لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ
(29)
قولُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ} هَذَا تَخْصِيصٌ لِلعُمُومِ في قَوْلِهِ ـ تَعَالى، مِنَ الآيةِ: 27، السَّابقةِ: {بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ}، فهي في الْبُيُوتِ الْمُعَدَّةِ لِلسُّكْنَى، أَمَّا ما لَيْسَ مُعَدًّا لِلسَّكَنِ فَإِذَا كَانَ لِأَحَدٍ حَاجَةٌ فِي دُخُولِهَ فَلَهُ أَنْ يَدْخُلَ،
فَلَا بَأْسَ عَلَيْكُم أَيَّها المُؤْمِنُونَ وَلَا حَرَجَ وَلَا إِثْمَ، أَوْ جُرْمَ، إِذا أَنْتُمْ دَخَلْتُمْ بُيُوتًا مَهْجُورَةً أَوْ لمْ تُسْكنْ بَعْدُ أَوْ شَاغِرَةً مِنْ سُكانِها لِأَيِّ سَبَبٍ كَانَ، أَوْ غَيْرَ مُخصَّصَةٍ لِسُكَّانٍ مُعَيِّنِينَ بَلْ هِيَ مَرَافِقُ عَامَّةٌ مُباحَةٌ لِلجَمِيعِ، مَجَّانًا أَوْ بأَجْرٍ.
قَوْلُهُ: {فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ} الْمَتَاعُ: الْجِهَازُ وَكُلُّ شَيْءٍ يُنْتَفَعُ بِهِ ويُتَبَلَّغُ بِهِ ويُتَزَوَّدُ مِنْهُ فِي الدُّنْيَا ويَفنى فهو مَتاعٌ، وَقَدْ تَمَتَّعَ واسْتَمْتَعَ. والتَّمَتُّعُ بالمرأَةِ لَا تُرِيدُ إِدامَتها لِنَفْسِكَ: مُتْعةُ، وقولُهُ ـ تعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَ} معناه: فَمَا نَكَحْتُمْ مِنْهُنَّ بالَزوجِ وقوله: وَقولُهُ: {مَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ}، وَقَوْلُهُ: {وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ}، مَعْنَاهُ أَعْطوهُنَّ مَا يَسْتَمْتِعْنَ بِهِ؛ وَظَاهِرُ قَوْلِهِ هنا: "فِيها مَتاعٌ لكم" أَنَّ الْمَتَاعَ مَوْضُوعٌ هُنَاكَ قَبْلَ دُخُولِ الدَّاخِلِ، وَقَدْ فُسِّرَ الْمَتَاعُ بِالْمَصْدَرِ، أَيِ التَّمَتُّعُ وَالِانْتِفَاعُ. قَالَ جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ: كُلُّ مَنَافِعِ الدُّنْيَا مَتَاعٌ. وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ: هَذَا شَرْحٌ حَسَنٌ مِنْ قَوْلِ إِمَامٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ مُوَافِقٌ لِلُّغَةِ، وَتَبِعَهُ عَلَى ذَلِكَ الزمخشريُّ فِي "الْكَشَّافِ". وَنَوَّهَ بِهَذَا التَّفْسِيرِ أَبُو بَكْرٍ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فَيَكُونُ إِيمَاءً إِلَى أَنَّ مَنْ لَا مَنْفَعَةَ لَهُ فِي دُخُولِهَا لَا يُؤْذَنُ لَهُ فِي دُخُولِهَا لِأَنَّهُ يَضِيقُ عَلَى أَصْحَابِ الِاحْتِيَاجِ الذينَ لهم فِيهَا مَنْفَعَةٌ وَمَصْلَحَةٌ، كَالحَمَّامَاتِ، والفَنَادِقِ، والخَانَاتِ المُعَدَّةِ لِاسْتِقْبَالِ عَامَّةِ النَّاسِ، فَإِنَّ صَاحِبَها أَوِ القاطِنَ فيها غَيْرُ مُحْتَرِزٍ مِنْ دُخول غَيْرِهِ إِلَيْهَا، بَلْ هُوَ عَلَى اسْتِعْدَادٍ لِاسْتقبالِ كُلِّ مَنْ يَغْشَاها، وَغَالِبًا ما يَكونُ اسْتِخْدَامُهَا، والتَّمَتُّع فَيها، لِقَاءَ أُجْرةٍ مَادِيَّةٍ مُحَدَّدَةٍ، فيَكْفِي والحالُ هَذِهِ أَنْ يؤُذَنَ لِلزَّائِرِ بِدُخُولها أَوَّلَ مَرَّةٍ، ثمَّ لا يكونَ بعْدَ ثمَّةَ حاجَةٌ للإذنِ كلَّما أرادَ الدُّخولَ إليْها،
وَ "غَيْرَ مَسْكُونَةٍ" أَيْ: غَيْرُ مَأْهُولَةٍ عَلَى سبيلِ الِاسْتِقْرَارِ، أَوْ غَيْرُ مَأْهُولَةٍ أَلْبَتَّةَ. فإِنَّ تِلْكَ الْبُيُوتُ مَأْهُولَةً بِأُنَاسٍ يَقْطُنُونَهَا، يُؤْوُونَ الْمُسَافِرِينَ وَأَمْتِعَتَهُمْ وبِضَاعَتَهُمْ، وَيَحْفَظُونَها لهُمْ حَتَّى يَسْتَأْنِفُوا رِحْلَتَهُمْ. أَوِ الْحَمَّامَاتُ، وَحَوَانِيتُ التُّجَّارِ، وَالْمَكْتَبَاتُ العامَّةُ فَهَي بُيُوتٌ مَأْهُولَةٌ غَيْرُ مَسْكُونَةٍ لِأَنَّ السُّكْنَى تَعْنيَ الْإِقَامَةُ والاسْتَقْرارَ. وَأَمَّا المَنَازِلُ الَّتي يَقْطُنُهَا طَلَبَةُ الْعِلْمِ، أَوَ تِلْكَ الَّتي تُوَي الجُنودَ والْحُرَّاسِ عَلَى الثُّغُورِ، فَلَا اسْتِئْذَانَ بَيْنَ قاطِنِيهَا، لِأَنَّهُمْ قَدْ رَفعوا الْكُلْفَةَ فِيمَا بَيْنَهُمْ، فَغدَوا كَأَهْلِ بَيْتِ وَاحِدِ، أَمَّا الْغَرِيبِ عَنْهُمْ فإنَّ علَيْهِ أَنْ يَسْتَأْذِنَ فِي الدُّخُولِ عَلَيْهِمْ.
قولُهُ: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ} هو كَقَوْلِهِ ـ تَعَالى، مِنْ سورةِ النَّحلِ: (وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ) الآيةَ: 19. فهو وَعِيدٌ لمَنْ خالَفَ أَمْرَ رَبِّهِ، وقد يكونُ الأمْرُ في ظاهِرِهِ ليسَ فيه مُخالفةٌ، فكثيرًا ما يحصُلُ التباسٌ في بعضِ القضايا؛ لكِنَّ اللهَ ـ تَعَالَى، لا تَخْفى عليْهِ خافيةٌ فالَسِّرُّ والجَهْرُ عِتْدَهُ سِيَّانِ، وهوَ مُطَّلِعٌ على النَّوايا، ولذلكَ فهوَ يُحَذِّر عبادَهُ في هذِهِ الآيةِ الكَريمةِ، ويتوعَّدُ ذوي الطوايا السيِّئةِ والمقاصِدِ الخبيثةِ، كما قالَ في الآيةِ: 284، مِنْ سُورةِ البَقَرةِ: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير}. فإنََّرَقَابَتَهُ عَلَى سَرَائِرِ عبادِهِ وَعَلاَنِيتِهم، وَفِي هَذِهِ الرَّقَابَةِ ضَمَانَةٌ لِطَاعَةِ القُلُوبِ وامْتِثَالِهَا للأَدَبِ الذي يُؤْدِّبُها بِهِ الله عبادَهُ المُؤمنينَ.
قولُهُ تَعَالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ} لَيْسَ: فعْلٌ ماضٍ ناقصٌ. و "عَلَيْكُمْ" عَلى: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِقٌ بِخَبَرِ "لَيْسَ" مُقَدَّمًا على اسمِها، وكافُ الخطابِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِه في محلِّ الجرِّ بحرْفِ الجرِّ، والميمُ: علامةُ جمع المذكَّرِ. وَ "جُنَاحٌ" اسْمُها مرفوعٌ بها مُؤَخَّرٌ، وَالجملةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
قوْلُهُ: {أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ} أَنْ: حَرفٌ ناصبٌ مَصْدَرِيٌّ. و "تَدْخُلُوا" فِعْلٌ مُضارعٌ منصوبٌ بها، وعلامةُ نَصْبِهِ حَذْفُ النونِ مِنْ آخِرِهِ لأَنَّهُ مِنَ الأفعالِ الخمسةِ. وواوُ الجماعةِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ، مبنيٌّ على السُّكونِ في محلِّ الرَّفعِ بالفاعِلِيَّةِ، والألِفُ للتَّفريقِ، وَ "بُيُوتًا" مَفْعُولُهُ منصوبٌ بِهِ. و "غَيْرَ" صِفَةٌ لِـ "بُيُوتًا" منصوبَةٌ مِثلُها، وهو مُضافٌ، و "مَسْكونَةٍ" مجرورٌ بالإضافةِ إِلَيْهِ. وَالجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ في تَأْويلِ مَصْدَرٍ مَجْرُورٍ بِحَرْفِ جَرٍّ مَحْذوفٍ، والتقديرُ: في دُخُولِكُمْ بُيُوتًا. والجارُّ المَحْذوفُ، متعَلِّقٌ بِصِفَةٍ لِـ "جُنَاحَ".
قَوْلُهُ: {فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ} فِيهَا: في: حرفُ جَرٍّ مُتَعلِّقٌ بِخَبَرٍ مُقَدَّمٍ. و "مَتَاعٌ" مَرْفوعٌ بالابْتِداءِ مُؤَخَّرٌ. و "لَكُمْ" اللامُ: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِصِفَةٍ لِـ "مَتَاعٌ"، وكافُ الخطابِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إلَيْهِ، والميمُ: للجَمْعِ المُذكَّرِ. وهَذِهِ الجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ في مَحَلِّ النَّصْبِ، صِفَةً ثانيَةً لِـ "بُيُوتًا".
قَولُهُ: {وَاللَّهُ} الواوُ: للاسْتِئْنافِ، وَلَفْظُ الجَلالَةِ "اللَّهُ"، مَرْفوعٌ بالابْتِداءِ، وخبرُ المُبْتَدّأِ جمْلَهُ "يَعْلَمُ" التي بَعْدَهُ، وَهَذِهِ الجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ لَيْسَ لَهَا مَحَلَّ مِنَ الإعراب.
قَولُهُ: {يَعْلَمُ مَا} يَعْلَمُ: فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَرْفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ النَّاصِبِ وَالجازِمِ، وفاعِلُهُ ضميرٌ مُسْتترٌ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعُودُ على اللهِ ـ تَعَالَى. وَ "ما" مَوْصُولَةٌ مَبْنِيَّةٌ عَلى السُّكونِ في مَحَلِّ النَّصْبِ عَلَى المَفْعُولِيَّةِ لِـ "يَعْلَمُ". والجُمْلَةُ الفعْلِيَّةِ هَذِهِ خَبَرُ المُبْتَدَأِ في مَحَلِّ الرَّفعِ.
قولُهُ: {تُبْدُونَ} فِعْلٌ مُضارعٌ مَرْفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ النَّاصِبِ وَالجَازِمِ، وعَلَامَةُ رَفْعِهِ ثُبُوتُ النُّونِ في آخِرِهِ لأَنَّهُ مِنَ الأَفْعَالِ الخَمْسَةِ، وواوُ الجماعَةِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ، مَبْنيٌّ على السُّكونِ في محلِّ الرَّفعِ بالفاعِلِيَّةِ، والجُمْلَةُ الفعليَّةُ هَذِه صَلَةُ "ما" المَوْصولَةِ، وَالعائدُ مَحْذوفٌ، والتَّقْديرُ: مَا تُبْدونَهُ.
قولُهُ: {وَمَا تَكْتُمُونَ} الوَاوُ: للعَطْفِ، و "مَا تَكْتُمُونَ" مَعْطُوفٌ عَلَى "مَا تُبْدُونَ". ولَهُ مِثْلُ إعرابِهِ.