قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ
(40)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ} عَنْ: هيَ هُنَا ظَرفٌ زَمَانِيٌّ بِمَعْنَى "بَعْد"، كَمَا هِيَ فِي الآيَةِ: 19، مِنْ سُورَةِ الانْشِقَاقِ: {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَن طَبقٍ} كَذلكَ، أَيْ: طَبَقًا بَعْدَ طَبَقٍ. وَ "مَا" دَالَّةٌ عَلَى الظَّرْفِ الزَّمَنِي. والمَعْنَى: بَعْدَ قَلِيلٍ مِنَ الزَّمَنِ سَوْفَ يُصْبِحُونَ نَادِمِينَ عَلَى مَا اقْتَرَفَتْهُ أَيْديهِمْ مِنَ الكفْرِ بِرَبِّهمْ رَبِّ العالَمينَ، وتكذيبِ نَبِيِّهِم ورسولِهِمْ، وَمُحَارَبَةِ الدَّينِ، وَذَلِكَ حِينَ يَنْزِلُ بِهِمُ العَذابُ الأَليمُ، وعِنْدَها لَنْ يَسْتَطِيعُوا تَدَارُكَ مَا فَاتَهُمْ، ولَنْ يَنْفَعَهُمْ إِيمانُهُم إِذَا هُمْ آمَنُوا، وَلَنْ يَكونَ أَمَامَهُمْ إِلَّا النَّدَمُ.
وقيلَ بأنَّ "ما" زائدةٌ بَيْنَ الجَارِّ والْمَجْرورِ لِتَأْكِيدِ مَعْنَى القِلَّةِ كَمَا زِيدَتْ فِي قَوْلِهِ ـ تَعَالى، مِنْ سورةِ آبِ عِمْرانَ: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللهِ لِنْتَ لهم} الآيةَ: 159، وَالمَعْنَى: عَنْ زَمَانٍ قَلِيلٍ.
وقيلَ أيْضًا: إِنَّ "مَا" هُنا نَكِرَةٌ مَوْصُوفَةٌ، والمَعنى: عَنْ شَيْءٍ قَلِيلٍ "لَّيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ" عَلَى مَا فَعَلوهُ مِنْ الكُفرِ باللهِ والتَّكذيبِ لرسولِهِ، وَذَلِكَ عِنْدَما يُعَاينونَ العَذَابِ الأَليمَ الذي ينتظرُهُم، واللهُ أَعْلمُ.
قولُهُ تَعَالَى: {قَالَ} فِعْلٌ مَاضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى الفَتْحِ، وَفَاعِلُهُ مُسْتَتِرٌ فِيْهِ جوازًا تقديرُهُ (هوَ) يَعُودُ عَلى نَبِيِّهِم ـ علَيْهِ السَّلامُ، وَالجُمْلَةُ الفعليَّةُ هَذِهِ مُسْتَأْنَفَةٌ لا محلَّ لها مِنَ الإِعْرابِ.
قولُهُ: {عَمَّا قَلِيلٍ} عَنْ: حَرْفُ جَرٍّ بِمَعْنَى "بَعْد"، مُتَعَلِّقٌ بِـ "يُصْبِحُنَّ" أَوْ بِـ "نَادِمِينَ". و "مَا" زَائِدَةٌ بَيْنَ الجَارِّ وَالمَجْرُورِ للتَّوكيدِ كَمَا زِيْدَتْ في الباءِ نَحْوَ قولِهِ ـ تَعَالَى مِنْ سُورةِ آلِ عمرانَ: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ} الآيةَ: 159. وَكما زيدَتْ فِي "مِنْ" مِنْ قوْلِهِ في الآيةِ: 25، مِنْ سُورةِ نوحٍ ـ عليهِ السَّلامُ: {مِّمَّا خَطِيائَاتِهِمْ}. فَلَا مَحَلَّ لها مِنَ الإعراب. وَ "قَلِيلٍ" مَجْرُورٌ بِحرفِ الجَرِّ. وَقَدَ جاءَ صِفَةً لِزَمَنٍ مَحْذُوفٍ، تَقديرُهُ: عَنْ زَمَنٍ قَلِيلٍ. وَيَجوزُ أَنْ تكونَ "ما" غَيْرَ زَائِدَةٍ بَلْ هِيَ نَكِرَةٌ بِمَعْنَى "شَيْءٍ" أَوْ "زَمَنٍ". وَ "قَلِيلٍ" صِفَتُهَا أَوْ بَدَلٌ مِنْهَا، وَفي تعلُّقِ هَذَا الجَارِّ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ:
أَحْدُهُا: أَنَّ يتَعَلِّقٌ بِـ "لَيُصْبِحُنَّ" أَيْ: لَيُصْبِحُنَّ عَنْ زَمَنٍ قَلِيلٍ نَادِمِينَ.
وَالثاني: أَنْ يَتَعَلَّقَ بـ "نادِمِينَ" وَهَذَا عَلَى أَحَدِ الأَقْوَالِ فِي لَامِ القَسَمِ، فَإِنَّ فِيهَا ثَلاثَةَ أَقْوَالٍ:
أَمَّا أَوَّلُها: فَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ البَصْرِيِّيِنَ بِالْمَنْعِ مُطْلَقًا.
وَأَمَّا ثانِيها: فهُوَ قولُ الفَرَّاءِ وَأَبي عُبَيْدَةَ: بِجَوَازِ تَقْديمِ مَعْمُولِ مَا بَعْدَهَا عَلَيْهَا مُطْلَقًا.
وأمَّا الثالثُ: فهُوَ التَّفْصِيلُ بَيْنَ الظَّرْفِ وَعَديلِهِ، وَبَيْنَ غَيِرِهِما، فَيَجُوزُ فِيهِمَا الاتِّساعُ، وَيَمْتَنِعُ فِي غَيْرِهِمَا، فَلَا يَجُوزُ فِي مِثْلِ قَوْلِكَ: وَاللهِ لَأَضْرِبَنَّ زَيْدًا. أَنْ تقولَ: زَيْدًا لَأَضْرِبَنَّ. لِأَنَّهُ غَيْرُ ظَرْفٍ وَلَا عَديِلِهِ.
وثَالِثُ أَوْجُهِ تعلُّقِ هَذا الجارِّ: أَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ والتَّقْديرُ: عَمَّا قَلِيلٍ نُنْصُرُ، وَقَدْ حُذِفَ لِدَلَالَةِ مَا قَبْلَهُ عَلَيْهِ. وَهُوَ قَوْلُهُ ـ تَعَالَى: {رَبِّ انْصُرْني} الآيةَ: 39، السَابِقَةِ.
قولُهُ: {لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ} اللَّامُ: هِيَ المُوَطِّئَةُ لِلْقَسَمِ. و "يُصْبِحُنَّ" فِعْلٌ مُضَارِعٌ نَاقِصٌ مَرْفُوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ النَّاصِبِ وَالجَازِمِ، وَعَلَامَةُ رَفْعِهِ ثَبَاتُ النُّونِ المَحْذوفَةِ لِمجيءِ نونِ التَّوكيدِ الثقيلةِ بعْدَها فَحُذِفَتْ لِتَوَالِي الأَمْثَالِ، وواوُ الجماعةِ المَحْذوفةُ لالْتِقاءِ السَّاكِنَيْنِ، ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الرَّفعِ اسْمُ "أَصْبَحَ". و "نادمِينَ" خبرُها منصوبٌ بها، وعلامةُ نَصْبِهِ الياءُ لِأَنَّهُ جمعُ المُذَكَّرِ السَّالمُ، والنُّونُ عِوَضٌ مِنَ التنوينِ في الاسْمِ المُفردِ. والجُمْلةُ مِنَ الفعلِ الناقصِ واسْمِهِ وخبرِهِ جَوَابُ القَسَمِ المُقَدِّرِ لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرَابِ، وَجُمْلَةُ القَسَمِ المُقَدَّرَ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ مَقُولُ القَوْلِ لـ "قالَ".
قرَأَ العامَّةُ: {ليُصْبِحُنَّ} بِيَاءِ الغَيْبَةِ، وَقُرِئَ: "لَتُصْبِحُنَّ" بِتَاءِ الخِطابِ عَلَى الالْتِفَاتِ، أَوْ عَلَى أَنَّ القَوْلَ صَدَرَ بِذَلِكَ مِنْ الرَّسُولِ لِقَوْمِهِ.