فَيْضُ العَليمِ مِنْ مَعاني الذِّكْرِ الحَكيمِ
تفسير ـ أسباب نزول ـ أحكام ـ إعراب ـ تحليل لغة ـ قراءات
اختيار وتأليف:
الشاعر عبد القادر الأسود
الجزءُ الثامنَ عَشَرَ ـ المُجَلَّدُ الخامسُ وَالثلاثونَ
سُورَةُ المؤمنونَ الآية: 21
وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (21)
قولُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً} الْعِبْرَةُ: الدَّلِيلُ لِأَنَّهُ يُعْبَرُ مِنْ مَعْرِفَتِهِ إِلَى مَعْرِفَةٍ أُخْرَى. وَالْمَعْنَى: إِنَّ فِي الْأَنْعَامِ دَلِيلًا عَلَى انْفِرَادِ اللهِ ـ تَعَالَى، بِالْخَلْقِ والإيجادِ، وَتَمَامِ الْقُدْرَةِ، وَسِعَةِ الْعِلْمِ. وَالْأَنْعَامُ تَقَدَّمَ أَنَّهَا الْإِبِلُ فِي غَالِبِ عُرْفِ الْعَرَبِ.
قوْلُهُ: {نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا} بَيَانٌ لِجُمْلَةِ وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً فَلِذَلِكَ لَمْ تُعْطَفْ لِأَنَّهَا فِي مَوْقِعِ الْمَعْطُوفِ عَطْفَ الْبَيَانِ. وَالْعِبْرَةُ حَاصِلَةٌ مِنْ تَكْوِينِ مَا فِي بُطُونِهَا مِنَ الْأَلْبَانِ الدَّالِّ عَلَيْهِ نُسْقِيكُمْ. وَأَمَّا نُسْقِيكُمْ بِمُجَرَّدِهِ فَهُوَ مِنَّةٌ. وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ مُفَصَّلًا فِي الآيةَ: 66، مِنْ سُورَةِ النَّحْلِ.
قولُهُ: {وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ} عَطفٌ عَلَى جُمْلَةِ نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها فَإِنَّ فِيهِ بَقِيَّةَ بَيَانِ الْعِبْرَةِ وَكَذَلِكَ الْجُمَلَ بَعْدَهُ. والمَنَافِعُ فيها كَثِيرَةٌ: في ظهورها، وألبانها، وأوبارها، وأَصْوَافها، وأَشْعَارِهَا، وتَتَكَسَّبُونَ عَلَيْهَا، وتَتَوالدُ فَتَبِيعُونَ أَوْلَادَهَا، وتَسْتفيدونَ مِنْ جلودِها وأَصْوافِها وأَشْعارِها، وأَوْبارِهَا. وَقَالَ ـ تَعَالَى، مِنْ سُورةِ النَّحْلِ: {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ * وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ * وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} الآياتِ: (5 و
.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أِبي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِي اللهُ عَنْهُ، قالَ: "وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَام" قَالَ: الإِبِلِ وَالْبَقَرِ، وَالضَّأْنِ وَالمَعْزِ، "وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ"، قَالَ: مَا تَنْتُج وَمِنْهَا مَرْكَبٌ وَلَبَنٌ وَلَحْمٌ.
قولُهُ: {وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} وَأَمَّا الْأَكْلُ مِنْهَا فَهُوَ عِبْرَةٌ أَيْضًا إِذْ أَعَدَّهَا اللهُ صَالِحَةً لِتَغْذِيَةِ الْبَشَرِ بِلُحُومِهَا لَذِيذَةِ الطَّعْمِ، وَأَلْهَمَ إِلَى طَرِيقَةِ شَيِّهَا وَصَلْقِهَا وَطَبْخِهَا، وَفِي ذَلِكَ مِنَّةٌ عَظِيمَةٌ ظَاهِرَةٌ. فَإِنَّ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ عِبْرَةً بِإِعْدَادِ اللهِ ـ تَعَالَى، إِيَّاهَا لَنَا لِننْتَفِعَ مِنْها بِذَلِكَ. وَفِي ذَلِكَ مِنَّةٌ ظَاهِرَةٌ.
قالَهُ ابْنُ عبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُمَا، "وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ" يُريدُ: وَتَأْكُلُونَ مِنْ لُحْومِهَا.
قولُهُ تَعَالى: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً} الواوُ: عَاطِفَةٌ. وَ "إِنَّ" حَرْفٌ ناصِبٌ، ناسِخٌ، مُشَبَّهٌ بِالْفِعْلِ، للتَّأْكيد. وَ "لَكُمْ" اللامُ: حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِخَبَرٍ مُقَدَّمٍ لِـ "إِنَّ"، وكافُ الخِطابِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بِحَرْفِ الجَرِّ، والميمُ عَلَامَةُ الجَمْعِ المُذَكَّرِ. و "فِي" حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِحَالٍ مِنْ "عِبْرَةً"؛ لِأَنَّهُ صِفَةُ نَكِرَةٍ، قُدِّمَتْ عَلَيْهَا، وَ "الْأَنْعَامِ" مَجْرُورٌ بِحَرْفِ الجَرِّ. و "لَعِبْرَةً" اللَّامُ: هِيَ المُزَحْلَقَةُ للتَّأْكِيدِ (حَرْفُ ابْتِدَاءٍ)، وَ "عِبْرَةً" اسْمُ "إِنَّ" مُؤَخَّرٌ منصوبٌ بِها. وَجُمْلَةُ "إِنَّ" مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ قَوْلِهِ: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ}.
قوْلُهُ: {نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا} نُسْقِيكُمْ: فِعْلٌ مُضارعٌ مَرْفوعٌ، وَعَلامَةُ رَفْعِهِ مُقَدَّرةٌ عَلَى آخِرِهِ لِثِقَلِها عَلى اليَاءِ، وَفَاعِلُهُ مُسْتَتِرٌ فِيْهِ وُجُوبًا تَقْديرُهُ "نَحْنُ"، يَعُودُ عَلَى "اللهِ" ـ تَعَالَى. وكافُ الخِطابِ ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ النَّصْبِ بالمفعولِيَّةِ، والميمُ: للجَمْعِ المُذَكَّرِ. وَ "مِمَّا" مِنْ: حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "نُسْقِيكُمْ"، وَ "مَا" مَوْصُولَةٌ مَبْنِيَّةٌ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الجَرِّ، أَوْ نَكِرَةٌ مَوْصُوفةٌ. وَ "فِي" حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِصِلَةٍ لِـ "مَا" أَوْ صِفَةٌ لَهَا إِنْ أُعْرِبَتْ "ما" نَكِرَةً مَوْصُوفَةً. وَالْجُمْلَةُ الْفِعْلِيَّةُ هَذِهِ، جُمْلَةٌ مُفَسِّرَةٌ لِـ "عِبْرَةً"، أَوْ مُسْتَأْنَفَةٌ لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرَابِ.
قولُهُ: {وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ} الوَاوُ: حَرْفُ عَطْفٍ، وَ "لَكُمْ" اللامُ: حَرْفُ جَرٍّ مُتَعلِّقٌ بِخَبَرٍ مُقَدَّمٍ، وَكافُ الخِطابِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ، والميمُ: علامَةُ جَمْعِ المُذَكَّرِ. و "فِيهَا" في: حَرْفُ جَرِّ مُتَعَلِّقٌ بِحَالٍ مِنْ "مَنَافِعُ" لِأَنَّهُ صِفَةُ نَكِرَةٍ قُدِّمَتْ عَلَيْهَا، وَ "هَا" ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ، مَبْنِيٌّ عَلى السُّكونِ في مَحَلِّ الجَرِّ بحَرْفِ الجَرِّ. وَ "مَنَافِعُ" مَرفوعٌ بالابْتِداءِ مُؤَخَّرٌ، ولَمْ يُنَوِّنْ لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنَ الصَّرْفِ بوزنِ "مَساجد". و "كَثِيرَةٌ" صِفَةٌ لِـ "مَنَافِعَ" مَرْفوعَةٌ مِثْلُها، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ "نُسْقِيكُمْ"، المُسْتَأْنَفةِ فَلَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإعراب.
قولُهُ: {وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} الوَاوُ: حرفُ عَطْفٍ، و "مِنْهَا" مِنْ: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "تَأْكُلُونَ"، وَ "هَا" ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ، مَبْنِيٌّ عَلى السُّكونِ في مَحَلِّ الجَرِّ بحَرْفِ الجَرِّ. و "تَأْكُلُونَ" فِعْلٌ مُضارعٌ مَرْفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ النَّاصِبِ والجَازِمِ، وعلامةُ رَفعِهِ ثَباتُ النَّونِ في آخِرِهِ، لأنَّهُ مِنَ الأَفعالِ الخمسَةِ. وواوُ الجماعَةِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالفَاعِلِيَّةِ، وَالجُمْلَةُ الفعليَّةُ هَذِهِ مَعْطُوفَةٌ عَلى جُمْلَةِ "نُسْقِيكُمْ" أَيْضًا وهِيَ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفةِ لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإعراب.
قَرَأَ الْعَامَّةُ: عَدَا أَبَا جَعْفَرٍ: {نُسْقيكم} ـ بِضَمِّ النُّونِ، فيُقَالُ: سَقَاهُ وَأَسْقَاهُ بِمَعْنًى، وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ "نَسْقيكم" بِفَتْحِها، وَقَرَأَ أَبُو "تَسْقيكم" بِتَاءِ التَّأْنِيثِ مَفْتُوحَةً عَلَى أَنَّ الضَّمِيرَ لِلْأَنْعَامِ.