ة
انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا
(9)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فضَلُّوا} انْظُرْ: مِنَ النَّظَرِ الْعَقْليِّ، وهوَ مُسْتَعَارٌ هُنَا لِمَعْنَى الْعِلْمِ تَشْبِيهًا لِلْمَعْقُولِ بِالْمَرْئِيِّ، وَذَلِكَ لِشِدَّةِ وُضُوحِ الْمَعْقُولِ حتَّى كَأَنَّهُ مَرْئيٌّ بالنَّظَرِ. فإِنَّهُمْ قَدْ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ الْبَاطِلَةَ بِأَنْ مَثَّلُوا النبيًّ ـ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، بِالرَّجُلِ الْمَسْحُورِ.
وَ "كَيْفَ" اسْمُ استفهامٍ لكِنَّهُ هُنَا مُجَرَّدٌ عَنْ مَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ الَّذي هُوَ لَهُ في الأصْلِ، ومُسْتَعْمَلٌ اسْمًا لِلْحَالَةِ والْكَيْفِيَّةِ الَّتي هُمْ عَليْها.
وَ "ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثالَ" فَجَعَلوكَ مِثْلَهُمْ فِي احْتِياجِهِمْ إلى الْغِذَاءِ تَارَةً، ونَظِيرًا لَّهُم فِي اتِّخلذِ أَسْبابِ التَّكَسُّبِ والتَّرَبُّحِ والتَّحايُلِ للعَيْشِ تَارَةً ثانيَّةً، وَوَصَفوكَ بِأَنَّكَ مُخْتَلِطُ الْمِزَاجِ مَغْلوبٌ على عَقْلِهِ تَأْتِي بِمَا لَا يَرْضَى بِهِ عَاقِل تَارةً ثالِثَةً، وَادَّعَوْا بأَنَّكَ سَاحِرٌ ماهِرٌ تَأْتي بِمَا يَعْجِزُونَ عَنْ إِتْيانِ مِثلِهِ، تارةً أُخْرَى.
وَ "فَضَلُّوا" مِنَ الضَّلالِ الَّذي هُوَ الْهَلَاكُ وَالضَّيَاعُ، وَالِاسْمُ مِنْهُ "ضُلٌّ" وَمِنْهُ قَوْلُهُم فِي مَنْ لمْ يُعرَفْ لهُ أَبٌ "هُوَ ضُلُّ ابْنُ ضُلٍّ، فَإِنَّ الفِعْلَ "ضَلُّوا" مُسْتَعْمَلٌ هُنَا فِي مَعْنَيَيْهِ الْمَجَازِيَّيْنِ: عَدَمِ الْوُصُولِ لِلدِّينِ الْحَقِّ، وعَدَمِ التَّوَفُّقِ والسَّدادِ فِي الرَّأْيِ وَالْحُجَّةِ.
والجُمْلَةُ هذِهِ تَعْجِيبٌ مِنْ خَطَئِهِمْ وخَطَلِهِمْ وَإِعْرَاضٌ عَنِ الِاسْتِجابَةِ لِرَسُولِهمْ، وهُوَ تَفْريعٌ عَلَى التَّعْجِيبِ السَّابقِ بِأَنْ أَخْبَرٌ عَنْ ضَلالهِم فِي تَلْفِيقِ التُّهَمِ لَهُ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالَطَّعْنِ فِي رِسَالَتِهِ، فَلَم يَتَوَصَّلُوا إِلَى دَلِيلٍ مُقْنِعٍ عَلَى مُرادِهِم وَمُبْتَغاهُمْ.
قولُهُ: {فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا} فَلَا يَقْدِرُونَ عَلَى فِعْلِ شَيْءٍ، وَلَا يُمْكِنُهُمْ سُلُوكَ سَبيلٍ مِنَ السُّبُلِ، وَلَا طَريقٍ مِنَ الطُّرُقِ الْمُوصِلَةِ إِلَى بُلُوغِ مُبْتَغَاهُم، فِي الإِساءَةِ إلى سُمْعَتِكَ وَصَرْفِ قلوبِ النَّاسِ عَنْكَ وعنِ الإِيمانِ بِرِسالتِكَ.
وَأَخْرَجَ الْفرْيَابِيّ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَن مُجَاهِد رَضِي اللهُ تَعَالَى عَنهُ، أَنَّهُ فالَ فِي قَوْلِهِ ـ سُبْحانَهُ وَتَعَالَى: "انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا"، قَالَ: أَيْ مَخْرَجًا لَهُمْ يُخْرِجُهُمْ مِنَ الْأَمْثَالِ الَّتِي ضَرَبُوا لَكَ.
قولُهُ تَعَالَى: {انْظُرْ كَيْفَ} انْظُرْ: فِعْلُ أَمْرٍ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ، وَفَاعِلُهُ مُسْتَتِرٌ فيهِ وُجوبًا تقديرُهُ (أَنْتَ) يَعُودُ عَلَى سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللهُ علَيْهِ وسَلَّمَ. وَ "كَيْفَ" اسْمُ اسْتِفْهامٍ تَعَجُّبِيٍّ، مَبْنِيٌّ على الفَتْحِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ عَلَى الْحَالِ مِنْ فَاعِلِ "ضَرَبُوا" مُعَلِّقَةً مَا قَبْلَهَا عَنِ الْعَمَلِ فِيمَا بَعْدَهَا. والْجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإِعْراب.
قولُهُ: {ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ} ضَرَبُوا: فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلى الضَّمِّ لِاتِّصالِهِ بواوِ الجَماعَةِ، وَواوُ الجماعةِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ، مَبْنِيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالفاعلِيَّةِ، والأَلِفُ للتَّفْريقِ، وَ "لَكَ" الَّلامُ: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "ضَرَبوا"، وَالكافُ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بِحَرْفِ الجَرِّ. وَ "الْأَمْثَالَ" مَفْعُولُهُ مَنْصوبٌ بِهِ. وَالْجُمْلَةُ الْفِعْلِيَّةُ هَذِهِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ على الْمَفْعُولِيَّةِ لِـ "انْظُرْ" مُعَلَّقَةً عَنْهَا بِاسْمِ الِاسْتِفْهامِ "كَيْفَ".
قوْلُهُ: {فَضَلُّوا} الفاءُ: حرْفُ عَطْفٍ، و "ضَلُّوا" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلى الضَّمِّ لِاتِّصالِهِ بواوِ الجَماعَةِ، وَواوُ الجماعةِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ، مَبْنِيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالفاعلِيَّةِ، والأَلِفُ للتَّفْريقِ، والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ "ضَلُّوا" على كَونِها في مَحَلِّ النَّصْبِ، بالْمَفْعُولِيَّةِ لِـ "انْظُرْ".
قولُهُ: {فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا} فَلَا: الفَاءُ: عَاطِفَةٌ. و "لا" نَافِيَةٌ. و "يَسْتَطِيعُونَ" فِعْلٌ مُضارعٌ مَرْفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وعلامَةُ رَفْعِهِ ثُبُوتُ النّونِ في آخِرِهِ لِأَنَّهُ مِنَ الأفعالِ الخَمْسَةِ، وواوُ الجَماعَةِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ، مَبْنِيٌّ عَلى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ بالْفَاعِلِيَّةِ. وَ "سَبِيلًا" مَفْعُولُهُ مَنْصُوبٌ بِهِ بِتَضْمِينِ الْفِعْلِ مَعْنَى "يَمْلكونَ". وَالْجُمْلَةُ الْفِعْلِيَّةُ هَذِهِ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ قولِهِ "ضَلُّوا" على كَونِها مَعْطوفةً على جملةٍ في مَحَلِّ النَّصْبِ، بالْمَفْعُولِيَّةِ لِـ "انْظُرْ".