فَتَعَالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ
(116)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {فَتَعَالَى اللهُ} أَيْ: تَقَدَّسَ اللهُ، وَارْتَفَعَ بِذَاتِهِ العَلِيَّةِ، وَتَنَزَّهَ عَنِ الشَّريكِ وَالْنِّدِّ الْوَلَدِ، وَعَنْ مُمَاثَلَةِ المَخْلُوقاتِ في ذاتِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَحْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ، وَكُلُّ شَيْءٍ سِوَاهُ يَصْغُرُ مِقْدَارُهُ عَنْ مَعْنَى صِفَتِهِ، وَتَعَالَى عَنْ خَلُوِّ أَفْعَالِهِ عَنِ الحِكْمَةِ البالِغَةِ وَالْمَصالِحِ السَّامِيَةِ وَالغَايَاتِ الحَمِيدَةِ، والأهْدافِ النَّبِيلَةِ. وَعَنْ أَنْ يَخْلُقَ شَيْئًا عَبَثًا أَوْ لَهْوًا أَوْ سَفَهًا، لِأَنَّهُ العليمُ الْحَكِيمُ. قالَ مُقَاتِلُ بْنُ سُلَيْمانَ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ: ارْتَفَعَ أَنْ يَكونَ خَلَقَ شيئًا عَبَثًا، مَا خَلَقَ شَيْئًا إِلَّا لِشَيْءٍ. "تَفْسيرُ مُقَاتِل": (2/33، ب ـ 34 أ).
وَالتَّعَالِي: المُبَالَغَةُ فِي الْعُلُوِّ، وَاسْتِعْظامٌ للذَّاتِ العَلِيَّةِ، وَللشُّؤونِ الَّتِي تُصَرَّفُ عَلَيْهَا المَخلوقاتُ مِنْ الخَلْقِ بِدْءًا، ثمَّ الإِماتَةِ، ثمَّ الإِعادَةِ، ثُمَّ الحِسابِ بالعدْلِ والقِسْطِ، وَالإثابَةِ أَوِ العِقَابِ بِمُوجَبِ الحِكْمَةِ البالِغَةِ والغاياتِ السَّاميةِ النَّبيلَةِ، الَّتِي تُحقِّقُ مَصالِحَ عِبادِهِ على أكملِ وجْهٍ، إِذْ أَنَّهُ ـ سُبْحانَهُ، مُنَزَّهٌ عَنْ المَصْلحةِ والمَنْفَعَةِ.
وَقدْ أَعْقَبَ ذَلِكَ بِمَا هُوَ دَلِيلٌ عَلَى عَلِيْهِ، مِنِ تَفَرُّدِهِ ـ جَلَّ وعَزَّ، بِالْإِلَهِيَّةِ، وَهُوَ وَصْفٌ لِذَاتِهِ المُقَدَّسَةِ، وَبِأَنَّهُ مَالِكُ أَعْظَمِ الْمَخْلُوقَاتِ على الإطلاقِ وهوَ الْعَرْشُ الَّذي هُوَ مَركَزُ التحَكُّمِ والقيادَةِ والسَّيطرةِ والتَّصَرُفِ بجميعِ الكائناتِ، وَهوَ رَمْزُ المُلْكِ، وَالدَّلِيلُ على عَظَمَةِ قُدْرَتِهِ ـ تَبَارَكَ وَتَعَالَى.
قولُهُ: {الْمَلِكُ الْحَقُّ} أَيْ: أَنَّهُ هُوَ وَحْدَهُ الَّذي يَحُقُّ لَهُ المُلْكُ عَلى الإِطْلَاقِ، فَهُوَ المُتَصَرِّفُ الوَحيدُ فيما خَلَقَ إِيجَادًا وَإِعْدامًا، بِدْءًا وختامًا، وَإِحْيَاءً، وَإِمَاتَةً، وبعْثًا وَإِعَادَةً، وعِقابًا وَإِثابَةً، وَكُلُّ مَا سِوَاهُ مَمْلُوكٌ لَهُ، وَتَحْتَ سَطْوَتِهِ، مَقْهُورٌ بقوَّتِهِ.
قولُهُ: {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} وَكُلُّ مَا عَدَاهُ عَبِيدٌ لَهُ وَحْدَهُ. فَقَدْ وَحَّدَ نَفْسَهُ بِنَفْسِهِ إِذْ لا يَقْدِرُ قَدْرَهُ إلَّا هُوَ ـ تَبَارَكَ وتَعَالى.
قولُهُ: {رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} أَيْ: فهو ذو المُلْكِ الثَّابِتِ الَّذِي لَا يَزُولُ مُلْكُهُ، لِأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ مِنْهُ وَإِلَيْهِ، وَإِنَّمَا وُصِفَ عَرْشُهُ بِالْكَرَمِ لِعَظَمَتِهِ وَكِبَرِ شَأْنِهِ. فهُوَ الَّذي يُحِيطُ بِالْأَجْرَامِ، وَمِنْهُ تُنَزَّلُ مُحْكَمَاتُ الأمورِ والأَحْكامِ الأَقْضِيَةِ، وَمِنْهُ نَزَلَ الْوَحْيُ بِالْقُرْآنِ الكَريمِ، وَمِنْهُ أَيْضًا تُنَزَّلُ الخَيْراتُ والبَرَكَاتُ وَالرَّحَمَاتُ.
وَالكَريمُ فِي صِفَةِ الجَمَادِ بِمَعْنَى الحَسَنِ، وَكَرَمُ الْجِنْسِ أَنْ يَكُونَ مُسْتَوْفِيًا فَضَائِلَ جِنْسِهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ ـ تَعَالَى، مِنْ سُورَة النَّمْل: {إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ} الآيَةَ: 29.
وَأَيضًا فَقَدْ وُصِفَ بالكَرَمِ لِنِسْبَتهِ إِلَى أَكْرَمِ الأَكْرَمِينَ ـ جَلَّ جَلَالُهُ العَظيمُ، وَلِذَلِكَ وَصَفَهُ بِالْكَرَمِ.
وَقُرِئَ أَيْضًا: "الكريمُ" بِالرَّفعِ عَلى أَنَّه صِفَةٌ لِـ "رَّبُّ" كَمَا فِي قَوْلِهِ ـ تَعَالَى، مِنْ سورةِ البُروجِ: {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ * إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ * وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ * ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ * فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} الآياتِ: (12 ـ 16).
قولُهُ تَعَالى: {فَتَعَالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ} الفاءُ: اسْتِئْنافيَّةٌ، و "تَعَالَى" فعلٌ ماضٍ، مَبْنِيٌّ عَلَى الفَتْحِ المُقدَّرِ على آخِرِهِ لِتَعَذُّرِ ظهورِهِ على الأَلِفِ. ولفظُ الجلالَةِ "اللهُ" فاعِلُهُ مَرْفوعٌ بِهِ. و "المَلِكُ الحقُّ" صِفَتَانِ لاسْمِ الجلالةِ مَرْفوعتانِ مِثْلُهُ. والجُمْلَةُ الفعليَّةُ هَذِهِ، مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعْرابِ.
قولُهُ: {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} لا: نافيَةٌ للجِنْسِ تَعْمَلُ عَمَلَ "إنَّ". و "إِلهَ" اسْمُها مَنْصُوبٌ بِهَا. وَ "إِلَّا" أَدَاةُ استثْناءٍ مُفرَّغٍ "للحَصْرِ". "هُوَ" ضَميرٌ منفَصِلٌ مَبْنِيٌّ على الفَتْحِ بَدَلًا مِنَ الضَّميرِ الْمُسْتَكِنِّ فِي خَبَرِ "لَا"، وهو (موجود) المُقَدَّرِ، وَتَقْديرُهُ: لَا إِلَهَ هُوَ مَوْجُودٌ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ. و "رَبُّ" مرفوعٌ بَدَلًا مِنَ الضَّمِيرِ "هُوَ"، أَوْ عَطْفَ بَيَانٍ لَهُ. وَجُمْلَةُ "لَا" فِي مَحَلِّ النَّصْبِ على الحَالِ مِنِ اسْمِ الجَلَالَةِ فِي قَوْلِهِ: "فَتَعَالَى اللهُ". و "رَبُّ" صِفَةٌ ثَالِثَةٌ لاسْمِ الجَلالةِ مرفوعَةٌ مِثْلُهُ، وَهوَ مُضَافٌ. و "الْعَرْشِ" مجرورٌ بالإضافةِ إِلَيْهِ. و "الْكَرِيمِ" بِالْجَرِّ بحَسَبِ قراءةِ الجماعَةِ صِفَةٌ لِلْعَرْشِ، وَبِالرَّفْعِ بِحَسَبِ القراءةِ الثَّانِيَةِ صِفَّةٌ لِـ "رَبُّ" مَرْفوعَةٌ مِثْلُهُ.
قَرأَ الجُمْهُورُ: {الكريمِ} بالجَرِّ عَلى أَنَّهُ نَعْتٌ لِلْعَرْشِ، وَقَدْ وُصِفَ بِذَلِكَ لِتَنَزُّلِ الخَيْرَاتِ مِنْهُ، أَوْ لِنِسْبَتِهِ إِلَى أَكْرَمِ الأَكْرَمِينَ.
وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ، وَابْنُ مُحَيْصِنٍ، وَإِسْمَاعِيلُ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ، وَ "أَبَانُ
ابْنُ تَغْلِبَ" مَرْفُوعًا. عَلَى أَنَّهُ نَعْتٌ لِـ "رَبُّ"، أوْ على أَنَّهُ نَعْتٌ لِلْعَرْشِ أَيْضَا، ولَكِنَّهُ قُطِع عَنْ إِعْرَابِهِ لِأَجْلِ الْمَدْحِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مُضْمَرٍ. وَهَذَا أَجْوَدُ الوجهينِ لِتَوَافُقِ القِرَاءَتَيْنِ فِي المَعْنَى.