لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا
(16)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ} أَي: وَلِأَهْلِ الجَنَّةِ فِي الجَنَّةِ مَا يَشْتَهُونَ مِنَ الْمَأْكَلِ وَالْمَشْرَبِ، وَالْمَلْبِسِ، وَالْمَسْكَنِ، وَالْمَنْظَرِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَاَ عَيْنٌ رَأْتْ مِنْ قبلُ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ بِمِثْلِهِ، وَهُمْ خَالِدُونَ أَبَدًا سَرمَدًا فِي هَذَا النَّعيمِ، وَلا هُمْ يَبْغُونَ تَحَوُّلًا عَمَّا هُمْ فِيهِ مِنْ نَعِيمٍ، وَلَا يخْشَوْنَ لَهُ زَوَالًا.
وَلَا يَلْقي اللهُ ـ تَبَارَكَتْ أَسْمَاؤُهُ، فِي قُلُوبِ أَهْل الجَنَّةِ الْرَّغْبَةَ في شَيْئٍ لَمْ يَقْسِمْهُ لهُمْ، وَلَا تَشْتهيهِ قلوبُهُمْ.
فَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ في تَفْسيرِهِ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: قَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: مَنْ مَاتَ وَهُوَ يَشْرَبُ الْخَمرَ لَمْ يَشْرَبْهَا فِي الْآخِرَةِ، وَإِنْ دَخَلَ الْجَنَّةَ. قَالَ عَطَاءٌ: فَقُلْتُ لَهُ: فَإِنَّ اللهَ ـ تَعَالَى، يَقُولُ: "لَهُم فِيهَا مَا يَشَاؤُونَ"، قَالَ كَعْبٌ: إِنَّهُ يَنْسَاهَا فَلَا يَذْكُرُهَا.
قَوْلُهُ: {كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا} مَّسْئُولًا: أَيْ: وَعْدًا حَقِيقًا بِأَنْ يُسأَلَ مِنْهُ ـ سُبْحانَهُ، وَيُطْلَبونَهُ مِنْهُ ـ تَعَالى. أَيْ: يُسْأَلُ: هَلْ وَفَّى رَبُّكَ أَمْ لَا؟ أَوٍ يَسْأَلُهُ مَنْ وُعِدَ بِهِ؟. وَذَلِكَ عَلَى سَبيلِ الْمَجَازِ.
وَوَعْدُ اللهِ لَا يَتَخَلَّفُ الْبَتَّةَ فَهُوَ وَاجِبُ الْوُقُوعِ، وَلَا بُدَّ مِنْ نَفَاذِهِ وَتَحَقُّقِهِ في وقْتِهِ وَبِالْكَيْفيَّةِ الَّتي نُصَّ عَلَيْهَا. وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللهِ ـ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، تَكَرُّمًا مِنْ وَتَفَضُّلًا، وَإِحْسَانٌ مِنْهُ إِلَيْهِمْ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رضيَ اللهُ تَعَالَى عنهُما، أنَّهُ قالَ فِي قَوْلِهِ ـ تَعَالَى: "كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْؤُولًا" يَقُولُ: سَلُوا الَّذِي وَعَدتُّكُمْ تُنْجَزُوهُ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ، مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ هِلَالٍ، عَنْ مُحَمَّدَ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَتْهُ، أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْلِهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ: "كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْؤُولًا، قَالَ: إِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَسْأَلُ لَهُمْ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِم: {وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدتَّهم} الْآيَةَ: ( مِنْ سُورَةِ غَافِر. قَالَ سَعيدٌ: وَسَمِعْتُ أَبَا حَازِم يَقُولُ: إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، قَالَ الْمُؤْمِنُونَ رَبنَا عَمِلْنَا لَكَ بِالَّذي أَمَرْتَنَا فَأَنْجِزْ لَنَا مَا وَعَدتَّنا. فَذَلِكَ قَوْلُهُ ـ تَعَالى: "وَعْدًا مَسْؤُولًا". وانْظُرْ: "معاني القرآنِ وإِعْرابُهُ" لأبي إِسْحاقٍ الزَّجَّاج: (4/60)، وَتَفْسيرَ الْمَاوَرْدِي: (3/151)، وتَفْسيرَ زادِ الْمَسيرِ لابْنِ الْجَوْزِيِّ: (6/77). وهوَ أَيْضًا قَوْلُ الْمُؤْمِنينَ: {رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا}، الآيَةَ: (194) مِنْ سُورَةِ آلِ عُمْرَانَ. ذكَرَهُ الْفَرَّاءُ في مَعَانِيهِ: (2/263)، وانْظُرْ تفسيرَ الطَّبَرِيِّ: (18/189)، وَتفسيَر "زادُ الْمَسيرِ" لابْنِ الجَوزِيِّ: (6/77).
قولُهُ تَعَالَى: {لَهُمْ فِيهَا مَا} لَهُمْ: اللامُ حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِخَبَرٍ مُقَدَّمٍ، وَالهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بحَرْفِ الجَرِّ، والميمُ للجَمْعِ المُذَكَّرِ. و "فِيهَا" في: حَرْفُ جَرٍّ ظَرفيٌّ مُتَعلِّقٌ بِحالٍ مِنْ هاءِ الضَّميرِ في "لَهُمْ"، أَوْ مِنَ الضَّمِيرِ الْمُسْتَكِنِّ فِي الظَّرْفِ. وَ "ها" ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ، مَبْنِيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ الجَرِّ بِحَرْفِ الجَرِّ. و "ما" اسْمٌ مَوْصُولٌ مَبْنِيٌّ غبلا السُّكونِ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ بالابْتِدَاءِ مُؤَخَّرٌ. وهَذِهِ الجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ في محَلِّ النَّصْبِ على الحالِ مِنْ ضَميرِ الفاعِلِ في "يَشَاؤونَ" أَوْ مِنْ ضميرِ الفَاعِلِ في "لَهُمْ" لِوُقُوعِهِ خَبَرًا. وَالعائدُ عَلَى "ما" مَحْذُوفٌ، أَيْ: لَهُمْ فِيهَا الَّذي يَشَاؤُونَهُ حَالَ كَوْنِهمْ خَالِدي
قولُهُ: {يَشَاءُونَ خَالِدِينَ} يَشَاءُونَ: فعلٌ مُضارعٌ مَرْفوعٌ لتجَرُّدِهِ مِنَ النَّاصِبِ والجازِمِ، وعلامةُ رَفعِهِ ثباتُ النُّونِ في آخِرِهِ لِأَنَّهُ مِنَ الأفعالِ الخَمْسَةِ، وواوُ الجَماعَةِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالفاعِلِيَّةَ. وَ "خالدينَ" مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ الْفاعِلِ فِي "يَشَاؤونَ"، أَوْ مِنَ الْهاءِ فِي لَهُمْ. وَالجُمْلَةُ الْفِعْلِيَّةُ هَذِهِ صِلَةُ "مَا" الْمَوْصُولةِ لَيْسَ لَهَا مَحَلَّ مِنَ الإعرابِ. وَالعائِدُ عَلَيْهِ محْذوف, وَالتَّقْديرُ: لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاؤُونَهُ.
قوله: {كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا} كَانَ: فعلٌ ماضٍ ناقصٌ، مَبْنِيٌّ عَلى الْفَتْحِ، وَاسْمُهَا ضَمِيرٌ مُسْتتِرٌ فيها جَوَازًا تَقْديرُهُ (هُوَ) يَعُودُ عَلَى "مَا يَشَاءُونَ" أَوْ عَلَى الْوَعْدِ الْمَفْهُومِ مِنْ جُمْلَةِ قولِهِ في الآيةِ التي قبلَها: {وُعِدَ الْمُتَّقُونَ}. وَ "عَلَى" حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِحَالٍ مِنْ "وَعْدًا"، وَ "رَبِّكَ" اسْمٌ مَجْرُورٌ بحَرْفِ الجَرِّ، مُضافٌ، وَكَافُ الْخِطَابِ ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بالإِضافةِ إِلَيْهِ. وَ "وَعْدًا" خَبَرُ "كَانَ" مَنْصُوبٌ بِهَا. وَ "مَسْئُولًا" صِفَةٌ لِـ "وَعْدًا" منصوبَةٌ مِثْلُهُ. وَجُمْلَةُ "كَانَ" مِنِ اسْمِها وَخَبَرِها مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرابِ.