الموسوعة القرآني
فَيْضُ العَليمِ مِنْ مَعاني الذِّكْرِ الحَكيمِ
تفسير ـ أسباب نزول ـ أحكام ـ إعراب ـ تحليل لغة ـ قراءات
اختيار وتأليف:
الشاعر عبد القادر الأسود
الجزءُ الثامنَ عَشَرَ ـ المُجَلَّدُ الخامسُ وَالثلاثونَ
سُورَةُ المؤمنونَ، الآية: 59
وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (59)
قولُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ} صِفةٌ أُخْرى مِنْ صفاةِ المُؤمنينَ الذينَ تحدَّثتْ عنهم الآيتانِ السَّابقتانِ: (57 و 58)، فهُمْ لا يُسْركونَ بربِّهِم، أَيْ: لَا يَعْبُدُونَ مَعَهُ غَيْرَهُ، بَلْ يُوَحِّدُونَهُ وَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، أَحَدًا صَمَدًا، لَمْ يَتَّخِذْ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا، وَأَنَّهُ نِدَّ لهُ ولَا كُفْءَ ولا نَظِيرَ لَهُ. فلا يُشْركونَ بِهِ شِرْكًا جَلِيًّا وَلَا خَفِيًّا، وَلِذَلِكَ أُخِّرَ عَنِ الإيمانِ بالآياتِ.
وَقد جاءَ التَّعَرًّضُ لِعُنْوانِ الرُّبوبيَّةِ بِقَوْلِهِ "ربِّهِمْ" هُنَا كَمَا في الآيَتَيْنِ قبلَهَا لِلْإِشْعَارِ بِعِلِّيَّةِ هَذِهِ الرُّبوبيَّةِ لِكُلٍّ مِنَ الإِشْفَاقِ، وَالإِيمَانِ، وَعَدَمِ الإِشْرَاكِ مَهْمَا كانَ شَكْلُ ولونُ وحجمُ هذا الإِشْرَاكِ كما قالَ ـ تَعَالَى، في آخِرِ سورةِ الكَهْفِ: {فمنْ كانَ يرجو لقاءَ ربِّهِ فلْيَعمَلْ عَمَلًا صالحًا ولا يُشْرِكْ بِرَبِّهِ أَحَدًا} الآيةَ: 110. وكما قالَ في الحديثِ القُدْسِيِّ: (أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، وَمَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِيَ غَيْرِي تَرَكْتُهُ وَشِرْكُهُ). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ في صحيحِهِ بِرَقَم: (2985)، وَغَيْرُهُ مِنْ حديثِ أَبي هُريرةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ.
وأَخرجَ الإمامُ أحمدٌ وغيرُهُ عَنْ أَبي سَعِيدِ بْنِ أَبي فُضَالَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُ، قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: ((إِذَا جَمَعَ اللهُ الأَوَّلِينَ وَالآخِرينَ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ، يُنَادِي مُنَادٍ: مَنْ كَانَ أَشْرَكَ فِي عَمَلٍ عَمِلَهُ للهِ فَلْيَطْلُبْ ثَوَابَهُ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ، فَإِنَّ اللهَ أَغْنَى الشُّرَكاءِ عَنِ الشَّرْكِ". مُسْنَدُ أحمدٍ: (4/215).
وقالَ الإمامُ فخرُ الدِّينِ الرازيُّ: ولَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْإِيمَانَ بِالتَّوْحِيدِ وَنَفْيَ الشَّرِيكِ للهِ ـ تَعَالَى، لِأَنَّ ذَلِكَ دَاخِلٌ فِي قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ بَلِ الْمُرَادُ مِنْهُ نَفْيُ الشِّرْكِ الْخَفِيِّ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مُخْلِصًا فِي الْعِبَادَةِ لَا يَقْدُمُ عَلَيْهَا إِلَّا لِوَجْهِ الله تَعَالَى وَطَلَبِ رِضْوَانِهِ، والله أَعْلَمُ. تَفْسيرُ الرَّازي ـ مَفَاتيحُ الغَيْبِ، أَوِ التَّفْسيرُ الكَبيرُ: (23/283). فجعَلَ هذِهِ الآيةَ في الشِّركِ الخفيِّ خَاصَّةً. فإنَّ هَؤلاءِ المُؤمنينَ الذين تعنيهُمْ هَذِهِ الآيةُ الكَريمةُ يَذَرُونَ خَفِيَّ الشِّرْكِ علاوةً عَنْ جَلِيِّهِ، وَالخَفِيُّ مِنْهُ هوَ مُلَاحَظَةُ الخَلْقِ حينَ أداءِ الطّاعاتِ، وَيدخُلُ فيهِ الاسْتِبْشَارُ بِمَدْحِ الخَلْقِ لهم وَقَبُولُهُمْ ذلكَ، وَالانْكِسَارُ عِنْدَ انْقِطَاعِ رُؤْيَةِ الخَلْقِ إذا لمْ يكنْ أحدٌ يلاحظُ أعمالَهُم. وَيدْخُلُ فيهِ كَذَلِكَ تَوَهُّمُ حُصُولِ الشِّفَاءِ بالدَّواءِ، والشِّبَعِ بالغذاءِ، والرِّيِّ بشُربِ الماءِ، والتَّعَلُّقُ بالأَسْبابِ، والغفلةُ عَنِ المسَبِّبِ والفاعِلِ الحقيقيِّ ـ تباركتْ أَسْماؤُهُ، في جميعِ شُؤونِ الحياةِ وأحوالِها، فَإِذَا أَيْقَنَ العبدُ بِسِرِّهِ أَلَّا شَيْءَ مِنَ الأُمورِ يَحدُثُ مِنْ تلقاءِ نفسِهِ، وَلَمْ يَتَوَهَّمْ ذَلِكَ في شَيْءٍ منها، وَأَيْقَنَ أَلَّا شَيْءَ إِلَّا مِنَ العليمِ القَديرِ فَعِنْدَ ذَلِكَ يكونُ بعيدًا عَنِ الشِّرْكِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ} الواوُ: للعَطْفِ، و "الَّذِينَ" اسْمٌ مَوصولٌ مَعْطوفٌ عَلَى المَوْصُولِ الأَوَّلِ. و "هُمْ" ضميرٌ منفصِلٌ مبنيٌّ على السُّكونِ في محلِّ الرفعِ بالابْتِداءِ، خبرُهُ جُملةُ "يُشْرِكُونَ". وَ "بِرَبِّهِمْ" الباءُ: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِالخبَرِ "يُشْرِكُونَ"، وَهَذِهِ الجُمْلَةُ الاسُميَّةُ مِنَ المُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ صِلَةُ الاسْمِ المَوْصُولِ "الذينَ" فلا محلَّ لَهَا مِنَ الإعرابِ.
قولُهُ: {لَا يُشْرِكُونَ} لا: نافيةٌ لا عملَ لها، و "يُشْرِكونَ" فِعْلٌ مُضارعٌ مَرْفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ الَّناصِبِ والجازِمِ، وَعَلامَةُ رَفعِهِ ثُبُوتُ النُّونِ في آخِرِهِ لأَنَّهُ مِنَ الأَفْعَالِ الخَمْسَةِ، وَوَاوُ الجَمَاعَةِ ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ، مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالفاعِلِيَّةِ. والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ في محلِّ الرَّفعِ خبرُ المُبْتَدَأِ.