا، وَلِذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يُغَيِّرُ فيهَا إِلَّا بِمِقْدَارِ مَا تَتَعَلَّقُ بِهِ إِرَادَتُهُ مِنْ تَأْيِيدِهم بِالْمُعْجِزَاتِ، وَما يُريدُ أَنْ يُطلِعَهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَسْرَارِ الْكَوْنِ وَالْحَيَاةِ، وَيُفيضُ عَلَيْهِمْ مِنْ أَنوارٍ تُعينُهُمْ في تَبْلِيغِ خَلَائِقِهِ رِسالتَهُ إلَيْهِمْ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَخُصُّ بِهِ الْمُرْسَلِينَ وعبادَهُ الْمُقَرَّبِينَ.
وَقَدْ جَاءَ هَذا الْمَعْنى مُؤكَّدًا بِـ "إِنَّ" وَاللَّامِ المُزَحْلَقَةِ لِتَحْقِيقِ وُقُوعِ الْحَالِ تَنْزِيلًا لِلْمُشْرِكِينَ فِي غَفْلَتِهِمْ عَنْ أَحْوَالَ الْمرْسَلِينَ مَنْزِلَةَ مَنْ يُنْكِرُ أَنْ يَكُونَ الرُّسُلُ السَّابِقُونَ يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ. وَلَمْ تَقْتَرِنْ جُمْلَةُ الْحَالِ بِالْوَاوِ لِأَنَّ وُجُودَ أَدَاةِ الِاسْتِثْنَاءِ كَافٍ فِي الرَّبْطِ، لَا سِيَّمَا وَقَدْ تَأَكَّدَ الرَّبْطُ بِحَرْفِ التَّوْكِيدِ، وَلِذَلِكَ فَلَا يُزَادُ حَرْفٌ آخَرُ فَيَتَوَالَى أَرْبَعَةُ حُرُوفٍ وَهِيَ: إِلَّا، وَإِنَّ، وَاللَّامُ، وَيُزَادُ الْوَاوُ بِخِلَافِ قَوْلِهِ ـ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ الخِحْر: {وَمَا أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ} الْآيةَ: (4)، وَقَوْلِهِ مِنْ سورةِ الشُّعَرَاء: {وَمَا أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ} الآيةَ: (208).
قوْلُهُ: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً} بَيَانٌ لِسُنَّةٍ مِنْ سُنَنِهِ ـ تباركَتْ أَسْماؤُهُ، فِي خَلْقِهِ، اقْتَضَتْهَا حِكْمَتُهُ، وَجَرَتْ بِهَا مَشِيئَتُهُ. أَيْ: فَضَّلْنا بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ، وأَمَرْنا الْمَفْضُولَ بِالصَّبْرِ والرِضَا، وَأَمَرْنا الْمُفَضَّلَ بِالشُّكْرِ عَلَى نِعْمَةِ تَفْضيلِهِ، وَخَصَّ الْبَعْضَ مِنْهُمْ بِالْأَسْقَامِ وَالْآلامِ، وَالكَرْبِ والْبَلَاءِ للفِتْنَةِ والابْتلاءِ، وَخَصَّ الْبَعْضَ مِنْهُمْ بِالْعَافِيَةِ، وذلِكَ لِيَظْهَرَ قَوِيُّ الْإِيَمانِ، مِنْ ضَعِيفِهِ وَيُمَيَّزَ الْمُطيعَ مِنَ العاصي، فَلَا لِمَنْ نَعَّمَهُ اللهُ مَنْقَبَةٌ، وَلَا لِمَنْ امْتَحَنَهُ مَعْيَبَةٌ، فَبِفَضْلِهِ لَا بِكَدِّهِمْ، وبِحُكْمِهِ لَا بِفِعْلِهِمْ، وَبِإِرَادَتِهِ لَا بِعِبَادَتِهِمْ، وَبِاخْتِيَارِهِ لَا بِأَوْضَارِهِمْ، وَبِأَقْدارِهِ لَا بِأَوْزَارِهِمْ، وَبِهِ كلُّ مَا كَانَ مِنْهُمْ لَا بِهِمْ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي (شُعَبُ الْإِيمانِ) عَنِ الإِمامِ الْحَسَنِ البَصْريِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّهُ قالَ في قولِهِ ـ تَعَالَى: "وَجَعَلنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً"، قَالَ: يَقُولُ الْفَقِير: لَوْ شَاءَ اللهُ لَجَعَلَنِي غَنِيًا مِثْلَ فُلَانٍ، وَيَقُولُ السَّقِيمُ: لَوْ شَاءَ اللهُ لَجَعَلَنِي صَحِيحًا مَثَلَ فُلَانٍ. وَيَقُولُ الْأَعْمَى: لَوْ شَاءَ اللهُ لَجَعَلَني بَصِيرًا مِثْلَ فُلَانٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ عِكْرِمَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّهُ قالَ في قولِهِ ـ تَعَالَى: "وَجَعَلنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً"، قَالَ: هُوَ التَّفَاضُل فِي الدُّنْيَا، وَالْقُدْرَةُ والْقَهْرُ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، أَنَّهُ قالَ فِي قَوْلِهِ ـ تَعَالَى: "وَجَعَلنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً"، قَالَ: يُمْسِكُ عَلَى هَذَا، وَيُوَسِّعُ عَلَى هَذَا، فَيَقُولُ: لِمْ لَمْ يُعْطِنِي رَبِّي مَا أَعْطَى فُلَانًا؟، وَيُبْتَلَى بِالْوَجَعِ فَيَقُولُ: لِمَ لَا يَجْعَلُنِي رَبِّي صَحِيحًا سليمًا معافًى مِثْلَ فُلَانٍ؟ وأَشْبَاهُ ذَلِكَ مِنَ الْبلَاءِ، لِيُعْلَمَ مَنْ يَصْبِرُ مِمَّنْ يَجْزَعُ، وَ "وَكَانَ رَبُّكَ بَصيرًا" بِمَنْ يَصْبِرُ وَمَنْ يَجْزَعُ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ عَنِ الْإِمامِ الْحَسَنِ البَصْرِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: ((لَوْ شَاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أَغْنِيَاءَ كُلَّكُمْ، لَا فَقيرَ فِيكُمْ، وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ فُقَرَاءَ كُلَّكُمْ، لَا غَنِيَّ فِيكُمْ، وَلَكِن ابْتَلَى بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ)).
وَأَخْرَجَ الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ فِي (نَوَادِرُ الْأُصُولِ) عَنْ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ الزَّرْقِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، كَيْفَ تَرَى؟ فِي رَقِيقِنَا أَقْوَامٌ مُسْلِمِينَ يُصَلُّونَ صَلَاتَنَا، وَيَصُومُونَ صَوْمَنَا، نَضْرِبُهُمْ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((تُوزَنُ ذُنُوبُهُمْ وَعُقُوبَتُكُمْ إِيَّاهُمْ، فَإِنْ كَانَتْ عُقُوبَتُكُمْ أَكْثَرَ مِنْ ذُنُوبِهِمْ أَخَذُوا مِنْكُمْ)). قَالَ: أَفَرَأَيْتَ سَبَّنَا إِيَّاهُمْ؟ قَالَ: ((يُوزَنُ ذَنْبُهُمْ وَأَذَاكُمْ إِيَّاهٌمْ، فَإِنْ كَانَ أذَاكُمْ أَكْثَرَ أُعْطُوا مِنْكُمْ)). قَالَ الرَّجُلُ: مَا أَسْمَعُ عَدُوًّا أَقْرَبَ إِلَيَّ مِنْهُمْ. فَتَلَا رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ""وَجَعَلنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصيرًا" فَقَالَ الرَّجُلُ: أَرَأَيْتَ يَا رَسُولَ اللهِ وَلَدِي أَضْرِبُهُمْ؟ قَالَ: ((إِنَّكَ لَاتُتَّهَمُ فِي وَلَدِكَ، فَلَا تَطِيبُ نَفْسًا تَشْبَعُ وَيَجُوعُ، وَلَا تَكْتَسِي وَيَعْرَوْا)).
فإِنَّ الدُّنْيَا دَارُ بَلَاءٍ وَامْتِحَانٍ، فَأَرَادَ ـ سُبْحَانَهُ، أَنْ يَجْعَلَ بَعْضَ عَبِيدِهِ فِتْنَةً لِبَعْضٍ، عَلَى الْعُمُومِ فِي جَمِيعِ النَّاسِ، مُؤْمِنِهم وَكَافِرِهم، فَالصَّحِيحُ فِتْنَةٌ لِلْمَرِيضِ، وَالْغَنِيُّ فِتْنَةٌ لِلْفَقِيرِ، وَالْفَقِيرُ الصَّابِرُ فِتْنَةٌ لِلْغَنِيِّ. وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مُخْتَبَرٌ بِنقيضِهِ، فَالْغَنِيُّ مُمْتَحَنٌ بِالْفَقِيرِ، فعَلَيْهِ أَنْ يُوَاسِيَهُ وَيَمُدَّ لِهُ يَدَ الْمُساعَدَةِ مِنْ مال اللهِ الذي رُزِقَهُ، وَأَنْ لَا يَسْتَهينُ بِهِ وَيَسْخَرَ مِنْهُ. وَالْفَقِيرُ مُمْتَحَنٌ بِالْغَنِيِّ، فَعَلَيْهِ أَنْ يتمَنى لَهُ الْخَيرَ وَأَلَّا يَحْسُدَهُ عَلَى مَا أَعْطَاهُ اللهُ، وَلَا يَطْمَعَ بِمَا فِي يَدِهِ، وَأَنْ يَصْبِرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْها عَلَى الْحَقِّ، كَمَا قَالَ الضَّحَّاكُ فِي مَعْنَى قولِهِ ـ تَعَالى: "أَتَصْبِرُونَ" أَيْ: أَتَصْبِرونَ عَلَى الْحَقِّ؟. وَأَصْحَابُ الْبَلَايَا يَقُولُونَ: لِمَ لَمْ نُعَافَ؟ وَالْأَعْمَى يَقُولُ: لِمَ لَمْ أُجْعَلْ بَصِيرًا؟ وَهَكَذَا كُلُّ صَاحِبُ بلاءٍ وَبَلِيَّةٍ.
وَالرَّسُولُ الْمَخْصُوصُ بِكَرَامَةِ النُّبُوَّةِ، وَشَرفِ الإِسالِ وَخُصُوصِيَّةِ الْمُعْجِزَةِ، الأمْرِ الفِاتِنِ للِأَشْرَافِ مِنَ الْكُفَّارِ فِي عَصْرِهِ. وَكَذَلِكَ الْعُلَمَاءُ وَحُكَّامُ الْعَدْلِ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ ـ تَعَالَى، في الآيةِ: (31) مِنْ سُورَةِ: الزُّخْرُفِ حَاكِيًّا مَقَالَتَهُم: {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ}. فَالْفِتْنَةُ أَنْ يَحْسُدَ الْمُبْتَلَى الْمُعَافَى. وَالصَّبْرُ: أَنْ يِحْبِسَ كِلاهُما نَفْسُهُ، هَذا عَنِ الْبَطَرِ، وَذَاكَ عَنِ الضَّجَرِ.
والْمُعادِلُ لِـ: "أَتَصْبِرُونَ" مَحْذُوفٌ، أَيْ: أَمْ لَا تَصْبِرُونَ. وَهَذِهِ الجُمْلَةُ تَذْيِيلٌ لِمَا سَيَقَ، فَضَمِيرُ الْخِطَابِ فِي قَوْلِهِ: "بَعْضَكُمْ" يَعُمُّ جَمِيعَ النَّاسِ بِقَرِينَةِ ما فِي السِّيَاقِ. وَكِلَا الْبَعْضَيْنِ مِنْ قولِهِ: "بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ"ـ مُبْهَمٌ يُبَيِّنُهُ الْمَقَامُ. وَحَالُ الْـ "فِتْنَة" فِي كِلَا الْبَعْضَيْنِ مُخْتَلِفٌ، فَبَعْضُهَا فِتْنَةٌ فِي الْعَقِيدَةِ والإِيمانِ، وَبَعْضُهَا فِتْنَةٌ فِي الْأَمْنِ والأَمَانِ، وَبَعْضُهَا فِتْنَةٌ فِي صِحَّةِ الْأَبْدَانِ ... الخ.
وَالْإِخْبَارُ عَنْ "بَعْضَكُمْ" بِـ "فِتْنَةً" مَجَازِيٌّ لِأَنَّهُ سَبَبُ الْفِتْنَةِ، وَقدْ شَمِلَ أَحَدُ الْبَعْضَيْنِ حَضْرَةَ النَّبِيِّ ـ عليْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ، الْمُؤْمِنِينَ مَعَهُ، وَالْبَعْضُ الْآخَرُ همُ الْمُشْرِكِونَ، فَكَانَ حَالُ الرَّسُولِ فِتْنَةً لِلْمُشْرِكِينَ، إِذْ زَعَمُوا أَنَّ حَالَهُ ـ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلَّمَ، مُنَافٍ لِلرِّسَالَةِ، ولذلكَ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ، وَكَانَ حَالُ الْمُؤْمِنِينَ فِي ضَعْفِهِمْ فِتْنَةً لِلْمُشْرِكِينَ، الَّذينَ أَبَوُا الْإِيمَانَ الَّذِي يُسَوِّيهِمْ بِهِمْ، فَقَدْ كَانَ أَبُو جَهْلٍ عَمْرُو بْنُ هشامٍ، وَالْوَلِيدُ بْنُ الْمُغيرَةِ، والعاصُ بْنُ وَائِلٍ، وَأَضْرَابُهُمْ يَقُولُونَ: إِنْ أَسْلَمْنَا اليومَ، وَقَدْ أَسْلَمَ قَبْلَنَا عبيدُنا: كَعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ، وَصُهَيْبٍ، وَبِلَالٍ، كُنَّا لَهُمْ تَبَعًا وَتَرَفَّعُوا عَلَيْنَا إِدْلَالًا بِسَابِقَةِ الإيمانِ. وَهَذَا كَقَوْلِ كُبَراءِ قَوْمِ نُوحٍ لَمَّا قَالُوا لِنَبِيِّهِمْ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ: لَا نُؤْمِنُ حَتَّى تَطْرُدَ الَّذِينَ آمَنُوا بِكَ، فَقَالَ لهُمْ كَمَا جاءَ فِي الآيَتيْنِ: (29 و 30)، مِنْ سُورَةِ هُودٍ: {وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ}.
وَفِي الْآيَتَيْنِ: (52 و 53)، مِنْ سُورَةِ الْأَنْعَامِ، قَالَ اللهُ ـ تَعَالَى، لِحضْرَةِ نَبِيِّنَا ـ عَلَيْهِ وَآلِهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ * وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ}.
قوْلُهُ: {أَتَصْبِرُونَ} اسْتِفْهَامٌ مَعْنًاهُ الْحَثُّ وَالْأَمْرُ، يَعْنِي أَمْ لَا تَصْبِرُونَ. فَهُوَ كَقَوْلِهِ ـ تَعَالَى، مِنْ سُورَةِ الْمَائدَةِ: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} الْآيةَ: (91). أَيِ: انْتَهُوا، فَهُوَ أَمْرٌ لِلنَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِالصَّبْرِ، فَمَنْ حَالَفَهُ التَّوْفِيقُ مِنَ اللهِ، صَبَرَ وَشَكَرَ، وَمَنْ كانَ حَظُّهُ الضَّلالُ وَالْخِذْلَانُ، أَبَى وَجَحَدَ وَكَفَرَ.
والْمُعادِلُ لِـ: "أَتَصْبِرُونَ" مَحْذُوفٌ، أَيْ: أَمْ لَا تَصْبِرُونَ. وَجَوَابُ هَذا الاسْتِفْهَامِ مَحْذُوفٌ، فَيَقْتَضِي جَوَابًا مُنَاسِبًا، كَمَا قَالَ أَحَدُهُمْ، وَقَدْ أَخْرَجَتْهُ الْفَاقَةُ، فَرَأَى خَصِيًّا فِي مَرَاكِبَ وَمَنَاكِبَ، فَخَطَرَ بِبَالِهِ شَيْءٌ، فَسَمِعَ مَنْ يَقْرَأُ هَذِهِ الْآيَةَ: إِلَى قَوْلِهِ ـ تَعَالَى: "أَتَصْبِرُونَ"؟ فَقَالَ: بَلَى رَبَّنَا! نَصْبِرُ وَنَحْتَسِبُ.
رُوِيَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ، أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقولُ: ((وَيْلٌ لِلْعَالِمِ مِنَ الْجَاهِلِ، وَوَيْلٌ لِلْجَاهِلِ مِنَ الْعَالِمِ، وَوَيْلٌ لِلْمَالِكِ مِنَ الْمَمْلُوكِ، وَوَيْلٌ لِلْمَمْلُوكِ مِنَ الْمَالِكِ، وَوَيْلٌ لِلشَّدِيدِ مِنَ الضَّعِيفِ، وَوَيْلٌ لِلضَّعِيفِ مِنَ الشَّدِيدِ، وَوَيْلٌ لِلسُّلْطَانِ مِنَ الرَّعِيَّةِ، وَوَيْلٌ لِلرَّعِيَّةِ مِنَ السُّلْطَانِ، وَبَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةٌ، وَهُوَ قَوْلُهُ ـ تعالى: "وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ")). أَخرجَهُ الثَّعْلَبِيُّ رَحِمَهُ اللهُ، فِي تَفْسِيرِهِ: (الكَشْفُ وَالْبَيَانُ عَنْ تَفْسيرِ الْقُرْآنِ): (7/257).
قوْلُهُ: {وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا} أَيْ: بَصِيرٌ بِكُلِّ امْرِئٍ. مَنْ يَصْبِرُ وَمَنْ يَجْزَعُ، وَمَنْ يُؤْمِنُ وَمَنْ يَكْفُرْ، وَبصيرٌ بِمَنْ أَدَّى مَا عَلَيْهِ للهِ ـ تَعَالَى، مِنَ العبودِيَّةِ الْحَقَّةِ، وَمَنْ لَا يُؤَدِّي.
وفيهِ تَسْلِيَةٌ لِلنَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذْ أَعْرَضَ عنهُ وعَنْ رِسالتِهِ بَعْضُ قَوْمِهِ، وَمَوْقِعُ هَذِهِ الجملةِ مَوْقِعُ الْحَثِّ عَلَى الصَّبْرِ الْمَأْمُورِ بِهِ، أَيْ: هُوَ عَلِيمٌ بِالصَّابِرِينَ، وَفي هَذا إِيذَانٌ بِأَنَّ اللَّهَ لَا يُضَيِّعُ جَزَاءَ الرَّسُولِ عَلَى مَا يُلَاقِيهِ مِنْ قَوْمِهِ وَأَنَّهُ نَاصِرُهُ عَلَيْهِمْ.
وبعْدُ فَهَذِهِ الآيَةُ أَصْلٌ فَي الأَخْذِ بالْأَسْبَابِ في طَلَبِ الْمَعَاشِ، مِنْ تِجَارَةٍ وَصِنَاعَةٍ وزراعةٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وإِنَّما بُعِثَ الْأَنْبِيَاءَ ـ عَلَيْهِمُ الصَّلاةُ وَالسَّلَامُ، لِيَسُنُّوا الْأَسْبَابَ، وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ عَنْ أَصْفِيَائِهِ وَرُسُلِهِ وَأَنْبِيَائِهِ بِأَنَّهُمْ أخذوا بالْأَسْبَابِ فِي طَلَبِ الرِّزْقِ فَقَالَ مِنْ سُورَةِ الأَنْبياءِ: {وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ} الآيةَ: (80). وَقَالَ هُنَا فِي هَذِهِ الآيَةِ الْمُبارَكَةِ: "وَمَا أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ"، قَالَ الْعُلَمَاءُ: أَيْ يَتَّجِرُونَ وَيَحْتَرِفُونَ. وَقَالَ تَعَالَى: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالًا طَيِّبًا} الآيةَ: (69) مِنْ سُورَةِ الْأَنْفَالِ، وَقَالَ ـ عَلَيْهِ وَآلِهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: ((جُعِلَ رِزْقِي تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي)). فقد أخْرَجَ الإمامُ أَحمدُ وَغيرُهُ مِنْ حديثِ ابْنِ عُمَرَ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُما، أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((بُعِثْتُ بَيْنَ يَدَيْ السَّاعَةِ بِالسَّيْفِ حَتَّى يُعْبَدَ اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَجُعِلَ رِزْقِي تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي وَجُعِلَ الذِّلَّةُ وَالصَّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِي وَمَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ)). مُسْنَدُ أَحمدَ: (2/50، رقم: 5114)، والْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ: (1/375)، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الإِيمانِ: (2/75، رقم: 1199)، وَالطَّبَرَانِيُّ كَمَا جاءَ فِي مَجْمَعِ الزَّوَائِدِ لابْنِ حَجَرٍ الْهَيْثَمِيِّ: (5/267)، وَأَخْرَجَهُ الطَّبرانيُّ في مُسْنَدِ الشَّامِيينَ أَيْضًا: (1/135، برقم: 216)، وَأخْرَجَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ: (صَ: 267، رقم: 848)، وَابْنُ أَبي شَيْبَةَ: (6/471، رقم: 33016). وَكَانَ الصَّحَابَةُ ـ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُمْ، يَتَّجِرُونَ، وَيَعْمَلُونَ في الحُرَفِ والزِّراعَةِ وتَرْبيةِ الماشِيَةِ، وغَيْرِهَا مِنْ سُبِلٍ مَشروعةٍ للكَسْبِ الْحَلَالِ، وَيُقاتلونِ مَنْ خَالَفَهُمْ مِنَ الْكُفَّارِ والمُشْرِكينَ، وَبِهِمُ اقْتَدَى مَنْ جاءَ بعدَهمْ مِنَ الخَلَفِ الصَّالِحُ.
وَأَمَّا أَصْحَابُ الصُّفَّةِ فَإِنَّهُمْ كَانُوا ضُيُوفَ الْإِسْلَامِ عِنْدَ ضِيقِ الْحَالِ، والمُتفرِّغينَ لِلْعِلْمِ يَحْفَظُونَ كتابَ اللهِ وحديثَ الرَّسولِ ـ صلَّى اللهُ علَيْهِ وسلَّمَ، فَكَانَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذَا أَتَتْهُ صَدَقَةٌ خَصَّهُمْ بِهَا، وَإِذَا أَتَتْهُ هَدِيَّةٌ أَكَلَهَا مَعَهُمْ، وَكَانُوا مَعَ هَذَا يَحْتَطِبُونَ وَيَسُوقُونَ الْمَاءَ إِلَى بُيُوتِ الرَّسُولِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. كَما جَاءَ في صَحيحِ الإِمَامِ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرِهِ. فلمَّا انْتَقَلَ إلى الرَّفيقِ الأَعْلَى انْطَلَقُوا مُجاهدينَ في سبيلِ اللهِ، ناشرينَ لِدينِهِ، يُعَلِّمُونَ الْنَّاسَ أُمورَ دينِهِمْ. آخذينَ بِالْأَسْبَابِ في كَسْبِ الْعَيْشِ.
وأَمَّا قَولُهُ ـ تَعَالَى، في الآيةِ: (22) مِنْ سُورَةِ الذَّارياتِ: {وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ} فَإِنَّ الرِّزْقَ هو الْمَطَرُ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ التَّأْوِيلِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ ـ تَعَالى، مِنْ سُورَةِ غافر: {وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقًا} الآيةَ: (13)، وَقَولِهِ مِنْ سُورَةِ (ق): {وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ مَاءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ} الآيةَ: (9)، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ ـ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلَامُ: ((اطْلُبُوا الرِّزْقَ فِي خَبَايَا الْأَرْضِ)) رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى في مُسْنَدِهِ: (7/347) عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ عروةَ بْنِ الزُّبيرِ بْنِ العَوَّامِ، عَنِ السَّيِّدَةِ عَائِشَةَ أُمِّ المُؤمنينَ ـ رَضِيَ اللهُ تعالى عَنها وَعنهمْ مَعَها، وَرَوَاهُ الطَّبَرانِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ وَفِي سَنَدِه ضَعِيفٌ. ومَعناهُ اطلُبوا الرِّزْقَ في خَبايَا الْأَرْضِ بِالْحَرْثِ وَالْحَفْرِ وَالْغَرْسِ. وَقَدْ سُمِّيَ الْمَطَرُ رِزْقًا لِأَنَّهُ عَنْهُ يَكُونُ الرِّزْقُ، وَذَلِكَ مَشْهُورٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ. وَقَالَ ـ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلَامُ، فيما أخرجَهُ الْأَئِمَّةُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ـ رضيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: ((وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ، لأَنْ يَأْخَذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ فَيَحْتَطِبَ عَلَى ظَهْرِهِ ، خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَأْتِيَ رَجُلاً أَعْطَاهُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ فَيَسْأَلَهُ أَعْطَاهُ أَوْ مَنَعَهُ)). ـ وفي رواية : ((لَأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ فَيَحْتَطِبَ عَلَى ظَهْرِهِ ، فَيَبِيعَهُ فَيَأْكُلَهُ وَيَتَصَدَّقَ بِهِ، خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَأْتِيَ رَجُلاً قَدْ أَغْنَاهُ اللهُ فَسَأَلَهُ أَعْطَاهُ أَوْ مَنَعَهُ ذَلِكَ، فَإِنَّ الْيَدَ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى)). أَخْرَجَهُ مَالِكٌ في "الْمُوَطَّأِ" (617)، والْحُمَيْدِيُّ: (1057)، وَ "أَحْمَدُ" في المُسْنَدِ: (2/243، برقم: 7315)، وَ "الْبُخارِيُّ" في الصَّحيحِ: (برقم: 1470)، ومُسْلمٌ في الصَّحيحِ: (3/94، 1042). وَ "النَّسائيُّ": (5/96)، وفي "الكُبْرَى": (2381) وَهَذَا فِيمَا خَرَجَ مِنْ غَيْرِ تَعَبٍ مِنَ الْحَشِيشِ وَالْحَطَبِ. وَلَوْ قُدِّرَ رَجُلٌ بِالْجِبَالِ مُنْقَطِعًا عَنِ النَّاسِ لَمَا كَانَ لَهُ بُدٌّ مِنَ الْخُرُوجِ إِلَى مَا تُخْرِجُهُ الْآكَامُ وَظُهُورُ الْأَعْلَامِ حَتَّى يَتَنَاوَلَ مِنْ ذَلِكَ ما يعيش بِهِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: ((لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَوَكَّلُونَ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرُزِقْتُمْ كَمَا تُرْزَقُ الطَّيْرُ تَغْدُو خِمَاصًا وَتَرُوحُ بِطَانًا)) أَخْرَجَهُ الأئمَّةُ: أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ: (1/30، برقم: 205)، وَفِي: (1/52، برقم: 370)، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ: (يرقم: 10)، وابْنُ مَاجَةَ: (برقم: 4164) والتِّرمِذي: (2344) وقال: حَسَنٌ صَحيح، والنَّسائي في "الكبرى" وفي تحفة الأشراف للمِزِّيِّ: (8/10586)، وابْنُ حِبَّانَ في "صَحِيحِهِ" ِبَرقم: (730)، والحاكِمُ في "الْمُسْتَدْرَكِ": (4/318)، فَإِنَّ غُدُوَّهَا وَرَوَاحَهَا هو سَبَبٌ لرزقها، فعلى المُؤْمِنِ أنْ يأخُذَ بالأسْباب معَ التَّوكُّلِ غلى الله ـ تَعَالى، وَالتَّوَكُّلُ هوَ اعْتِمَادُ الْقَلْبِ عَلَى الرَّبِّ فِي أَنْ يُلِمَّ شَعَثَهُ وَيَجْمَعَ عَلَيْهِ أَرَبَهُ، ثُمَّ يَتَنَاوَلُ الْأَسْبَابَ بِمُجَرَّدِ الْأَمْرِ بالأخْذِ بها..
وفي سَبَبِ نُزولِ هَذِهِ الآيةِ الكَريمَةِ، ذّكَرَ الإِمامُ الْوَاحِدِيُّ ـ رحمَهُ اللهُ تَعَالَى، فِي "أَسْبَابِ النُّزُولِ" لَهُ: (332)، بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، أَنَّهُ لَمَّا عَيَّرَ الْمُشْرِكِونَ سَيِّدَنا رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بالْفَقْرِ وَالْفَاقَةِ بِقَولِهِمْ: {مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ}، حَزِنَ رَسُولُ اللهِ ـ علَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، فَنَزَلَ جِبْريلُ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ مُعَزِّيًا لَهُ، فَقَالَ: السَّلامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ، رَبُّ الْعِزَّةِ يُقْرِئُكَ السَّلامُ، وَيَقُولُ لَكَ: "وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ".
وَقَالَ مُقَاتِلٌ: نَزَلَتْ فِي أَبى جَهْلِ ابْنِ هِشَامٍ، وَالْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَالْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ، وَعُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ، وَعُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، والنَّضْر بْنِ الحارِثِ، حِينَ رَأَوْا أَبَا ذَرٍّ، وَعَبْدَ اللَّهِ ابْنَ مَسْعُودٍ، وَعَمَّارًا، وَبِلَالًا، وَصُهَيْبًا، وَعَامِرَ بْنَ فُهَيْرَةَ، وَسَالِمًا مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ، وَمَهْجَعًا مَوْلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَجَبْرًا مَوْلَى الْحَضْرَمِيِّ، وَذَوِيهِمْ، فَقَالُوا عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِهْزَاءِ: أَنُسْلِمُ فَنَكُونُ مِثْلَ هَؤُلَاءِ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى يُخَاطِبُ هَؤُلَاءِ الْمُؤْمِنِينَ: "أَتَصْبِرُونَ" عَلَى مَا تَرَوْنَ مِنْ هَذِهِ الْحَالِ الشَّدِيدَةِ وَالْفَقْرِ. فَالتَّوْقِيفُ بِـ "أَتَصْبِرُونَ" خَاصٌّ للمُؤْمنينَ الْمُحَقِّقينَ مِنْ أُمَّةِ سيِّدِنا مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. كَأَنَّهُ جَعَلَ إِمْهَالَ الْكُفَّارِ وَالتَّوْسِعَةَ عَلَيْهِمْ فِتْنَةً لِلْمُؤْمِنِينَ، أَيِ اخْتِبَارًا لَهُمْ. وَلَمَّا صَبَرَ الْمُسْلِمُونَ أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ: {إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا}
قوْلُهُ تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} الواوُ: اسْتِئْنَافِيَّةٌ. و "ما" نافِيَةٌ. وَ "أَرْسَلْنَا" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيُّ على السُّكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رَفعٍ متحَرِّكٍ هوَ "نا" المُعظِّمِ نفْسَهُ ـ سُبْحانَهُ، و "نا" التَّعْظيمِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالفَاعِلِيَّةِ. و "قَبْلَكَ" مَنْصوبٌ غلى الظَّرْفِيَّةِ الزَّمانيَّةِ مُتَعَلِّقٌ بِـ "أَرْسَلْنَا"، مُضافٌ، وكافُ الخطابِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِ بالإضافةِ إِلَيْهِ. و "مِنَ" حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "أَرْسَلْنَا" أَيْضًا، أَوْ يتعلَّقُ بِمَحْذوفِ صِفَةٍ لِمَفْعُولٍ بِهِ مَحْذوفٍ، تَقْديرُهُ: أَحَدًا مِنَ الْمُرْسَلِينَ، وَ " الْمُرْسَلِينَ" مجرورٌ بحرْفِ الجَرِّ، وعلامةُ جَرِّهِ الياءُ لأنَّهُ جمعُ المُذَكَّرِ السَّالمُ، وَالْجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هذِهِ مُسْتَأْنَفةٌ مَسُوقَةٌ لِتَسْلِيَةِ سيِّدِنا رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مِمَّا يُلَاقِيهِ مِنْ عِنَادِ مُشْركي قَوْمِهِ وتَعَنُّتِهِم وسُخْفِ أَحْلَامِهِمْ.  
قوْلُهُ: {إِلَّا} أَداةُ اسْتِثْنَاءٍ، وَالْمُسْتَثْنَى مَحْذوفٌ، والتَّقْديرٌ: إِلَّا رُسُلًا قِيلَ فِيهِمْ: إِنَّهُمْ لَآكلونَ الطَّعامَ، أَوْ إِنَّهم لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ ... إِلَخ، وإِنَّما حُذِفَ اكْتِفَاءُ بِالْجَارِّ وَالْمَجْرورِ، يَعْنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ ـ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، في الْآيَةَ: (164)، مِنْ سُورَةِ الصَّافَّاتِ: {وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ}، أَيْ: وَمَا مِنَّا أَحَدٌ إِلَّا ولَهُ مَقامٌ مَعْلومٌ. وُمَحَلُّ "رُسُلًا" الْمُقَدَّرُ أَعْلاهُ هُوَ النَّصْبُ عَلَى الِاسْتِثْناءِ. وَقِيلَ أَيْضًا: المُقدَّرُ محلُّهُ البِناءُ غلى الفتْحِ كَوْنَهُ فِعْلًا مَاضِيًا مُغَيَّرَ الصِّيغَةِ بالبناءِ عَلَى الْمَجْهولِ. وَفِيهِمْ: في: حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِالنائبِ عَنْ فَاعِلِهِ، وَجُمْلَةُ "قِيلَ" الفِعْلِيَّةِ الْمُقَدَّرةِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ عَلَى كَوْنِها صِفَةً لِـ "رُسُلًا"، وعلَيْهِ فالضَّميرُ في "إنهم» وَمَا بَعْدَهُ عَائدٌ عَلَى هَذَا الْمَوْصوفِ الْمَحْذوفِ.  
وَذَهَبَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الأَنْبَارِيُّ، وَأَبُو الْبَقَاءِ الغُكْبُريُّ إِلَى أَنَّ مَحَلَّهَا النَّصْبُ عَلَى الْحَالِ، وَقَدَّرَاهُ ـ بِـ: (إِلَّا وَإِنَّهُمْ)، يَعْنِيَانِ أَنَّ الجُمْلَةَ حَالِيَةٌ، فَقَدَّرا مَعَهَا الْوَاوَ بَيَانًا لِلْحَالِيَةِ. وَقدْ رُدَّ هَذَا بِكَوْنِ مَا بَعْدَ "إِلَّا" صِفَةٌ لِمَا قَبْلَهَا. وَذهَبَ الْفَرَّاءُ إِلى أَنَّها لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ، وَإِنَّمَا هِيَ صِلَةٌ لِمَوْصُولٍ مَحْذوفٍ هُوَ الْمَفْعُولُ لِـ "أَرْسَلْنا"، والتَّقْديرُ: إِلَّا مَنْ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ ... وعَلَيْهِ فَالضَّمِيرُ فِي: "إِنَّهُمْ" وَمَا بَعْدَهُ عائدٌ عَلَى مَعْنَى "مَنْ" الْمُقَدَّرَةِ. وَهُوَ مَرْدُودٌ ـ أَيْضًا بِأَنَّ حَذْفَ الْمَوْصُولِ لَا يَجُوزُ إِلَّا في مَوَاضِعَ بَيَّنَهَا عُلَمَاءُ النَّحْوِ.
قولُهُ: {إِنَّهُمْ} إِنَّ: حَرْفٌ ناصِبٌ، ناسِخٌ، مُشَبَّهٌ بالفِعْلِ للتوكيدِ، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ النَّصْبِ عَلَى كَوْنِهِ اسْمَهَا، أَمَّا خَبَرُها فهوَ جُمْلَةُ "لَيَأْكُلُونَ" وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مِنْ "إِنَّ" واسْمِها وَخَبَرِها فِي مَحَلِّ النَّصْبِ على كونِها مَقُولَ القَوْلِ الْمَحْذوفِ الَّذي تقدَّمَ تَقْديرُهُ. وَالْمِيمُ: للجَمْعِ الْمُذَكَّرِ. وَقَدْ كُسِرَتْ هَمْزَةُ "إِنَّ" لِدُخُولِ اللَّامِ عَلَى خَبَرِها.
قوْلُهُ: {لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ} اللامُ: حَرْفُ ابْتِدَاءٍ زُحْلِقَتْ إِلَى الْخَبَرِ. و "يَأْكُلُونَ" فِعْلٌ مُضارعٌ مَرْفوعٌ لتَجَرُّدِهِ مِنَ النّاصِبِ والجازِمِ، وعلامَةُ رَفْعِهِ الواوُ لأَنَّهُ مِنَ الأَفْعَالِ الخَمْسَةِ، وَواوُ الجَماعَةِ هَذِه ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ على الفاعِلِيَّةِ. و "الطَّعَامَ" مَفْعُولُهُ مَنْصوبٌ بِهِ. وَالْجُمْلَةُ الْفِعْلِيَّةُ هَذِهِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ خَبَرُ "إِنَّ".
قوْلُهُ: {وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ} الوَاوُ: للعَطْفِ، و "يَمْشُونَ" مِثْل "يَأْكُلونَ" مَعْطُوفٌ عَلَيْهِ ولَهُ مِثْلُ إِعْرابِهِ. وَ "فِي" حرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "يَمْشُونَ". وَ "الْأَسْوَاقِ" مَجْرورٌ بِحَرْفِ الجَرِّ وَالْجُمْلَةُ الفعْلِيَّةُ هَذِهِ مَعطوفةٌ على جُمْلَةِ "يأكلونَ" ولها مَا لَهَا مِنْ إِعْرابٍ.
قوْلُهُ: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً} الوَاوُ: استِئنافيَّةٌ، أَوْ عاطِفةٌ، وَ "جَعَلْنَا" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيُّ على السُّكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رَفعٍ متحَرِّكٍ هوَ "نا" المُعظِّمِ نفْسَهُ ـ سُبْحانَهُ، و "نا" التَّعْظيمِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالفَاعِلِيَّةِ. وَ "بَعْضَكُمْ" مَفْعُولُهُ الأَوَّلُ مَنْصوبٌ بِهِ، وعوَ مُضافٌ، وكافُ الخِطابِ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بالإِضافَةِ إلَيْهِ، والْمِيمُ لِتَذْكيرِ الْجَمْعِ. وَ "لِبَعْضٍ" اللامُ: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِحَالٍ مِنْ "فِتْنَةً"؛ لِأَنَّهُ كَانَ فِي الْأَصْلِ صِفَةً لِـ "فِتْنَةً" قُدِّمَتْ عَلَيْهَا، ومِثْلُهُ قَوْلُ "كُثَيِّرِ عَزَّةَ" مِنْ مَجْزوءِ الْوَافِرِ:
لِعَزَّةَ مُوحِشًا طَلَلُ .......................................... يَلوحُ كَأنَّهُ خَلَلُ
أَصْلُهُ لِعَزَّةَ طَلَلٌ مُوحِشٌ.
وَ "فِتْنَةً" مَفْعُولُهُ الثاني مَنْصُوبٌ بِهِ. وَالْجُمْلَةُ الْفِعْلِيَّةُ هَذِهِ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ قَوْلِهِ: "وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ"، أَوْ مُسْتَأْنَفَةٌ مَسُوقَةٌ لَتَسْلِيَّةِ قلبِ سَيِّدنا رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسلَّمُ، لا مَحَلَّ لها مِنَ الإِعْرابِ.
قوْلُهُ: {أَتَصْبِرُونَ} الْهَمْزَةُ: لِلِاسْتِفْهَامِ التَّقْريرِيِّ الذي يَتَضَمِّنُ الحَثَّ عَلَى الصَّبْرِ. وَ "تَصْبِرُونَ" فِعْلٌ مُضارعٌ مَرْفوعٌ لتَجَرُّدِهِ مِنَ النّاصِبِ والجازِمِ، وعلامَةُ رَفْعِهِ الواوُ لأَنَّهُ مِنَ الأَفْعَالِ الخَمْسَةِ، وَواوُ الجَماعَةِ هَذِه ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ. وَالْجُمْلَةُ الْفِعْلِيَّةُ هَذِهَ إِنْشائِيَّةٌ لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ؛ لِأَنَّها بِمَعْنَى "اصْبِرُوا"، فَهِيَ كَقَوْلِهِ ـ تَعَالَى، مِنْ سُورةِ آلِ عِمْرَانً: {أَأَسْلَمْتُمْ} الآيَةَ: (20) فَإِنَّ مَعْنَاهُ: "أَسْلِمُوا".
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مَوْقِعُهُا بَعْدَ الْفِتنَةِ مَوْقِعُ "أَيُّكم" بَعْدَ الِابْتِلاءِ فِي قَوْلِهِ ، تعالى مِنْ سورةِ المُلْكِ: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} الآيةَ: (2)، أَيْ: أَنَّها مُعَلَّقَةٌ لِمَا فِيهَا مِنْ مَعْنَى فِعْلِ الْقَلْبِ، وَبناءً عَلَيْهِ فَتَكُونُ مَنْصُوبَةَ الْمَحَلِّ فهوَ نَصْبٌ عَلَى إِسْقاطِ الْخَافِضِ.
قوْلُهُ: {وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا} الواوُ: استئنافية أَوْ عاطفة. و "كان" فعلٌ ماضٍ ناقصٌ مَبْنيٌّ على الفتحِ. و "رَبُّكَ" اسمُها مَرْفُوعٌ بِهَا مُضافٌ، وكافُ الخِطابِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِه في مَحَلِّ الجَرِّ بالإِضافةِ إلَيْهِ. وَ "بَصِيرًا" خَبَرُ "كان" مَنْصوبٌ بها. وَالْجُمْلَةُ مِنَ "كان" زاسْمِها وخبَرِها مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ "وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ" أَوْ مُسْتَأْنَفَةٌ مَسُوقَةٌ لِتَعْلِيلِ مَا قَبْلَهَا لا مَحَلَّ لها مِنَ الإِعْرابِ.
قَرَأَ الْعامَّةُ: {إنَّ} بكَسْرِ الهمزةِ لِوُجُودِ اللَّامِ فِي خَبَرِهَا، وَلِكَوْنِ الْجُمْلَةِ حالًا عَلَى الأَرْجَحِ. قَالَ أَبُو العُكْبُريُّ: وَقِيلَ: لَوْ لَمْ تَكُنِ الْلَّامُ لَكُسِرَتْ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْجُمْلَةَ حَالِيَّةٌ، إِذْ الْمَعْنَى: إِلَّا وَهُمْ يَأْكُلُونَ. وقُرِئَ "أَنَّهم" بِفَتْحِها عَلَى أَنَّ اللَّامَ زائدَةٌ، وَ "أَنْ" مَصْدَرِيَّةٌ. والتَّقْديرُ: إِلَّا لِأَنَّهُمْ. أَيْ: مَا جَعَلْناهُمْ رُسُلًا إِلَى النَّاسِ إِلَّا لِكَوْنِهِمْ مِثْلَهُمْ.
قَرَأَ الْعامَّةُ: {يَمْشُوْن} خَفيفةً. وقرَأَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنينَ عَلِيُّ بْنُ أَبي طَالِبٌ، وَعَبْدُ اللهِ ابْنُ مَسْعودٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما: "يُمَشَّوْن" بتشْديدِ الشِّينِ بالُبِناءِ للمَفْعُولِ. أَيْ: تُمَشِّيهِمَ حوائجُهم أَو النَّاسُ. وَقَرَأَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ "يُمَشُّونَ" بالتَّشْديدِ والبِناءِ للْفاعِلِ، وَهِيَ بِمَعْنَى "يَمْشُون". قَالَ الشَّاعِرُ الْعَلَاءُ ابْنُ حُذَيْفَةَ الْغَنَوَيُّ:
وَمَشَّى بِأَعْطَانِ المِيَاهِ وابْتَغَى ..................... قَلاَئِصَ مِنْهَا صَعْبَةٌ وَرَكُوبُ
قال الزمخشريُّ: وَلَوْ قُرِئ "يُمَشُّون" لَكَانَ أَوْجَهَ، لَولَا الروايةُ. يَعْني بِالتَّشْديد. وكأَنَّ قِرَاءةَ السُّلَمِيِّ لم تصلْهُ، وَاللهُ أعلمُ.
بحمد اللهِ وعونِهِ ومِنَّتِهِ تمَّ الجِزْءُ الثامن عشرَـ ويليهِ الجِزءُ التاسع عَشَرَ إنْ شاء اللهُ ـ تَعالى.

عبد القادر الأسود يعجبه هذا الموضوع

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
الموسوسوعة القرآنية، الجزء الثامن عشر، سورة الفرقان: الآية: 20
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» الموسوسوعة القرآنية، الجزء الثامن عشر، سورة الفرقان: الآية: 17
» الموسوسوعة القرآنية، الجزء الثامن عشر، سورة الفرقان: الآية: 1
» الموسوسوعة القرآنية، الجزء الثامن عشر، سورة الفرقان: الآية: 19
» الموسوسوعة القرآنية، الجزء الثامن عشر، سورة الفرقان: الآية: 2
» الموسوسوعة القرآنية، الجزء الثامن عشر، سورة الفرقان: الآية: 3

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
روضة الشاعر عبد القادر الأسود :: ...:: الروضة الروحانية ::... :: روضة الذكر الحكيم-
انتقل الى: