إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ (111)
الموسوعة القرآنية
فَيْضُ العَليمِ مِنْ مَعاني الذِّكْرِ الحَكيمِ
تفسير ـ أسباب نزول ـ أحكام ـ إعراب ـ تحليل لغة ـ قراءات
اختيار وتأليف:
الشاعر عبد القادر الأسود
الجزءُ الثامنَ عَشَرَ ـ المُجَلَّدُ الخامسُ وَالثلاثونَ
سُورَةُ المؤمنونَ، الآية: 111
قولُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ} يَقولُ ـ تباركتْ أسماؤهُ: وَإِنِّي جَزَيْتُهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ جَزَاءَ إِيْمَانِهِمْ، وَكَافَأْتُهم عَلَى صَبْرِهِمْ عَلَى أَذَكُمْ وَاسْتِهْزَائِكُم، وهذا اسْتِئْنافٌ بَيَانيٌّ لِبَيَانِ حُسْن حَالِهِمْ عند ربِّهِمْ، فَقَدِ انْتَفَعُوا تحمَّلوا مِنْ أَذى المُشْركينَ واسْتِهْزائهم بهم، كما فيهِ إِغاظَةٌ للمُشْركينَ، بأنَّ هؤلاءِ الضُّعفاءَ مِنْ المُؤمنينَ الذينَ طالَمَا سَخِرُوا مِنْهم.
قولُهُ: {بِمَا صَبَرُوا} أَيْ بِسَبَبِ صَبْرِهِمْ عَلَى سُخْرِيَتِكمْ وهُزئكمْ بهم، وَاحْتِمَالِهِمْ لِأَذَاكُمْ وضَحِكِكُمْ. فاليومَ همُ الذينَ يَسْخَرونَ مِنْكم، ويَضْحَكُونَ مِنْ جَهْلِكُمْ وَحَمَاقَتِكُمْ وَشَقَاوَتِكُمْ، كَمَا قَالَ اللهُ ـ تَبَارَكَ وتَعَالَى، في الآيةِ: (34)، مِنْ سُورةِ المُطَفِّفَينَ: {فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ}.
قولُهُ: {أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ} مازالَ الخطابُ للمُشْركينَ وفيهِ يَقُولُ الهَُ ـ عزَّ وجَلَّ، بِهَذِهِ الجُمْلَةِ المُباركةِ: إِنِّي جَزَيْتُ اليومَ هَؤُلاءِ المُؤْمِنِينَ الصَّابرينَ عَلى أَذَاكُمْ بِأَنْ جَعَلْتُهُمْ يَفُوزونَ بِجَمِيعِ أَمَانِيهِم وَمُرَادَاتِهِم. فإِنَّ ضَمِيرَ الفَصْلِ "هم" يُشِيرُ إِلى وَصْفِ حَالهِمْ بِأَنَّهُم مَخْصُوصُون بِذَلِكَ. فَإنَّهُ ـ سُبْحانَهُ، قَدْ هَداهُمْ إِلَى التَّوْحِيدِ المُؤَدِّي إِلَى ماهُمْ فيهِ مِنْ سَعَادَةٍ، وَمِنْ مُقْتَضَياتِ تَوْحِيدِهِمُ الهَن ـ تَعَالَى، وَالإيمانِ بِهِ، صَبْرُهُمْ عَلى أَذَى المُشْركينَ لأنَّ الهَك أَمَرَهم بِهِ، وَلِذَلِكَ كَانَ الصَّبرُ مِنَ الأَسْبَابِ المُوصِلَةِ إِلَى مَا هُمْ فِيهِ مِنْ سَعَادةٍ.
قولُهُ تَعَالى: {إِنِّي} إِنّ: حَرْفٌ ناصِبٌ، ناسِخٌ، مُشَبَّهٌ بالفعلِ، واليَاءُ: ضميرُ المُتَكَلِّمِ، مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ النَّصْبِ اسْمُهُ. وخبرُهُ جملةُ قولِهِ بعدَ ذلكَ "جَزَيْتُهُم"، والجملةُ مِنْ "إِنَّ" واسْمِها وخبرِها مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
قوْلُهُ: {جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا} جَزَيْتُ: فِعْلٌ مُاضٍ مبنيٌّ على السُّكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رَفعٍ مُتَحَرِّكٍ هوَ تاءُ الفاعِلِ، وتاءُ الفاعلِ هَذِهِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محَلِّ الرَّفْعِ بالفاعِلِيَّةِ، والهاء: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ النَّصِبِ مَفْعُولُ "جَزيتُ" الأَوَّلُ، والميمُ: علامةُ تذْكيرِ الجمعِ. و "الْيَوْمَ" منصوبٌ على الظَّرْفِيَّةِ الزَّمانيَّةِ مُتَعَلِّقٌ بِـ "جَزيتُ"، و "بِمَا" الباءُ: حَرْفُ جَرِّ سَبَبِيٌ، أَيْ: جَزَيْتُهُمْ بِسَبَبِ صَبْرِهِمْ. مُتَعَلِّقٌ بِـ "جَزيتُ"، و "مَا" حَرفٌ مَصْدَرِيٌ مَبْنِيٌّ عَلَى السَّكونِ في مَحَلِّ الجَرِّ بحرفِ الجَرِّ. وَالجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ خَبَرُ "إِنَّ".
قوْلُهُ: {صَبَرُوا}: فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ على الضَّمِّ لاتِّصالِهِ بواوِ الجماعَةِ وواوُ الجَماعَةِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالفَاعِلِيَّةِ، والألِفُ فارقةٌ، والجَمْلَةُ الفعْليَّةُ هَذِهِ صِلَةُ "ما" المَصْدَرِيَّةِ، و "ما" مَعَ صِلَتِهَا فِي تَأْويلِ مَصْدَرٍ مَجْرُورٍ بالباءِ السَّبَبِيَّةِ مِنْ قولِهِ في الجُمْلَةِ الَّتي قبلَها: "بِمَا".
قولُهُ: {أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ} أَنَّ: حَرْفٌ نَاصِبٌ، نَاسِخٌ، مُشَبَّهٌ بالفعلِ، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ النَّصْبِ، اسْمُهُ، وَالْمِيمُ للجمعِ المُذَكَّرِ. وَ "هُمُ" ضَمِيرٌ فَصْلٍ مُسْتَعَارٌ لِمَحَلِّ النَّصْبِ تَأْكِيدًا للضَّمِيرِ اسْمِ "أَنَّ". و "الْفَائِزُونَ" خَبَرُهُ مرْفوعٌ، وعلامةُ رَفعِهِ الواوُ لأنَّهُ جمعُ المُذَكَّرِ السَّالمُ، ويجوزُ أَنْ يُعْربَ "هم" ضميرٌ منفَصِلٌ مَبْنيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ الرفعِ بالابتِداءِ، و "الفائزونَ" خبرُهُ، وهَذِهِ الجملةُ الإسْمِيَّةُ في مَحَلِّ الرَّفعِ خبرُ جملةِ "أَنَّ"، وَجُمْلَةُ "أَنَّ" معَ اسْمِها وخبرِها فِي تَأْويلِ مَصْدَرٍ مَنْصُوبٍ عَلَى كَوْنِهِ مَفْعُولًا ثَانِيًا لِـ "جَزَيْتُ"؛ وَالتقديرُ: جَزَيْتُهُمْ فَوْزَهُمْ بِسَبَبِ صَبْرِهِمْ. وقَدْ أكَّدَ فوزَهُمْ بمُؤكِّداتِ ثَلَاثِ: "أَنَّ"، و "هُم"، وَ "أَلْ" التَّعريفِ في "الفائزونَ".
قرأَ العامَّةُ: {أَنَّهُمْ} بفتْحِ الهَمْزَةِ، وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَحَمْزَةٌ، والكِسَائِيُّ، وَخَارِجَةُ عَنْ نَافِعٍ ـ رَضِيَ اللهٌ تعالى عنْهم: "إنَّهُمْ" بِكَسْرِها عَلَى أَنَّ الجُمْلَةَ اسْتِئْنَافٌ لِتَعْليلِ جَزَاءِ المُؤْمِنينَ، وَقِيلَ: مُبَيِّنٌ لِكَيْفِيَتِهِ.