الموسوعة القرآنية
فَيْضُ العَليمِ مِنْ مَعاني الذِّكْرِ الحَكيمِ
تفسير ـ أسباب نزول ـ أحكام ـ إعراب ـ تحليل لغة ـ قراءات
اختيار وتأليف:
الشاعر عبد القادر الأسود
الجزءُ الثامنَ عَشَرَ ـ المُجَلَّدُ الخامسُ وَالثلاثونَ
سُورَةُ المؤمنونَ، الآية: 100
لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ
(100)
قولُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ} يَحْكي لَنَا الحَقُّ ـ تَبَارَكَ وَتَعَالى، ما يقولُه الكافرُ، والمُسْرفُ عَلى نَفْسِهِ، عندَ احتضارِهِ، ساعَةَ لَا نَسْمَعُهُ، وهوَ في سَكراتَ المَوْتِ حيثُ يُرْفَعُ عنهُ الحِجابُ، وَتَنْجَلِي لَهُ الحَقائقُ، كما قالَ ـ تَعَالى، مِنْ سُورةِ (ق): {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} الآيةَ: 22. ونَحْنُ منْ حَوْلِهِ لا نُشاهدُ مَا يُشاهِدُ، ولا نَسْمَعُ ما يَسْمَعُ، ولا نَدْري ما يَحدُثُ لهُ، ما عَدا بعضِ الانْفعالاتِ، وَالتَّغَيُّراتِ الَّتي تَبْدوا عَلى وجْهِهِ، وهيَ تُنْبِئُ بِما يُعانيهِ منْ خوفٍ وهلَعٍ وعذابٍ، فإنَّ اللهَ ـ تُعَالى، يُخْبِرُنَا بِأَنَّهُ يَقُولُ حِينَها: "ربِّ ارْجِعونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالحًا في ما تركْتَ"، يَرْجُو أَنْ يَعُودَ مَرَّةً ثانيَةً، إِلى الحَياةِ الدُّنْيا الَّتي غادرَها لتوِّهِ لِيُؤْمِنَ باللهِ، ويقومَ بما كلَّفَهُ بِهِ رَبُّهُ مِنَ الأَعمالِ الصَّالحاتِ، عَسَى أَنْ يَنْجُوَ مِمَّا يُشاهِدُهُ أَمامَهُ مِنْ سُوءِ مَصيرِ وَعَذابٍ شديدٍ ينتظُرُهُ. فَقد أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، فِي قَوْلِهِ ـ تَعَالَى: "لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ: قَالَ: لعَلِّي أَقُولُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ.
وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي "الْأَسْمَاءُ وَالصِّفَاتُ" مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِي اللهُ عنهُما، فِي قَوْلِهِ " لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ" قَالَ: أَقُولُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ.
وَأَخْرَجَ الدَيْلَمِيُّ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ ـ رَضيَ اللهُ عنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إذَا حَضَرَ الْإِنْسَانَ الْوَفَاةُ، يُجْمَعُ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ يَمْنَعُهُ عَنِ الْحَقِّ، فَيَحُولُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ يَقُولُ: "رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكَتُ)).
بَيْنَمَا يكونُ المُؤمنُ الصّالحُ بعكْسِ ذلكَ، فَقد أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذرِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ ـ رَضيَ اللهُ عنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: زَعَمُوا أَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ لِأُمِّ المُؤْمِنِينَ السَّيِّدَةِ عَائِشَةَ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالى عَنْهَا وأَرضاها، إِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا عَايَنَ الْمَلَائِكَةَ قَالُوا: نُرْجِعُكَ إِلَى الدُّنْيَا؟ فَيَقُولُ: إِلَى دَارِ الهُمُومِ وَالْأَحْزَانِ؟ بَلْ قُدُمًا إِلَى اللهِ. وَأَمَّا الْكَافِرُ فَيَقُولُونَ لَهُ: نُرْجِعُكَ؟ فَيَقُولُ: "رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكَتُ".
وَقَدْ وَرَدَ ذلِكَ في غيرِ مَوْضِعٍ مِنْ كتَابِ اللهِ العزيزِ، كَقَوْلِهِ ـ تَعَالَى، مِنْ سُورَةِ إِبْراهيمَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ: {وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ} الآية: 44.
وقولِهِ ـ عَزَّ وجلَّ، مِنْ سُورَةِ المُنافقونَ: {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا} الْآيَتَانِ: (10 ـ 11).
وَكَذلكَ فإِنَّهُمْ كما يَطْلُبُونَ الرَّجْعَةَ إلى الحَيَاةِ الدُّنْيا عِنْدَما يَحْضُرُهُمُ الْمَوْتُ، لِيُصْلِحُوا مُعتقدَهُمْ وَأَعْمَالَهُمْ، فَإِنَّهُمْ يَطْلُبُونَهُ أَيْضًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَكذَلِكَ فإِنَّهم لَا يُجَابُونَ إِلَيْهِ. وَلكِنَّهُ لَا يُجَابُ إلى ذَلِكَ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَرْفُ الزَّجْرِ وَالرَّدْعِ الَّذِي هُوَ "كَلَّا".
قولُهُ: {كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا} كَلَّا: رَدْعٌ لَهُم وزَجْرٌ ونهيٌ واسْتِبْعادٌ لاسْتجابةِ طَلَبِهم.
وَ "إِنَّهَا كَلِمَةٌ" الكَلِمَةُ هُنَا بِمَعْنَى الكَلَامِ، وَهِيَ بِهَذَا المَعْنَى مَجَازٌ عِنْدَ النُّحَاةِ. وحقِيقَةٌ عِنْدَ اللُّغَوِيِّينَ، وَقِيلَ هوَ مَجازٌ مَشْهُورٌ. وَهُذا مِنْ بابِ إِطْلاقِ الجُزْءِ وإِرادَةِ الكُلِّ. كَقَوْلِهِ ـ تَعَالَى فِي الآيَةَ: 74، مِنْ سُورَةِ بَرَاءَةٌ: {وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ}. وَكَمَا فِي قَوْلِهِمْ: كَلِمَةُ الشَّهَادَةِ، وَكَلِمَةُ الْإِسْلَامِ. وَكَمَا جَاءَ في قوْلِهِ ـ صلَّى الهُا عليْهِ وسَلَّمَ: ((أَصْدَقُ كَلِمَةٍ قَالَهَا شَاعِرٌ كَلِمَةُ لَبِيدٍ أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللهَ بَاطِلُ وَكَادَ أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ أَنْ يُسْلِمَ)) أَخْرَجَهُ الحُمَيْدِيُّ: (برقم: 1053). وابْنُ أَبي شَيْبَةَ: (8/507، برقم: 26007). وأَحْمَدُ: (2/248، برقم: 7377) وغيرِها. والبُخَاري: (برقم: 3841) وغيرِه. وَمُسلم: (برقم: 5950) وغيرِهِ. والتِّرمِذِيُّ (برقم: 2849)، وَفي "الشَّمَائِلِ: ( برقم: 248). وغيره. وأَبُو يَعْلَى: (برقم: 6015). وابْنُ حِبَّانَ: (برقم: 5783). وَالبَغَوِيُّ: (برقم: 3399) مِنْ حَديثِ أَبي هُريرَةَ ـ رَضِيَ الهُّ عَنْهُ. وَتَمَامُ بَيْتِ لَبِيدٍ:
أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللهَ بَاطِلُ .............. وَكُلُّ نَعِيمٍ لَا مَحَالَةَ زَائِلُ
لكِنَّ كَلِمَةَ لَبِيدٍ مَسْمُوعَةٌ مُعْتَبَرَةٌ ذاتُ مَعْنًى سَامٍ، أَمَّا كَلِمَةُ المُشْرِكِ تِلْكَ فَلَيْسَتْ مَسْمُوعَةً، وَلَا مُعْتَبَرَةً، وَلِذَلِكَ قُدَّمَ المُسْنَدُ إلَيْهِ (هُوَ) عَلَى المُسْنَدِ، وَهَذَا التَّقْديمُ لإِفادَةِ الاخْتَصاصِ، فَهِيَ مُختَصَّةٌ بِهِ وحْدَهُ، فَلا تُسْمَعُ مِنْهُ وَلَا يُجَابُ إِلَى مَا سَأَلَ لأَنَّها لَا تَسْتَحِقُّ الجَوَابَ، وهوَ مُعَذَّبٌ في قبرِهِ إلى أنْ تقومَ السَّاعةُ، لِمَا أَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ السَّيِّدَةِ عَائِشَةَ أُمَّ المُؤْمِنِينَ ـ رَضِي اللهُ تَعَالى عَنْهَا وَأَرْضَاهَا، أَنَّها قَالَتْ: وَيْلٌ لِأَهْلِ الْمَعَاصِي مِنْ أَهْلِ الْقُبُورِ، يَدْخُلُ عَلَيْهِم فِي قُبُورِهِمْ حَيَّاتٌ سُودٌ، حَيَّةٌ عِنْدَ رَأْسِهِ، وَحَيَّةٌ عِنْدَ رِجْلَيْهِ، يَضْرِبَانِهِ حَتَّى يَلْتَقِيَانِ فِي وَسَطِهِ. فَذَلِكَ الْعَذَابُ فِي البَرْزَخِ الَّذِي قَالَ اللهُ: "وَمِنْ وَرائهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْم يُبْعَثُونَ"، الآيَةَ.
قولُهُ: {وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} ومنْ ورائهم: أَيْ: وَمِنْ أَمَامِهِمْ، فَالْوَرَاءُ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِلشَّيْءِ الَّذِي يَنَالُ الْمَرْءَ لَا مَحَالَةَ، وَيُصِيبُهُ وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ لَا يُصِيبُهُ. وقدْ شُبِّهَ ذَلِكَ بِالَّذِي يُرِيدُ اللِّحَاقَ بِالسَّائِرِ فَهُوَ لَاحِقُهُ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ فِي الآيَةِ: 17، مِنْ سُورَةِ إِبْراهيمَ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَقَوْلِهِ مِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ}. وَقَوْلِهِ مِنْ سُورةِ الكَهْفِ: {وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} الْآيةَ: 79. وَقَوْلِهِ مِنْ سورةِ الجاثية: {وَمِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ} الآيةَ: 10، وَقَوْلِهِ فِي الآيَةِ: 20، مِنْ سُورَةِ البُرُوجِ: {وَاللهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ}، وَمنْهُ قَوْلَ لَبِيدِ بْنِ رَبيعَةَ:
أَلَيْسَ وَرَائِي أَنْ تَرَاخَتْ مَنِيَّتِي ....... لُزُومُ الْعَصَا تُحْنِي عَلَيْهَا الْأَصَابِعُ
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ حُسَيْنٍ فِي قَوْلِهِ "وَمِنْ وَرَائهِمْ بَرْزَخٌ" قَالَ: أَمَامَهُمْ.
وَالْبَرْزَخُ: الْحَاجِزُ بَيْنَ مَكَانَيْنِ. وَقِيلَ: الحِجَابُ بَيْنَر الشَّيْئَيْنِ أَنْ يَصِلَ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ، فَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْقَبْرُ، أَخْرَجَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنِ الرَّبيعِ بْنِ أَنَسٍ ـ رَضِيَ الهُِ عَنْهُ، أَنّهُ قَالَ: البَرْزَخُ الْقُبُورُ.
وَقِيلَ: هُوَ عَالَمٌ بَيْنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَسْتَقِرُّ فِيهِ الْأَرْوَاحُ فَتُكَاشَفُ عَلَى مَقَرِّهَا الْمُسْتَقْبَلِ.
فقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ الهَُ عنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: البَرْزَخُ الحَاجِزُ مَا بَيْنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وَهَنَّادُ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ، عَنْ مُجَاهِدٍ أَيْضًا ـ رَضِيَ الهُه عنْهُ، فِي قَوْلِهِ ـ تَعالى: "وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ"، قَالَ: هُوَ مَا بَيْنَ الْمَوْتِ إِلَى الْبَعْثِ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَريرٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ الهُُ عنْهُ، أَنَّهُ قالَ أَيْضًا: "وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ": حَاجَزٌ بَيْنَ الْمَيِّتِ وَالرُّجُوعِ إِلَى الدُّنْيَا.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ ـ رَضِيَ الهُْ عنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: البَرْزَخُ مَا بَيْنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، لَيْسَ مَعَ أَهْلِ الدُّنْيَا يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ، وَلَا مَعَ أَهْلِ الْآخِرَةِ يُجَازَوْنَ بِأَعْمَالِهِمْ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنِ الْحَسَنِ البَصريِّ ـ رَضِيَ الهُل عنْهُ، أَنَّهُ قالَ فِي الْآيَةِ: الْبَرْزَخُ بَيْنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَريرٍ، عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ الهُث عنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: البَرْزَخُ بَقِيَّةُ الدُّنْيَا.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ الهُي عنْهُ، أنَّهُ قالَ أيضًا: "وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ": أَهْلُ الْقُبُورِ فِي بَرْزَخٍ مَا بَيْنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، هُمْ فِيهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ أَبي صَخْرٍ، قَالَ: البَرْزَخُ الْمَقَابِر. لَا هُمْ فِي الدُّنْيَا، وَلَا هُمْ فِي الْآخِرَةِ، فَهُمْ مُقيمُونَ فيهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ.
وَأَخْرَجَ سَعيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَسَمَوَيْهِ فِي فَوَائدِهِ، عَنْ أَبي أُمَامَةَ ـ رَضِيَ الهُب عنْهُ، أَنَّهُ شَهِدَ جَنَازَةً، فَلَمَّا دُفِنَ الْمَيِّتُ قَالَ: هَذَا بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ.
وَأَخْرَجَ هَنَّادُ عَنْ أَبي مُحَلَّمٍ قَالَ: قِيلَ لِلشَّعْبِيِّ: مَاتَ فلَانٌ. قَالَ: لَيْسَ هُوَ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ هُوَ فِي البَرْزَخِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ـ رَضِيَ الهُت عنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ"، قَالَ: مَا بَعْدَ الْمَوْتِ.
وَقَالَ الرَّاغِبُ الأَصْفهانيُّ: أَصْلُهُ "بَرْزَه" بالهاءِ فَعُرِّبَ. وَهُوَ فِي القيامَةِ الحَائِلُ بَيْنَ الإِنْسَانِ وَبَيْنَ المَنَازِلِ. الرَّفِيعَةِ. والبَرْزَخُ قَبْلَ البَعْثِ: المَنْعُ بَيْنَ الإِنْسانِ وَبَيْنَ الرَّجْعَةِ الَّتِي يَتَمَنَّاها.
وَقيلَ: الْبَرْزَخُ الْعَالَمُ الْمَشْهُودُ بَيْنَ عَالَمِ الْمَعَانِي الْمُجَرَّدَةِ وَعَالَمِ الْأَجْسَامِ الْمَادِّيَّةِ، أَعْنِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَيُعَبَّرُ بِهِ أَيْ عِنْدَ قُدَمَاءِ الْفَلَاسِفَةِ عَنْ عَالَمِ الْمِثَالِ.
وَمَعْنَى إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ أَنَّهُمْ غَيْرُ رَاجِعِينَ إِلَى الْحَيَاةِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ. فَهِيَ إِقْنَاطٌ لَهُمْ لِأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ يَوْمَ الْبَعْثِ الَّذِي وُعِدُوهُ لَا رُجُوعَ بَعْدَهُ إِلَى الدُّنْيَا فَالَّذِي قَالَ لَهُمْ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ هُوَ الَّذِي أَعْلَمَهُمْ بِمَا هُوَ الْبَعْث.
قولُهُ تَعَالى: {لَعَلِّي} لَعَلّ: حَرْفُ نَصْبٍ وَتَرَجٍّ. وَياءُ المُتكلِّمِ: ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ النَّصْبِ اسْمُ "لَعَلَّ"، وخبرُها الجملةُ بعدَها. وجمْلةُ "لَعَلَّ" مِنِ اسمِها وخبرِها فِي مَحَلَّ النَّصْبِ مَقُولُ {قَالَ} مِنَ الآيةِ التي قبْلَها عَلَى كَوْنِهَا جَوَابَ الطَّلَبِ المَذْكُورِ.
قولُهُ: {أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا} أَعْمَلُ: فِعْلٌ مٌضَارِعٌ مرفوعٌ لتجرُدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وفاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتَتِرٌ فيهِ وُجوبًا تقديرُهُ (أَنَا)، يعودُ عَلَى {أحدَهُمْ} مِنَ الآيةِ: 98، السَّابقةِ. و "صَالِحًا" مَفْعُولُهُ منصوبٌ بِهِ بِهِ، أَوْ على أنَّهُ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ. و "فِيمَا" في: حرفُ جَرٍّ متعلِّقٌ بِصِفَةٍ "صَالِحًا"؛ أَيْ: صَالحًا بَدَلًا عَمَّا تَرَكْتُ، وعليهِ فحرفُ الجَرِّ "في" مستعملٌ بمعى "عَنْ"، أَوْ يَتَعَلَّقُ بِـ "أَعْمَلُ" فيكونُ مَفعولَهُ، و "صالحًا" مفعولًا مُطْلَقًا, وَالجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ خَبَرُ "لَعَّلَّ".
قولُهُ: {تَرَكْتُ} فِعْلٌ مٌضَارِعٌ مرفوعٌ لتجرُدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وفاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتَتِرٌ فيهِ وُجوبًا تقديرُهُ (أَنَا)، يعودُ عَلَى {أحدَهُمْ} مِنَ الآيةِ: 98، السَّابقةِ. وَالْجُمْلَةُ الفعلِيَّةُ هَذِهِ صِلَةٌ لِـ "مَا" الموصولةِ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعْرابِ، وَالعائِدُ مَحْذُوفٌ، والتَّقْديرُ: فِيمَا تَرَكْتُهُ.
قولُهُ: {كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ} كَلَّا": حَرْفُ رَدْعٍ وَزَجْرٍ. و "إِنَّهَا" إنَّ:
حرفٌ ناصِبٌ، ناسِخٌ، مُشَبَّهٌ بالفعلِ، للتوكيدِ، و "ها" ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ، مبنيٌّ على السُّكونِ في محلِّ النَّصْبِ اسْمُها. و "كَلِمَةٌ" خَبَرُهَا مَرْفوعٌ بها. وَجُمْلَةُ "إِنَّ" هَذِهِ معَ اسْمِها وخبرِها جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ فَلَيْسَ لَهَا مَحَلٌّ مِنَ الإعراب.
قوْلُهُ: {هُوَ قَائِلُهَا} هُوَ: ضَمِيرٌ مُنْفَصِلٌ مَبْنِيٌّ على الفَتْحِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالابْتِدَاءِ، وَ "قَائِلُهَا" خَبَرُهُ مَرْفوعٌ، وهُوَ مُضافٌ، و "ها" ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ، مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ فِي مَحَلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ. وَهَذِهِ الجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ فِي مَحَل الرَّفْعِ صِفَةً لِـ "كَلِمَةٌ".
قوْلُهُ: {وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ} الواوُ: حالِيَّةٌ، أَوْ عاطِفةٌ، وَ "مِنْ" حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِخَبَرٍ مُقَدَّمٍ، و "وَرَائِهِمْ" مَجْرُورٌ بحرفِ الجَرِّ مُضافٌ، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بالإضافَةِ إِلَيْهِ، والمِيمُ للجمعِ المُذكَّرِ. و "بَرْزَخٌ" مَرْفوعٌ بالابْتِداءِ مُؤَخَّرٌ. و "إِلَى" حرفُ جَرٍّ، مُتَعَلِّقٌ بِصِفَةٍ لِـ "بَرْزَخٌ"، وَ "يَوْمِ" مَجْرورٌ بحرْفِ الجَرِّ مُضافٌ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ في مَحَلِّ النَّصْبِ عَلَى الحَالِ منهم، أَيْ مِنَ المُشْرِكينَ، أَوْ هيَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ "إِنَّ" عَلَى كونِها جُمْلَةً مُسْتَأْنَفَةً لَيْسَ لَهَا مَحَلٌّ مِنَ الإعراب.
قولُهُ: {يُبْعَثُونَ} فِعْلٌ مُضَارِعٌ مُغيَّرُ الصِّيغةِ، مبنيٌّ للمجهولِ، مَرْفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ الَّناصِبِ والجازِمِ، وَعَلامَةُ رَفعِهِ ثُبُوتُ النُّونِ في آخِرِهِ لأَنَّهُ مِنَ الأَفْعَالِ الخَمْسَةِ، وَوَاوُ الجَمَاعَةِ ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ، مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بِالنِّيابَةِ عنْ فاعِلِهِ، وَالْجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بالإضافَةِ إلَيْهِ لِـ "يَوْمِ"؛ أَيْ: إِلَى يَوْمِ بَعْثِهِمْ.