[size=35]بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحيمِ[/size]
تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا
(1)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ} يُخْبِرُ اللَّهُ ـ تعالى، عَنْ عَظَمَتهِ تَعْلِيمًا لَنَا وَإِيقَاظًا لِهِمَمِنَا في التَّعَرُّفِ عَلَى كَمَالَاتِهِ، وَيُثْني عَلَى الحَّقُّ عَلى نَفْسِهِ المُقدَّسَةِ لِنَتَعَلَّمَ كَيفَ نُسَبِّحُهُ ونُثْني عَلَيْهِ، وَيَحْمَدُ ذاتَهُ الْعلِيَّةَ عَلَى مَا نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ الْكَرِيمِ مِنَ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، لِنَتَعَلَّمَ حَمْدَهُ عَلَى ذَلِكَ، كمَا قَالَ مِنْ سُورَةِ الإِسْرَاءِ: {سُبْحانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ ليلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الحرامِ إلى المَسْجِدِ الْأَقْصَى} الآيةَ: (1)، وَكَمَا قَالَ مِنْ سُورَةِ الْكَهْفِ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا * قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لهمْ أجْرًا حَسَنًا} الآيتانِ: (1 و 2)،
وَقَدْ عَرَفَ الْعَرَبُ إِنْشَاءِ التَّعَجُّبِ مِنْ صِفَاتِ الْمُتَكَلِّمِ فِي مَقَامِ الْعَظَمَةِ وَالْفَخْرِ، وَالْحَديثَ عَنْ غَرائِبَ ظَهَرَتْ، كَما قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:
وَيَوْمَ عَقَرْتُ لِلْعَذَارَى مَطِيَّتِي ..................... فِيَا عَجَبًا مِنْ كَوْرِهَا الْمُتَحَمِّلِ
فقد تَعَجَّبَ الشَّاعِرُ في هَذا الْبَيْتِ كيف أَنَّهُ جَعْلَ كَوْرَ نَاقَتِهِ يَحْمِلُهُ بَعْدَ أَنْ عَقَرَهَا. وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الْفِنْدِ الزِّمَّانِيِّ:
أَيَا طَعْنَةَ مَا شَيْخٍ ............................................... كَبِيرٍ يَفَنٍ بَالِي
يُرِيدُ طَعْنَةً طَعَنَهَا قِرْنَهُ.
وَ "تَبَارَكَ" هِيَ صِيغَةُ مُبالَغَةٍ مِنَ "الْبَرَكَةِ" عَلَى وَزْنِ "تَفَاعَلَ"، مِنَ الْبَرَكَةِ الَّتي هِيَ النَّمَاءُ وَالزِّيادَةُ وَكَثْرَةُ الْخَيْراتِ وَدَوَامُهَا، سَوَاءً أَكَانَتْ هَذِهِ الْبَرَكَةُ في الْمَجَالِ الْحِسِّيِّ أَوِ في الْمَجَالِ الْمَعْنَوِيِّ، بِاعْتِبَارِ مَا يُفِيضُهُ ـ عَزَّ وَجَلَّ، عَلَى مَخْلُوقاتِهِ مِنَ الْخَيْرَاتِ، لَا سيَّما ما يَجودُ بِهِ عَلَى الإِنْسَانِ. قالَ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمَا: "تَبَارَكَ": تَفَاعَلَ، مِنَ الْبَرَكَةِ. أَخْرَجَهُ عَنْهُ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ في تَفْسِيرِهِ: (6/69)، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَالَ: (10/246): وَرُوِيَ عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْغِفَارِيِّ نَحْوُ ذَلِكَ. وقالَهُ أَبو إسْحاقٍ الزَّجَّاجُ أَيْضًا. وانظُرْ تهذيبَ اللغةِ: (1/319).
وَقد رُوِيَ عَنِ الإمامِ الْحَسَنِ البَصْرِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالى عَنْهُ، أَنَّهُ قالَ: "تَبَارَكَ": تَقَدَّسَ.
وَقَالَ الإِمامُ الرَّازِيُّ: وَأَصْلُ التَّبَارُكِ مِنَ التَّبَرُّكِ، وَهُوَ الدَّوَامُ وَالثَّبَاتُ، وَمِنْهُ بَرَكَ الْبَعِيرُ وَبِرْكَةُ الْمَاءِ فَإِنَّ الْمَاءَ يَكُونُ دَائِمًا، وَالْمَعْنَى: دَامَ اسْمُهُ وَثَبَتَ أَوْ دَامَ الْخَيْرُ عِنْدَهُ، لِأَنَّ الْبَرَكَةَ وَإِنْ كَانَتْ مِنَ الثَّبَاتِ لَكِنَّهَا تُسْتَعْمَلُ فِي الْخَيْرِ، أَوْ يَكُونُ مَعْنَاهُ عَلَا وَارْتَفَعَ شَأْنُهُ.
وَنِسْبَةُ الْبَرَكةِ إِليْهِ ـ تَعَالَى، إِنَّما هِيَ باعْتِبَارِ تَعَالِيهِ عَنْ كلِّ مَا سِوَاهُ، بِذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ وَمِنْ جُمْلَةِ هَذِهِ الأَفعالِ الْعَظِيمَةِ الحكيمةِ تَنْزيلُهُ هَذا الْكِتَابَ الْمُعْجِزَ، عَلَى عبدِهِ ورَسولِهِ محمَّدٍ ـ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، أَلَا وَهُوَ القُرْآنُ الْكَريمُ العظيمُ الْمُتَضَمِّنُ جَميعَ الْخَيْراتِ الدِّينيَّةِ والدُّنيويَّةِ، وَالَّذي يَنْطِقُ بِعُلُوِّ شَأْنِهِ ـ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَسُمُوِّ صِفَاتِهِ ـ جَلَّ وَعَلَا، وَأَنَّ أَفْعَالَهُ ـ سُبْحانَهُ، مَبْنِيَّةٌ عَلَى الحِكَمَةِ وَمَا فِيهِ مَصَالِحُ خَلْقِهِ، لَا يَشُوبُ ذَلِكَ شَائِبَةٌ الْبَتَّةَ. وَهَذَا التَّأْويلُ هُوَ الْأَلْيَقُ بِسُمُوِّ مَقَامِ جَنَابِهِ ـ جَلَّ جَلَالُهُ العَظِيمُ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ، أَنَّهُ قالَ فِي قَوْلِهِ: "تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ" قَالَ: هُوَ الْقُرْآنُ فِيهِ حَلَالُ اللهِ وَحَرَامُهُ وَشَرائِعُهُ وَدِينُهُ، فَرَقَ اللهُ بِهِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ "لِيَكُون للْعَالَمِينَ نَذيرًا" قَالَ: بَعَثَ اللهُ مُحَمَّدًا ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، نَذِيرًا مِنَ اللهِ لِيُنْذِرَ النَّاسَ بَأْسَ اللهِ، وَوَقَائِعَهُ بِمَنْ خَلَا قَبْلَكُمْ، {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْديرًا} قَالَ: بَيَّنَ لِكُلِّ شَيْءٍ مِنْ خَلْقِهِ صَلَاحَهُ، وَجَعَلَ ذَلِكَ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ.
وَيَجُوزُ أنْ تَكونَ هَذِهِ الصِّيغةُ لِإِفادَةِ نَمَاءِ تِلْكَ الْخيْراتِ وَتَزايُدِها شَيْئًا فَشَيْئًا، وآنًا فَآنًا، بِحَسَبِ حُدُوثِهَا، أَوْ حُدوثِ مُتَعَلَّقاتِها. وَلِاسْتِقَلَالِها ِبالدَّلَالَةِ عَلَى غَايَةِ الْكَمَالِ وَتَحَقُّقِها بالْفِعْلِ وَالْإِشْعارِ بِالتَّعَجُّبِ الْمُنَاسِبِ لِلْإِنْشاءِ والْإِنْبَاءِ عَنْ نِهَايَةِ التَّعْظيمِ لَمْ يَجُزِ اسْتِعْمالُهَا فِي حَقِّ غَيْرِهِ ـ سُبْحانَهُ، وَلَا اسْتِعْمَالُ غَيْرِها مِنَ الصِّيَغِ فِي حَقِّ اللهِ ـ تَعَالى.
وَهَذا اسْتِفْتَاحٌ بَدِيعٌ لِنُدْرَةِ أَمْثَالِهِ فِي كَلَامِ بُلَغَاءِ الْعَرَبِ فَإِنَّ غَالِبَ فَوَاتِحِهِمْ أَنْ تَكُونَ بِالْأَسْمَاءِ مُجَرَّدَةً أَوْ مُقْتَرِنَةً بِحَرْفٍ غَيْرِ مُنْفَصِلٍ، كَقَوْلِ طَرَفَةَ بْنِ العَبْدِ:
لِخَوْلَةَ أَطْلَالٌ بِبُرْقَةِ ثَهْمَدِ ...................... تَلُوحُ كَباثي الوشْمِ في ظاهِرِ اليَدِ
أَوْ بِأَفْعَالِ الْمُضَارَعَةِ وَنَحْوِهَا كَقَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ:
قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرى حبيبٍ ومَنْزِلِ ............ بِسِقْطِ اللِّوَى بَيْنَ الدَّخُولِ فَحَوْمَلِ
أَوْ بإخبارٍ فيه تعجيبٌ وَإِدهاشٌ ومُفاجَأَةٌ، وَمِنْ هَذا القَبِيلِ قَوْلُ الْحَارِثِ بْنِ حِلِّزَةَ الْيَشْكُرِيِّ البكْرِيِّ الوائليِّ:
آذَنَتْنَا بِبَيْنِهَا أَسْمَاءُ ..................................... رُبَّ ثاوٍ يَمَلُّ مِنْهُ الثَّوَاءُ
وَقَوْلُ النَّابِغَةِ الذُّبيانِيِّ:
كَتَمْتُكَ لَيْلًا بِالْجَمُومَيْنِ سَاهِرًا ....................... وَهَمَّيْنِ هَمًّا مُسْتَكِنًّا وَظَاهِرَا
وَبِهَذِهِ النُّدْرَةِ يَكُونُ فِي طَالِعِ هَذِهِ السُّورَةِ بَرَاعَةُ الْمَطْلَعِ لِأَنَّ النُّدْرَةَ مِنْ الْعِزَّةِ، وَالْعِزَّةُ مِنْ مَحَاسِنِ الْأَلْفَاظِ وَضِدُّهَا الِابْتِذَالُ.
وَقَدْ تَكونُ النُّدْرَةُ بِالبَدْءِ بِأَحَدِ أَحْرُفِ الِاسْتِفْهَامِ كَ "هَلْ والْهَمْزِةِ"، أَوِ التَّنْبِيهِ كَ "أَلَا وَ: هَا"، أَوْ التَّأْكِيدِ، كَ "إِنَّ وأَنَّ"، أَوِ التَّحْقِيقِ كَ "قَدْ".
وَتَبَارَكَ: تَعَاظَمَ خَيْرُهُ وَتَوَفَّرَ، وَالْمُرَادُ بِخَيْرِهِ كَمَالَاتُهُ وَتَنَزُّهَاتُهُ. وَمِثلُهُ قَوْلُهُ ـ تَعَالَى، مِنْ سُورَةِ الْأَعْرَافِ: {تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ} الآيةَ: (54).
قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا أَوْلَاهَا فِي اللُّغَةِ وَالِاشْتِقَاقِ، مِنْ بَرَكَ الشَّيْءُ إِذَا ثَبَتَ، وَمِنْهُ بَرَكَ الْجَمَلُ وَالطَّيْرُ عَلَى الْمَاءِ، أِيْ: دَامَ.
قَالَ الثَّعْلَبِيُّ: وَيُقَالُ تَبَارَكَ اللَّهُ، وَلَا يُقَالُ مُتَبَارَكٌ وَلَا مُبَارَكٌ، لِأَنَّهُ يُنْتَهَى فِي أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ إِلَى حَيْثُ وَرَدَ التَّوْقِيفُ.
قَالَ الشاعِرُ الطَّائيُّ الطِّرِمَّاحُ بْنُ حَكِيمٍ:
تَبَارَكْتَ لَا مُعْطٍ لِشَيْءٍ مَنَعْتَهُ ................... وَلَيْسَ لِمَا أَعْطَيْتَ يَا رَبِّ مَانِعُ
وَقَالَ أَبو صَخْرٍ الْهُذَلِيُّ:
فَلَيْسَتْ عَشِيَاتُ الْحِمَى بِرَوَاجِعٍ ................. لَنَا أَبَدًا مَا أَوْرَقَ السَّلِمُ النَّضِرُ
وَلَا عَائِدٌ ذَاكَ الزَّمَانُ الَّذِي مَضَى ............. تَبَارَكْتَ مَا تَقْدِرُ يَقَعُ لَكَ الشُّكْرُ
وَ "الفُرقان" مَصْدَرٌ مِنْ فَرَقَ بَيْنَ الشَّيئينِ إِذا فَصَلَ بَيْنَهُما، وَقَدْ سُمِّيِ بِهِ القُرْآنُ الكَريمُ لأَنَّ اللهُ فَرَّقَ بِأَحْكامِهِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَبَيْنَ الْمُحِقِّ وَالْمُبْطِلِ بِإِعْجازِهِ، وَيَجوزُ أَنْهُ سُمِّيَ بِهَذا الِاسْمِ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْزِلْ دُفْعِةً واحِدَةً، بَلْ نَزَلَ مُفرَّقًا مُنَجَّمًا وَمَفْصُولًا بَعْضُهُ مِنْ بَعْضٍ فِي إِنْزَالِهِ، أَوْ في نَفْسِهِ وَمَوْضوعاتِهِ. لِأَنَّ الْكُتُبَ الْمُتَقَدِّمَةَ كَانَتْ تَنْزِلُ جُمْلَةً وَاحِدَةً، وَالْقُرْآنُ نَزَلَ مُنَجَّمًا مُفَرَّقاً مُفَصَّلًا آيَاتٍ بَعْدَ آيَاتٍ، وَحْكْمًا بَعْدَ حُكْمٍ، وَسُورةً بَعْدَ سُورةٍ، وَهَذَا أَبْلَغُ وَأَشَدُّ عِنَايةً بِمَنْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ، كَمَا قَالَ ـ سُبحانُهُ، فِي ثَنَايا هَذِهِ السُّورَةِ المُباركةِ: {وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا * وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} الْآيتَانِ: (32 و: 33).
وَقِيلَ: إِنَّ "الفُرقان" هُوَ اسْمٌ لِكُلِّ مُنَزَّلٍ، وذلكَ لقَولِهِ ـ تَعَالَى، مِنْ سورةِ الأَنْبياءِ: {وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى وَهارُونَ الْفُرْقانَ} الآيةَ: (48). واللهُ أَعْلَمُ.
قولُهُ: {عَلَى عَبْدِهِ} أَيْ عَلى سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَوصْفُهُ بالعُبودِيَّةِ للهِ وإِضافتُهِ للهِ ـ تَبَارَكَ وتعالى، تَشْريفٌ لَهُ وَتَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الرَّسُولَ لَا يَكونُ إِلَّا عَبْدًا لِمُرْسِلِهِ، وفيهِ رَدٌّ عَلَى الَّذينَ قالوا بأُلوهِيّةِ أَنْبِيَائِهِمْ.
قَوْلُهُ: {لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} لِيَكُونَ: بيانٌ للغايَةِ مِنْ تَنْزيلِ "الْكِتَاب"، فَيَجُوزُ أَنْ يَعُودَ الضَّميرُ عَلَيْهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَعودَ عَلَى "الْفُرْقان" فَإِنَّ النِّذارةَ مُتَحَقِّقَةٌ فيهِما وَبِهِمَا مَعًا.
وَ "للعَالَمِينَ" أَيْ: للثَّقَلَيْنِ، وَهُمَا الْإِنْسُ وَالْجِنُّ، فَإِنَّ سَيِّدَنا رَسولَ اللهِ ـ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أُرْسِلَ للجِنِّ، كما أُرْسِلَ للإِنْسِ كافةً، وَقدْ جاءَ ذَلِكَ في غيرِ مكانٍ مِنْ كِتَابِ اللهِ الكريمِ، قالَ ـ تَعَالَى، مِنْ سُورَةِ الأَنْبِيَاءِ: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} الآيةَ: (107)، وقالَ مِنْ سُورَةِ سَبَأ: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} الآيةَ: (28)، وَقَالَ مِن سُورَةِ الْجِنِّ: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا} الآيَتَانِ: (1 و 2).
وَ "نَذِيرًا" للمُبَالَغَة في النِّذارةِ، أَيْ: مُنْذِرًا، وَالنَّذِيرُ: الْمُخْبِرُ بِسُوءٍ يَقَعُ، وَهُوَ بوزنِ "فَعِيلٌ" بِمَعْنَى "مُفْعِلٌ" بِصِيغَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ مِثْلَ الْحَكِيمِ.
وَالرَّسُولُ ـ صلى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ، بَشيرٌ ونذيرٌ، كَمَا فِي قَوْلِهِ ـ تعالى، مِنْ سورةِ سَبَأٍ: {وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} الآيةَ: (28)، إِلَّا أَنَّهُ اقْتُصِرَ هُنَا فِي وَصْفِهِ عَلَى "النَّذِيرِ" دُونَ "الْبَشِيرِ" لِأَنَّ الْمَقَامَ هُنَا مقامُ إِنْذارٍ وتَهْدِيدِ للْمُشْرِكِينَ إِذْ كَذَّبُوا بِالْقُرْآنِ، وَبِالرَّسُولِ ـ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. وَفِي ذَلِكَ اكْتِفَاءٌ لِأَنَّ الْبِشَارَةَ تَخْطُرُ بِبَالِ السَّامِعِ عِنْدَ ذِكْرِ النِّذَارَةِ.
وَقَدَّمَ ـ سُبحانَهُ وَتَعَالى، اللَّامِ الْجارَّةَ مَعَ مَجْرُورهَا "الْعالَمِبنَ" عَلى عَامِلِهَا "نَذِرًا" مُرَاعَاةً للفَوَاصِلِ
وَقَدْ جَمَعَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ المُباركةِ بَيْنَ التَّنْوِيهِ بِشَأْنِ الْقُرْآنِ وَأَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنَ اللَّهِ وَالتَنْوِيهِ بِشَأْنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَرِفْعَةِ مَنْزِلَتِهِ عِنْدَ اللَّهِ وَعُمُومِ رِسَالَتِهِ إلى الخَلقِ، والحمدُ للهِ رَبِّ الْعالَمِينَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {تَبَارَكَ الَّذِي} تَبَارَكَ: فِعْلٌ مَاضٍ جَامِدٌ، مبنِيٌّ عَلَى الْفَتْحِ. و "الَّذِي" اسمٌ مَوْصولٌ مَبْنِيٌّ على القتحِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالفاعِلِيَّةِ. وَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا نَحْوِيًا لا محلَّ لها مِنَ الإِعْرابِ.
قولُهُ: {نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} نَزَّلَ: فعلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ على الفتْحِ. وفاعِلُهُ مُسْتَتِرٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هوَ) يعودُ على اللهِ ـ تَعَالى. و "الْفُرْقَانَ" مَفْعُولُهُ منصةبٌ بِهِ. و "عَلَى" حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "نَزَّلَ"، وَ "عَبْدِهِ" مَجْرُورٌ بحرفِ الجَرِّ وَمُضافٌ، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ قي مَحَلِّ الجرِّ بالإِضافةِ إِلَيْهِ. وَالْجُمْلَةُ الفعلِيَّةُ هذهِ صَلَةُ الاسْمِ الْمًوْصُولِ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإِعْرابِ.
قولُهُ: {لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} لِيَكُونَ: اللَّامُ: "لامُ كَيْ" حَرْفُ جَرٍّ وَتَعْلِيلٍ مُتَعَلِّقٌ بِـ "نَزَّل"، وَ "يَكونَ" فِعْلٌ مُضَارِعٌ نَاقِصٌ، مَنْصوبٌ بِـ "أَنْ" الْمُضْمَرَةِ بَعْدَ "لَاِم كَيْ"، واسْمُهَا ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ فيها جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلَى "عَبْدِهِ" وَهُوَ أَحْسَنُ الْوُجُوهِ مَعْنًى وَصِنَاعَةً لِقُرْبِهِ مِمَّا يَعُودُ عَلَيْهِ، ويَجوزُ أَنْ يعودَ عَلَى "الْفُرْقان" فيكونُ الفُرقانُ هُوَ النَّذيرَ، أَوْ عَلَى اللهِ ـ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، لِأَنَّهُ هُوَ الْمُنْذِرُ بِهِمَا حَقيقَةً. وَ "لِلْعَالَمِينَ" اللَّامُ: حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِالخَبَرِ "نَذِيرًا"، وَقُدِّمَ عَلَيْهِ مُراعاةً للفاصِلَةِ. وَ "نَذِيرًا" خَبَرُ "كان" مَنْصوبٌ بِها. وَجُمْلَةُ "كانَ" مَعَ "أَنْ" الْمُضْمَرَةِ، فِي تَأْويلِ مَصْدَرٍ مَجْرُورٍ بِالَّلامِ الجارَّةِ، والتقديرُ: لِكَوْنِهِ نَذِيرًا، وَهَذا الجارُّ وَالْمَجْرُورُ مُتَعَلِّقٌ بِـ "نَزَّلَ" كَمَا تَقَدَّمَ.
قرَأَ الجُمهورُ: {عَلَى عَبْدِهِ} فالمُرادُ بـ "الفُرقان" القرآنُ الكريمُ، وَ "عَبْدِهِ" هُوَ سيِّدُنا مُحَمَّدٌ ـ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما، "عَلَى عِبَادِهِ"ـ فيكونُ المُرادُ بـ "الفرقان" بحسَبِ هَذِهِ القراءةِ، جَميعَ الكُتُبِ السَّماويةِ، وَ بـ "عبَادِهِ" جَميعَ المُرسلينَ الذينَ نَزَلتْ عليهم كُتُبٌ.