الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ
وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا
(2)
قَوْلُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} هُوَ مُتَابَعَةٌ لِوَصْفِهِ ـ تَعَالَى، نَفْسَهُ المُقدَّسَةَ في الآيةِ الأُولَى، بِأَنَّهُ مَالِكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فَيهِمَا.
وقَدْ جَاءَ التَّأْكيدَ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى فِي غيرِ مَوْضِعٍ مِنْ كتابِهِ الْعَظِيمِ، كَقَوْلِهِ ـ تَعَالَى، في الآية: (4)، مِنْ سُورَةِ الْفاتِحَةِ: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}. وَقَوْلِهِ مِنْ سُورَةِ آلِ عِمْرانَ: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ} الآيَةَ: (26)، وَقَوْلِهِ مِنْ سُورَةِ الْمَائِدَةِ: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} الآيَةَ: (40)، وَقَوْلِهِ مِنْ سُورَةِ الأَنْعَام: {وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ} الْآيَةَ: (73)، وَقَوْلِهِ مِنْ سُورَةِ النُّورِ: {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} الآيةَ: (42)، وَقَوْلِهِ مِنْ سُورَةِ فاطر: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} الْآيَةَ: (13)، وَقَوْلِهِ في الآيَةِ: (16) مِنْهَا: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} وَقَوْلِهِ مِنْ سُورةِ المُلْكِ: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} الْآيَةَ: (1)، وَجَمِيعُ الْآيَاتِ الَّتِي ذَكَرَ فِيهَا ـ جَلَّ وَعَلَا، أَنَّ الْمُلْكَ لَهُ، فَإنَّ كلمةَ "الْمُلْكُ" فِيهَا شَامِلةٌ لِمُلْكِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وما فيهِمَا وَمَا بَيْنَهُمَا.
قولُهُ: {وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا} صِفَةٌ أُخْرَى بِأَنَّهُ ـ تَبَارَكَتْ أَسْمَاؤُهُ وَجَلَّتْ صِفاتُهُ، مُسْتَغْنٍ عَنِ الْوَلَدِ فَالْتَكَاثُرُ مِنْ صِفَاتِ الْمَخْلُوقاتِ، فَطَرَهَا اللهُ عَلَيْهَا لِتُحَافِظَ عَلَى اسْتِمْرارِ نَوعِها حَتَّى لَا يَنْقَطِعُ جِنْسُها بِمَوْتِها،أَمَّا اللهُ ـ تَعَالَى، فهو حَيٌّ دائمٌ بَاقٍ لَا يَمُوتُ، وَلَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، وَلَوْ فَرَضْنَا أَنَّهُ وَلَدَ وَتَكَاثَرَ، لَجاءَ وَلَدُهُ مِنْ جِنْسِهِ، أَيْ: إِلَهٌ مِثْلُهُ فَنَازَعَهُ مُلْكَهُ وتَصَارَعَا وَتَضَارَبَتِ الأَوامِرُ والقوانينُ والتَّشْريعَاتُ فَأَفَسَدَا الْعَالَمْ، كَمَا قَالَ ـ تَعَالَى، مِنْ سُورةِ الْأَنْبِيَاءِ: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَ} الآيةَ: (22)، وَلَتَغَلَّبَ أَحَدُهُمَا عَلَى الآخَرِ فكانَ الْأَوَّلُ إِلَهً والآخَرُ مَأْلوهًا، قالَ ـ تَعَالَى: {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا} الآيةَ: (42)، مِنْ سُورةِ الْإِسْرَاءِ.
وَلِذَلِكَ فقَدْ جَاءَ وَصْفُهُ ـ سُبْحانَهُ، بأَنَّهُ مُسْتَغْنٍ عَنِ الوَلَدِ والصَّاحِبَةِ، مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ الكَريمِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى، في الآيَةِ: (101) مِنْ سُورَةِ الأَنْعام: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ}، وَكَقَوْلِهِ ـ تَعَالَى، مِنْ سُورةِ الإِسْراءِ: {أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا} الآيةَ: (40)، وَقَوْلِهِ مِنْ سورةِ الكَهْفِ: {وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا * مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا} الآيتانِ: (4 و: 5)، وَقَوْلِهِ مِنْ سُورَةِ مريم: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا * وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا * إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} الآياتِ: (88 ـ 93)، وَقَوْلِهِ مِنْ سُورةِ الْمُؤْمنونَ: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ، إِلَى قَوْلِهِ: سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} الآيةَ: (91)، وَقَوْلِهِ مِنْ سورةِ الْجِنِّ: {وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا} الْآيَةَ: (3)، وكَقَوْلِهِ ـ تَعَالَى، مِنْ سُورَةِ الإِخْلَاصِ: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} الآيتانِ: (3 وَ: 4).
قولُهُ: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ} فِي "الْمُلْكِ" إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الِاشْتِرَاكَ فِي الْمُلْكِ يُنَافِي حَقِيقَةَ الْمُلْكِ التَّامَّةِ الَّتِي لَا يَلِيقُ بِهِ غَيْرُهَا. وَقَالَ ـ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، فِي آخِرِ سُورَةِ الإِسْراءِ: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ} الآيةَ: (111) وَقَالَ مِنْ سُورَةِ: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} الآيةَ: (22)، وَقَالَ مِنْ سورةِ غافر: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} الآيةَ: (16)، فَقَوْلُهُ: {الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} يَعْني تَفَرُّدَهُ بِالْمُلْكِ.
قولُهُ: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ} كَقَوْلِهِ: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} الآيةَ: (102) مِنْ سورةِ الأنعام، وَقالَ مِنْ سورةِ غافر: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} الآيةَ: (63). وَ "خَلَقَ": أَحْدَثَ وَأَوْجَدَ. فإنَّ الْخَلْقُ هوَ الْإِيجَادُ مِنْ عَدَمٍ، أَيْ أَوْجَدَ كُلَّ مَوْجُودٍ مِنْ عَظِيمِ الْأَشْيَاءِ وَكَبيرِهَا إَلَى صَغيرِها وَحَقِيرِهَا.
إِذًا فَالْخَلْقُ هُنَا هوَ الإِحْدَاثُ وَالتَّهْيِئَةُ لِمَا يَصْلُحُ لَهُ لِيَأْتِيَ قَوْلُهُ: "فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا" مُفيدًا؛ إِذْ لَوْ أَنَّنا حَمَلْنَا قولَهُ: "خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ" عَلَى مَعْنَاهُ الْأَصْلِي مِنَ التَّقْديرِ لَصَارَ مَعْنَى الْكَلَامِ: وَقَدَّرَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ.
وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ الكريمةُ ردٌّ عَلَى دَعْوَى الْمَجُوسُ وَغيْرِهِم بِأَنَّ الشَّيْطَانَ أَوِ الظُّلْمَةَ يَخْلُقُونَ بَعْضَ الْأَشْيَاءِ. وَتردُّ قولَ مَنْ قَالَ بأنَّ لِلْمَخْلُوقِ قُدْرَةُ الْإِيجَادِ. فَالْآيَةُ رَدٌّ عَلَى كُلِّ هَؤُلَاءِ.
قوْلُهُ: {فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} تَفْرِيعٌ عَلَى قولِهِ "خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ" لِأَنَّهُ دَلِيلٌ عَلَى إِتْقَانِ الْخَلْقِ إِتْقَانًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْخَالِقَ مُتَّصِفٌ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ. أَيْ: وَأَوْجَدَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ فِي إِيجَادِهِ فكانَ في غايَةِ التَّمَامِ والكَمَالِ وَالْإِتْقانِ، وَلَمْ يُوجِدْهُ مُتَفَاوِتًا. ولذلكَ قالَ حِجَّةُ الإِسْلامِ، الْإِمَامُ الكامِلُ أَبُو حَامِدٍ الغزاليُّ ـ رحمَهُ اللهُ تَعَالَى ورَضِيَ عنْهُ وَأَرْضاهُ: (لَيْسَ في الإِمكانِ أَبْدَعَ مِمَّا كانَ)، لِأَنَّ الكامِلَ لَا يَأْتِي إِلَّا بِالْكَمَالِ فِيَمَا يَصْنَعُ، فَالْكَامِلُ لَا يَصْدُرُ النَّقْصُ عَنْهُ وَلَوْ كانَ فِي إِمْكَانِهُ ـ سُبْحانَهُ وَتَعَالى، أَنْ يِصْنَعَ ما هوَ أَفْضَلُ وَأَكْمَلُ وَلَمْ يَفْعَلْ، لَكَانَ في فِعْلِهِ نَقْصٌ، وَحَاشَا للهِ أَنْ يَصْدُرَ عَنْهُ نَقْصٌ البتَّةَ، وتعالى اللهُ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كبيرًا.
وَمَعْنَى "قَدَّرَهُ" جَعَلَهُ عَلَى مِقْدَارٍ معلومٍ وَحَدٍّ مُعَيَّنٍ، لَا يَتَجَاوَزُهُ وَلَا يَحيدُ عنْهُ، فلَيْسَتِ الْأُمُورُ فَوْضَى وَلَا مَجالَ فِيهَا للْمُصَادَفَةِ كَمَا يدَّعِيهِ الطبائعيُّنَ الْمَلَاحِدَةُ، والْمُقَدَّرُ، هُوَ الْمَضْبُوطُ المُحْكَمُ الصَّالِحُ لِمَا خُلِقَ لِأَجْلِهِ، لَا تَفَاوُتَ فِيهِ وَلَا خَلَلَ. لِأَنَّهُ إنَّما خَلَقَهُ بِإِرَادَةٍ حَكِيمَةٍ وَعِلْمٍ لا حُدُودَ لِسَعَتِهِ، عَلَى كَيْفِيَّةٍ أَرَادَهَا وَشَكْلٍ عَيَّنَهُ، كَمَا بيَّنَ ذَلِكَ في الآيةِ: ( مِنْ سُورَةِ الرَّعْدِ فقالَ: {وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ}، ثمَّ أَكَّدَهُ في الآيَةِ: (17) مِنْهَا فَقَالَ: {أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا}، وبقولِهِ في الآيةِ: (49) مِنْ سُورَةِ القَمَرِ: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ}. وَبِقَولِهِ مِنْ سُورَةِ الْأَعْلى: {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} الآيَتَانِ: (2 ـ 3). وَقَدْ تَقَدَّمَ في تَفْسيرِ الآيَةِ الَّتي قَبْلَها قَوْلُ تَرْجُمانِ القُرْآنِ عبْدِ الله ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، فِي تَفْسيرِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ، أَنَّ الْمَعْنَى: بَيَّنَ لِكُلِّ شَيْءٍ مِنْ خَلْقِهِ صَلَاحَهُ وَجَعَلَ ذَلِكَ بِقَدْرٍ مَعْلُومٍ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ ـ رَحِمَهُ اللهُ تعَالَى: (تَقْدِيرُ الْأَشْيَاءِ هُوَ حَدُّهَا بِالْأَمْكِنَةِ، وَالْأَزْمَانِ، وَالْمَقَادِيرِ، وَالْمَصْلَحَةِ، وَالْإِتْقَانِ). لأَنَّهُ لِحِكْمَتِهِ ـ سُبْحانَهُ، لَا يُحْدِثُ شَيْئًا إِلَّا عَلَى وَجْهِ التَّقْدِيرِ دونَ خلَلٍ ولا تَفَاوِتٍ.
وَقِيلَ: خلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَجَعَلَ لَهُ غَايَةً وَمُنْتَهًى، وَمَعْنَاهُ: فَقَدَّرَهُ لِلْبَقَاءِ إِلَى أَجَلٍ محتومٍ، وَأَمَدٍ مُحَدَّدٍ مَعْلُومٍ.
وَفي مَجِيءِ الْفِعْلِ "قَدَّرَ" مُؤكَّدًا بِالْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ: "تَقْدِيرًا" دِلَالَةٌ واضِحَةٌ عَلَى أَنَّ التَّقْدِيرَ كَامِلٌ فِي النَّوْعِ وَالْتَّقَادِيرِ.
وقد أُجْرِيَتْ عَلَى اسْمِهِ ـ سُبْحانَهُ وَتَعَالَى، هَذِهِ الصِّفَاتُ الْأَرْبَعُ بِطَرِيقِ التَعْرِيفِ بالْمَوْصُولِ لِأَنَّ بَعْضَ الصِّلَاتِ لهذِهِ الْأَسْمَاءِ الْمَوْصُولَةِ كانَ مَعْرُوفًا عِنْدَ الْمُشْركينَ الْمُخَاطَبِينَ اتِّصَافُ اللَّهِ بِهِ، وَهُمَا الصِّفَتَانِ الْأُولَى وَالرَّابِعَةُ، إِذْ كَانَتَا مَعْلُومَتَيْنِ، وأَمَّا الصِّلَتَانِ الْثانيةُ والْثَالثَةُ الْمَذْكُورَتَانِ مَعَهُمَا فَقَدْ كانَتَا فِي حُكْمِ الْمَعْرُوفِ، لِأَنَّهُمَا أُجْرِيَتَا عَلَى مَنْ عُرِفَ بِالصِّلَتَيْنِ الْأُولَى وَالرَّابِعَةِ، فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ مَا كَانُوا يَمْتَرُونَ فِي أَنَّ اللَّهَ هُوَ مَالِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَلَا فِي أَنَّ اللَّهَ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ، إذْ أَنَّ اللهَ ـ تَعَالَى، أَخَبَرَ عَنْهُمْ بِأَنَّهمْ يُقِرُّونَ بِذَلِكَ حيثُ قَالَ مِنْ سُورَةِ الْمُؤْمِنُونَ: {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ}، الْآيَتَانِ: (86 و 87)، وَلَكِنَّهُمْ كانُوا يَدَّعُونَ أَنَّ للهِ وَلَدًا وَأَنَّ لَهُ شَرِيكًا فِي مُلْكِهِ، تَعَالَى اللهُ عَنْ ذلِكَ عُلُوًّا كَبيرًا.
وَمِنْ بَدِيعِ النَّظْمِ في هَذِهِ الآيةِ الكَريمةِ، أَنْ جُعِلَ الْوَصْفَانِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِمَا مَعَ الْمُشركين مَتَوَسِّطَيْنِ بَيْنَ الْوَصْفَيْنِ اللَّذَيْنِ لَا مِرْيَةَ فِيهِمَا، حَتَّى يَكُونَ الْوَصْفَانِ الْمُسَلَّمَ بهما بمثابةِ الدَّلِيلِ أَوَّلًا، وَجُعِلتِ النَّتِيجَةُ آخِرًا، فَإِنَّ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَلِيقُ بِهِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا وَلَا شَرِيكًا لِأَنَّ مُلْكَهُ الْعَظِيمَ يَقْتَضِي أَنْ يكونَ غِنَاهُ مُطْلَقًا، وَيَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ اتِّخَاذُهُ الوَلَدَ وَالشَرِيكَ أَنْ يكونَ عَبَثًا لَا غَايَةَ لَهُ، وَإِذَا كَانَتْ أَفْعَالُ الْعُقَلَاءِ مُصَانَةً عَنِ الْعَبَثِ، فَما بالُكَ بِأَفْعَالِ أَحْكَمِ الْحُكَمَاءِ، ـ تَعَالَى عنْ ذلكَ وَتَقَدَّسَ.
فَإِنَّ قَوْلَهُ ـ تَعَالى: "الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ" بَدَلٌ مِنْ قولِهِ في الآيةِ الأُولى: {الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ}. وَإِعَادَةُ الاسْمِ الْمَوْصُولِ لِاخْتِلَافِ الْغَرَضِ مِنَ الصِّلَتَيْنِ، لِأَنَّ الصِّلَةَ الْأُولَى فِي غَرَضِ الِامْتِنَانِ بِتَنْزِيلِ الْقُرْآنِ لِيكونَ ْهُدًى للناسِ، أَمَّا الصِّلَةَ الثَّانِيَةَ فَالْغَرَضُ منها اتِّصَافُهُ ـ تَعَالَى، بِالْوَحْدَانِيَّةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} الَّذِي: اسمٌ مَوصولٌ مَبنِيٌّ على السُّكونِ في محلِّ الرَّفعِ بالفاعِلِيَّةِ بَدَلًا مِنَ الْمَوْصُولِ الْأَوَّلِ مِنَ الآيةِ التي قبلَها، أَوْ عَطْفُ بَيَانٍ مِنْهُ، أَوْ هُوَ خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذوفٍ، أَوْ أَنَّهُ في مَحَلِّ النَّصْبِ عَلى الْمَدْحِ، وَمَا بَعْدَ "نَزَّل" هُوَ مِنْ تَمَامِ الصِّلَةِ وَلَيْسَ أَجْنَبِيًا، فَلَا َيضُرُّ الْفَصْلُ بِهِ بَيْنَ الْمَوْصُولِ الْأَوَّلِ وَالثاني إِذَا جَعَلْنا الثاني تابعًا لَهُ. وَ "لَهُ" اللامُ: حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِخَبَرٍ مُقَدَّمٍ مَحْذوفٍ، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بحرفِ الجَرِّ. و "مُلْكُ" مرفوعٌ بالابتِداءِ مُؤخَّرٌ، وهوَ مُضافٌ. وَ "السَّمَاوَاتِ" مَجْرورٌ بالإِضافَةِ إِلَيْهِ. وَ "وَالْأَرْضِ" الوَاوُ: حَرْفٌ لِلْعَطْفِ، و "الْأَرْضِ" مَعْطُوفٌ عَلَى "السَّمَاواتِ" فهوَ مَجْرُورٌ مِثْلُهُ. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ هي صِلَةُ الاسْمِ الْمَوْصُولِ "الذي" فَلَا مَحَلَّ لها مِنَ الإِعرابِ.
قولُهُ: {وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا} الواوُ: للعَطْفِ، و "لَمْ" حرفُ نفيٍ وقلْبٍ وَجَزْمٍ. و "يتَّخِذْ" فِعْلٌ مُضارعٌ مَجْزومٌ بها. وَفَاعِلُهُ مُسْتَتِرٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هُوَ) يَعُودُ عَلَى الاسْمِ الْمَوْصُولِ، و "وَلَدًا" مَفْعُولُهُ مَنْصوبٌ بِهِ. والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ، لا محلَّ لها مِنَ الإِعرابِ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ الصِّلَةِ السَّابقةِ.
قولُهُ: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ} الوَاوُ: عَاطِفَةٌ. و "لَمْ" حَرْفُ نفيٍ وقلْبٍ وَجَزْمٍ. و "يَكُنْ" فِعْلٌ مُضارِعٌ نَاِقصٌ مَجْزومٌ بِـ "لَمْ"، وقدْ حُذِفَ الواوُ مِنْ (يكون) لالتقاءِ السَّاكنَيْنِ. و "لَهُ" اللامُ: حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِخَبَرٍ مُقَدَّمٍ مَحْذوفٍ لِـ "يكن"، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بحرفِ الجَرِّ. وَ "شَرِيكٌ" اسْمُها الْمُؤَخَّرُ مَرفوعٌ بها. وَ "فِي" حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "شَرِيكٌ"، و "الْمُلْكِ" مَجْرورٌ بحرْفِ الجَرِّ. وَالْجُمْلَةُ مِنْ "كانَ" واسمِها وخَبَرِها لا مَحَلَّ لها مِنَ الإِعْرابِ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ الصِّلَةِ السَّابقةِ أَيْضًا.
قولُهُ: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ} الوَاوُ: للعطْفِ، و "خَلَقَ" فعلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ على الفَتْحِ. وَفاعِلُهُ مُسْتَتِرٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هُوَ) يَعُودُ عَلَى الاسْمِ الْمَوْصُولِ أَيْضًا، وَ "كُلَّ" مَفْعُولُهُ مَنْصوبٌ بِهِ، مُضافٌ. وَ "شَيْءٍ" مجرورٌ بالإِضَافَةِ إلَيْهِ. وَالْجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ الصِّلَةِ أَيْضًا فلا مَحَلَّ لها مِنَ الإِعرابِ. وَهِيَ بِمَنْزِلَةِ الْعِلَّةِ لِمَا قَبْلَهَا.
قولُهُ: {فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} الفاءُ: للعَطْفِ. و "قدَّرَهُ" فعلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ على الفَتْحِ. وَفاعِلُهُ مُسْتَتِرٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هُوَ) يَعُودُ عَلَى الاسْمِ الْمَوْصُولِ أَيْضًا، وَالهاءُ: ضميرٌ نُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الَّصْبِ عَلى المَفْعُوليَّةِ. و "تَقْدِيرًا" منْصوبٌ على الْمَفْعُولِيَّةِ الْمُطْلَقَةِ. وَالْجُمْلَةُ الفعليَّةُ هَذِهِ مَعْطوفَةٌ عَلَى جُمْلَةَ "خَلَقَ" السابقةِ لها فَلَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرابِ.