الموسوعة القرآنية
فَيْضُ العَليمِ مِنْ مَعاني الذِّكْرِ الحَكيمِ
تفسير ـ أسباب نزول ـ أحكام ـ إعراب ـ تحليل لغة ـ قراءات
اختيار وتأليف:
الشاعر عبد القادر الأسود
الجزءُ الثامنَ عَشَرَ ـ المُجَلَّدُ الخامسُ وَالثلاثونَ
سُورَةُ المؤمنونَ، الآية: 104
قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ (106)
قولُهُ ـ تَعَالى شأْنُهُ: {قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا} أَيْ: قامَتِ الحجَّةُ عَلَيْنَا منَ اللهِ ـ تَعَالى، وَلَكِنَّنَا لِمْ نَنْقَدْ لأَمْرِ اللهِ، ولمْ نَتَّبِعْ رَسُولَهُ ـ صلَّى الهُج عليْهِ وسَلَّمْ، بَلْ اتَّبَعْنَا سَبِيلَ الشَّقاءِ الذي كُتِبَ عليْنَا في اللوحِ المحفوظِ بسابقِ عِلْمِ الهِْ أَنَّهُمْ سيفعلونَهُ ويعاقبونَ على ذَلِكَ، وهنا لا بُدَّ مِنَ التذْكيرِ بما قالَهُ علماءُ التوحيدِ مِنْ أَنَّ عِلْمَ الهِِ كاشفٌ لما سيكونُ قبلَ أَنْ يَكونَ، وليسَ مُجْبِرًا عَلَيْهِ، وهكَذا فَعِلْمُ الإنسانِ كاشِفٌ لِمَا يحصُلُ بعد حصولِهِ، بَيْنَمَا علمُ الهِْ ـ تباركَ وتَعَالى، يكشِفُ الأمورَ قبلَ حدوثِها، كما أنَّ كلَّ ما يقومُ المُؤَرِّخَ بِهِ أنْ يدونَ الحدثَّ بعدَ وقوعِهِ وَيُؤرِّخَ لهُ، وكونَهُ دونَ الحَدَثَ لا يعني بحالٍ مِنَ الأحوالِ أنَّهُ حَمَلَ الفاعِلَ على أنْ يفعلَ ما فعلَ أوْ أَجْبَرهُ عَلى ذَلِكَ، فإنَّ أمْرَ الهِّ ـ تَعَالَى، للملكِ المكلَّفِ أنْ يكتُبَ ما سَيَفْعَلُ عبادُهُ قبلَ أنْ يخلَقوا هو كَذلكَ، وإنَّما الفارقُ بينَ علمِ الهَِ أنَّهُ أزليٌّ، يكشفُ الحدثَ قبلَ وقوعِهِ وبعدَ وقوعِهِ، لأنَّ العلمَ صفةٌ قائمةٌ بالذاتِ، وَبِمَا أَنَّ ذَاتَ الحَقِّ ـ تباركَ وتَعَالَى، قديمةٌ أَزَلِيَّةٌ أبديَّةٌ فإنَّ صِفَاتَهَا كالعلمِ والسَّمعِ والبصَرِ وغيرها، هِيَ مِثْلُها قديمةٌ أَزَلِيَّةٌ أَبَدِيَّةٌ، وأَمَّا المَخْلُوقاتُ فإِنَّ صِفاتِهَا حَادِثةٌ مِثْلُ ذَوَاتِها لَهَا بَدَايَةٌ وَلَهَا نِهَايَةٌ، ثمَّ إِنَّ صِفَاتِ المَخلوقاتَ مَحْدودَةٌ مِثلُ ذواتِها، بينَما صِفَاتُ الهُف مثل ذاتِهِ مُطلقةٌ غيرُ محدودةٍ.
قولُهُ: {وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ} وَسَلَكْنا سَبِيلَ الضَّلالِ فَأَوْصَلَنَا إلى الهَلاكِ وأَشَدِّ العَذابِ وسُوءِ المَصيرِ. وَهَذَا اعْتِرَافٌ صريحٌ مِنْهُمْ بِأَنَّ مَا أَصابَهُمْ قَدْ أَصابَهم بِكسْبِهِم وَسُوءِ صَنِيعِهِم.
وعَلَى هَذَا الوجْهِ يمكنُ أَنْ نَحْمِلَ قَوْلَهُ ـ تَعَالَى، منْ سُورَةِ يونُسَ: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} الآيتانِ: (96 ـ 97). وَقَوْلَهُ مِنْ سورةِ الزُّمَرِ عَنْ أَهْلِ النَّارِ: {قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ: (71)، إِلَى غَيْرِها مِنَ آيَاتِ الذِّكْرِ الحَكيمِ.
فإنَّ قَوْلُهُ ـ تعالى، عَنْهُمْ "وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ"، اعْتِرَافٌ مِنْهُمْ بِضَلَالِهِمْ، حَيْثُ لَا يَنْفَعُ الِاعْتِرَافُ بِالذَّنْبِ وَلَا النَّدَمُ عَلَيْهِ، كَقَوْلِهِ ـ تَعَالَى، مِنْ سُورةِ المُلْكِ: {فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ} الآيةَ 11.
قولُهُ تَعَالى: {قَالُوا} فِعْلٌ مَاضٍ مَبْنِيٌّ على الضَّمِّ لاتِّصالِهِ بواوِ الجَماعَةِ، وواوُ الجماعَةِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِه، مَبْنِيٌّ عَلى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ فاعِلٌ، والأَلِفُ فارقةٌ، والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحلَّ لَهَا مِنَ الإعرابِ.
قولُهُ: {رَبَّنَا} رَبَّ: مَنْصُوبٌ عَلَى النِّداِءِ مُضَافٌ، وَ "نَا" ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ، مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ، وَجُمْلَةُ النِّدَاءِ هَذِهِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ عَلَى أَنَّها مَقُولُ القَوْلِ لِـ "قَالُوا".
قولُهُ: {غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا} غَلَبَتْ: فِعْلٌ مَاضٍ مبنِيٌّ على الفتْحِ والتاءُ: لتأنيثَ الفاعِلِ. و "عَلَيْنَا" عَلى: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "غلبَ"، وضميرُ جماعَةِ المُتَكَلِّمينَ مُتَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ الجَرِّ بحرفِ الجَرِ. و "شِقْوَتُنَا" فَاعِلُهُ مَرْفوعٌ بِهِ مضافٌ، وضميرُ جماعَةِ المُتَكَلِّمينَ مُتَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ الجَرِّ بالإِضافةِ إِلَيْهِ، والجُمْلَةُ الفعلِيَّةُ هَذِهِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ مَقُولُ القولِ لـ "قَالُوا" عَلَى كونِهَا جَوَابَ النِّداءِ.
قولُهُ: {وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ} الوَاوُ: للعَطْفِ، وَ "كُنَّا" فِعْلٌ ماضٍ ناقِصٌ مبنيٌّ على السُّكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رفعٍ مُتَحَرِّكٍ هُوِ "نا" ضميرُ جماعَةِ المُتَكَلِّمينَ، وهو ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ فيي مَحَلِّ الرَّفعِ اسْمُ "كان"، و "قَوْمًا" خَبَرُ "كانَ" مَنْصوبٌ بِهَا. و "ضَالِّينَ" صِفَةُ "قَوْمًا" منصوبةٌ مِثْلُهُ، وعلامةُ نَصْبِها الياءُ لأنَّهُ جمعُ المُذَكَّرِ السَّالمُ، والنُّونُ عِوَضٌ مِنَ التنوينِ في الاسْمِ المُفردِ. وَجُمْلَةُ "كان" مَعَ اسْمِها وَخَبَرِهَا. مَعْطُوفةٌ عَلَى جملةِ "غَلَبَ". فِي مَحَلِّ النَّصْبِ مَقُولُ القولِ لِـ "قَالُوا"، عَلَى كونِهَا جَوَابَ النِّداءِ.
قَرَأَ جُمْهُورُ القُرَّاءِ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالى عَنْهُم: {شِقْوَتُنَا} بِكَسْرِ الشِّينِ وَسُكونِ القَافِ. وَقرأَ شِبْلٌ مِثْلَ قراءتِهمْ إِلَّا أَنَّهُ فَتَحَ الشِّينَ.
وَقَرَأَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعودٍ، وَالأَخَوانِ (حَمْزَةُ والكِسَائيُّ)، وَالمُفَضَّلُ عَنْ عَاصِمٍ، وَأَبَانُ، والزَّعْفَرَانِيُّ، وَابْنُ مُقْسِمٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُم: "شَقَاوَتُنَا" بِفَتْحِ الشِّينِ وَأَلِفٍ بَعْدَ القَافِ. وهُمَا مَصْدَرَانِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، فَالشَّقَاوَةُ كَالقَسَاوَةِ، وَهِيَ لُغَةٌ فَاشِيَةٌ، والشِّقْوةُ كالفِطْنَةِ وَالنِّعْمَةِ. وأَنْشَدَوا عَليهِ قَوْلَ نُفيعِ بْنِ طارِقٍ:
كُلِّفَ مِنْ عَنائِهِ وشِقْوَتِهْ ................ بِنْتَ ثَمانِي عَشْرَةٍ مِنْ حِجَّتِهْ
وهي لغةُ الحجاز. وَقَرَأَ قَتَادَةُ وَالحَسَنُ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، في رِوَايَةٍ كَالأَخَوَيْنِ، إِلَّا أَنَّهُمَا كَسَرَا الشِّينَ.