وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا
(3)
قولُهُ ـ تَعَالَى شأْنُهُ: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً} يَعودُ هَذَا الضَّمِيرُ (واوُ الجماعةِ) لِلْكُفَّارِ، فَإِنَّ الْمُرَادَ بِهِ عَبَدَةُ الْأَصْنَامِ، وَيشْمَلُ كُلُّ مَنِ ادَّعَى إِلَهًا غَيْرَ اللَّهِ، وَيَدْخُلُ فِيهِ مَنْ عَبَدَ الْمَلَائِكَةَ، لِأَنَّ "اتَّخَذُوا" جَمْعٌ، وَ "آلِهَةً" جَمْعٌ، وَإِذَا قُوبِلَ الْجَمْعُ بِالْجَمْعِ تَقَابَلَ الْفَرْدُ بِالْفَرْدِ أَيْضًا. أَمَّا هَاءُ الضَّمِيرِ في قَوْلِهِ "مِنْ دُونِهِ" فَإِنَّهُ يَعُودُ عَلَى الْحَقِّ ـ تَبَارَكَ وَتَعَالى.
فَالمَقصودُ بِهَذا الخبَرِ التَّعْجِيبِ مِنْ حَال ِهؤلاءِ اللمُشْرِكينَ كَيْفَ قَابَلُوا بِالْجُحودِ وَالطُّغْيَانِ نِعْمَةَ إِنْزَالِ اللهِ ـ تَعَالَى، الْفُرْقَانَ عَلَى نَبِيِّهِمْ مُحَمَّدٍ ـ عليْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، بِمَا فِيهِ نَفْعُهُم وفلاحُهُمْ، وَكَيْفَ أَشْرَكُوا بِاللهِ مَوْلَاهُمْ ـ الَّذِي تِلْكَ صِفَاتُهُ، آلِهَةً أُخْرَى صِفَاتُهُمْ عَلَى النَّقيضِ مِنْ صِفَاتِ مَنْ أَشْرَكُوهُمْ معَهُ، وَإِلَّا فَإِنَّ اتِّخَاذَ الْمُشْرِكِينَ آلِهَةً أَمْرٌ مَعْلُومٌ لَهُمْ كَمَا أَنَّهُ مَعْلُومٌ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَلَيْسَ الْمَقْصَودُ بِهذهِ الْجُمْلَةِ الْإخْبَارَ غنهم وَعَنْ حالهم.
قولُهُ: {لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} أَيْ: لَا يَقْدِرُوْنَ عَلَى التَّقْديرِ والنَّفعِ والضَّرَرِ، كَمَا بَيَّناهُ في تَفْسِيرِ الآيَةِ الَّتي قَبْلَها، مِنْ أَنَّ "خَلَقَ" يَأْتِي فِي لُغَةِ الْعَرَبِ بِمَعْنَى "قَدَّرَ". أَمَّا "خلَقَ" بمعنى أَوْجَدَ مِنَ الْعَدَمِ عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ سَابِقٍ فَلَمْ يُوْصَفْ بِهِ أَحَدٌ غَيْرُ الْبَارئِ الْمُصَوِّرِ ـ سُبْحانَهُ وَتَعَالَى، ولَمْ يقُلْ بِهِ أَحَدٌ، وَلَا ادَّعَاهُ أَحَدٌ.
وَضَمِيرُ الْفَاعِلِ في "يَخْلُقونَ" يَعُودُ إلى مَا اتُّخِذَ آلِهَةً مِنْ دونِ اللهِ، وهوَ صِفَةٌ لَها. وَقَدْ غُلِّبَ الْعُقَلَاءَ عَلَى غَيْرَهِمْ في هذا اللَّفْظِ حِينَ جِيءَ بِالْوَاوِ ـ الَّذي هُوَ ضَمِيرٌ لِجَمَاعَةِ العُقَلاءِ؛ لِأَنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا يَعْبُدونَ الْعُقَلَاءَ كَ "عُزَيْرٍ"، وَ "الْمَسِيحِ" ـ عَلَيْهِمَا السَّلامُ، كَمَا عُبِدَتِ الْمَلَائِكَةُ، وَالْكَوَاكِبُ كَ "الشَّمْسِ"، وَالنَّارُ الَّتِي عَبَدَها الْمَجُوسُ، وَالْأَصْنَامُ، وَغَيْرُ ذَلِكِ مِنَ الْمُتَعَاظِمِينَ وَالْمُتَسَلِّطِينَ، ومَنِ ادَّعَى الْأُلُوهِيَّةَ مِنَ البَشَرِ، وَكُلِّ مَنْ أُطِيعَ مِنْهُمْ في مَعْصِيَةِ اللهِ ـ جَلَّ وعَلَا.
قولُهُ: {وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا} الضُّرُّ ـ بِفَتْحِ الضَّادِ، مَصْدَرُ ضَرَّ فلانٌ فُلانًا أَو ضَرَّهُ الشَّيءُ: إِذَا أَصَابَهُ بِمَكْرُوهٍ. وَكَقَوْلِهِ ـ تَعَالَى، في الآيةِ: (49) مِنْ سورةِ يونُسَ ـ عليهِ السَّلامُ: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ}. فإنَّ هَؤُلَاءِ جِميعًا ـ سَوَاءٌ مَنِ ادَّعَى مِنْهُمُ التَّقْديرَ والتغييرَ، وَالتَّسَلُّطَ والتَّصَرُّفِ النَّفعَ والضَّرَرِ، مِنْ نَفْسِهِ وبإِرادتهِ، وَمَنْ لَمْ يدَّعِهِ، عَاجِزونَ عَنْ امْتِلَاكِ المقدِرَةِ علَيْهِ فيما يخُصُّ أنْفُسَهُمْ، فَضْلًا عَنِ التَّحَكُّمِ بِذَلِكَ فيما يخُصُّ غيرَهمْ.
وَقد جَرَى قولُهُ هَهُنَا: "ضَرًّا وَلا نَفْعًا" مَجْرَى الْمَثَلِ كَمَا تَقولُ: "شَرْقًا وَغَرْبًا"، وَ "لَيْلًا وَنَهَارًا"، وَذَلِكَ لِلْإِحَاطَةِ بِجَميعِ الْأَحْوَالِ، فَكَأَنَّما قِيلَ: لَا يَمْلِكُونَ التَّصَرُّفَ بِحَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ.
قولُهُ: {وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا} ولا يَسْتَطِيعُونَ وليسَ بِيَدِهِمْ أَنْ يُمِيتُوا أَحَدًا لَمْ يقضِ اللهُ بِمَوْتِهِ في تِلْكَ اللَّحْظَةِ، أَوْ يَرُدُّوا الْحَياةَ لِمَنْ قَضَى اللهُ بِمَوْتِهِ، بَدَلِيلِ أَنَّهُمْ يَمُوتُونَ رَغْمَ أُنُوفِهِمْ، فَلَا يَسْتَطِيعُونَ إِبْعَادَ الْمَوْتِ عَنْهُمْ أَوْ مَنْحَ أَنْفُسِهِمُ الْحَيَاةَ، وَيَمْرَضُونَ كَمَا يَمْرَضُ غَيْرُهُمْ، وتُسَلَّطُ عَلَيْهمُ الشُّرورُ والأَوْبِئَةُ والْمَصائِبُ والْأَسْقَامُ، فَلَا يَسْتَطِيعُونَ دَفْعَها وَلَا شَيئًا مِنْهَا عَنْ أَنفُسِهِمْ.
قوْلُهُ تَعَالَى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً} الوَاوُ: للاستِئناف، و "اتَّخَذُوا" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ على الضَّمِّ لاتِّصالِهِ بواوِ الجماعةِ، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ، مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالفَاعِلِيَّةِ، والأَلفُ للتَّفريقِ. وَهَذا الضَّمِيرُ عائدٌ عَلَى المُشْركينَ الَّذينَ يَضُمُّهُمْ لَفْظُ {الْعَالَمِينَ}، وَيَجوزُ أَنْ يَعُودَ عَلَى مَنِ ادَّعَى أَنَّ للهِ شَريكًا وَوَلَدًا بِدِلَاَلةِ قَوْلِهِ: {وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي المُلْكِ}، كَما يَجوزُ أَنْ يَعُودَ عَلَى الْمُنْذَرَينَ بِدَلَالَةِ {نذيرًا} عَلَيْهِمْ جَمِيعًا. وَ "مِنْ: حَرْفُ جَرٍّ مُتعِلِّقٌ بِالْمَفُعُولِ الثانِي لِـ "اتَّخَذُوا"، وَ "دُونِهِ" دونِ: مَجْرُورٌ بِحَرْفِ الْجَرِّ، مُضافٌ، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ. و "آلِهَةً" مَفْعُولُهُ الأَوَلُ مَنْصوبٌ بِهِ. وَالْجُمْلَةُ الفعليَّةُ هَذِهِ مُسْتَأْنَفَةٌ، مَسُوقَةٌ لِبَيَانِ مَا عَلَيْهِ الْمُشْرِكونَ مِنْ عِبَادِةِ الْأَصْنَامِ.
قولُهُ: {لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا} لَا: نافيَةٌ لا عمَلَ لها، و "يَخْلُقُونَ" فِعْلٌ مُضارعٌ مَرفوعٌ لتجرُّدِهِ عِنِ الناصِبِ والجازِمِ، وعلامةُ نَصْبِهِ ثبوتُ النُّونِ في آخِرِهِ لِأَنَّهُ مِنَ الأفعالِ الخمسةِ، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ، مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالفَاعِلِيَّةِ. و "شَيْئًا" مَفْعُولُهُ منصوبٌ بِهِ. وَالْجُمْلَةُ الفعلِيَّةُ هذهِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ على كونِها صِفَةً أُولَى لِـ "آلِهَةً".
قولُهُ: {وَهُمْ} الوَاوُ: للعَطْفِ، وَ "هُمْ" ضميرٌ مُنْفَصِلٌ مَبْنِيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ بالابتِداءِ وَخبرُهُ جُمْلَةُ "يُخْلَقُونَ". وهذِهِ الْجُمْلَةُ الِاسْمِيَّةُ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ، عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ قولِهِ: "لَا يَخْلُقُونَ" عَلَى كَوْنِهَا صِفَةً ثانيَةً لِـ "آلِهَةً".
قَوْلُهُ: {يُخْلَقُونَ} فِعْلٌ مُضارعٌ مُغَيَّرُ الصِّيغةِ، مَبْنِيٌّ للمَجهولِ، مَرْفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ النَّاصِبِ والجازِمِ، وَعَلَامةُ نَصْبِهِ ثُبُوتُ النُّونِ في آخِرِهِ لِأَنَّهُ مِنَ الأَفْعَالِ الْخَمْسَةِ، وَوَاوُ الْجَمَاعَةِ ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ، مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالنيابةِ عَنْ فَاعِلِهِ. والْجُمْلَةُ الْفِعْلِيَّةُ هذِهِ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ. وَمَعْنَى كَوْنِهِمْ مَخْلُوقينَ أَنَّ الْعابِدِينَ لهم يَنْحَتُونَهُمْ وَيُصَوِّرونَهُمْ، أَوْ أَنَّهم مِنْ جُمْلَةِ ما خَلَقهُ اللهُ ـ تَبَارَكَ وتَعَالَى.
قَوْلُهُ: {وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا} الوَاوُ: للعَطْفِ، و "لَا" نافيَةٌ لَا عَمَلَ لَهَا، وَ "يَمْلِكُونَ" فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَرْفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ النَّاصِبِ والْجازِمِ، وَعَلَاَمةُ نَصْبِهِ ثبُوتُ النُّونِ في آخِرِهِ لِأَنَّهُ مِنَ الْأَفْعَالِ الْخَمْسَةِ، وَوَاوُ الْجَمَاعَةِ ضَميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ، مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالفَاعِلِيَّةِ. و "لِأَنْفُسِهِمْ" الَّامُ: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "يَمْلِكُونَ"، وَ "أَنفُسِ" مَجْرورٌ بحَرْفِ الجَرِّ، وَ "هم" ضميرٌ مُنْفَصِلٌ مَبْنِيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ الجَرِّ بالإِضافةِ إلَيْهِ. و "ضَرًّا" مَفْعُولُهُ منصوبٌ بِهِ. و "وَلَا" الواوُ: للعَطْفِ، وَ "لا" نافيَةٌ لا عمَلَ لها. و "نَفْعًا" مَعْطوفٌ عَلَى "ضَرًّا" وَلَهُ مِثلُ إِعْرابِهِ. والجُمْلَةُ الفعلِبَّةُ هَذِهِ في مَحَلِّ النَّصْبِ عَطْفًا عَلَى جملةِ "يُخْلَقُونَ" عَلَى كَوْنِهَا صِفَةً ثَالِثَةً لِـ "آلِهةً".
قولُهُ: {وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا} الواوُ: للعَطْفِ، وَ "لا" نافيَةٌ لَا عمَلَ لَها. وَ "يَمْلِكُونَ" فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَرْفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ النَّاصِبِ والْجازِمِ، وَعَلَاَمةُ نَصْبِهِ ثبُوتُ النُّونِ في آخِرِهِ لِأَنَّهُ مِنَ الْأَفْعَالِ الْخَمْسَةِ، وَوَاوُ الْجَمَاعَةِ ضَميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ، مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالفَاعِلِيَّةِ. و "مَوْتًا" مَفْعُولُهُ منصوبٌ بِه. و "وَلَا" تقدَّمَ إعرابُهما، و "حَيَاةً" مَعْطُوفٌ عَلَى "مَوْتًا" ولهُ مِثْلُ إعْرابِهِ. و "وَلَا نُشُورًا} كقولِهِ "ولا مَوْتًا" مَعْطُوفٌ على "ولا مَوتًا" ولهُ مِثلُ إِعْرابِهِ. والجُمْلةُ الفعلِيَّةُ هَذِهِ مَعْطوفةٌ عَلَى جُمْلَةِ "يُخْلَقُونَ" عَلَى كَوْنِهَا صِفَةً رَابِعَةً لِـ "آلِهَةً" في مَحَلِّ النَّصْبِ.