الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ
(40)
قولُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ} الذينَ: في هَذِهِ الصِّلَةِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُقَاتَلَةِ مِنْ قَوْلِهِ: فِي الآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا هُوَ الْأَذَى، وَأَعْظَمُ الأَذَى إِخْرَاجُ هَؤُلاءِ المُؤْمِنِينَ مِنْ دِيَارِهِمْ دُونَما ذنبٍ اقْتَرَفُوهُ، لِيَفْتِنُوهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، كَمَا قَالَ ـ تَعَالَى في الآيةِ: 191، مِنْ سُورَةِ البَقَرَةِ: {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ، فَالْمَوْصُولُ هُنَا عائدٌ عَلَى المُؤْمِنِينَ الَّذينَ اضْطَّهدَتْهُم قُرَيْشٌ واضطَّرَّتْهمْ للهِجْرَةِ مِنْ مَكَّةَ المُكَرَّمةَ تَارِكِينَ فِيهَا دُورَهم وأَمْوالَهُمْ، فَارِّينَ بِدِينِهِم، وَلَا ذَنْبَ لَهُمْ سِوَى أَنَّهُمْ آمَنُوا باللهِ رَبِّهِم.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما: "الَّذينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ" أَيْ: مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَ "بِغَيْرِ حَقٍّ" يَعْنِي مُحَمَّدًا ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم، وَأَصْحَابَهُ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ، عَنْ أَميرِ المؤمِنينَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: فِينَا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ "الَّذينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ} وَالْآيَةُ بَعْدَهَا. أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا "بِغَيْرِ حَقٍّ}، ثُمَّ مُكِنَّا فِي الأَرْضِ، فَأَقَمْنَا الصَّلَاةَ، وآتَيْنا الزَّكَاةَ، وَأَمَرْنَا بِالْمَعْرُوفِ، وَنَهَيْنَا عَنِ الْمُنْكَرِ، فَهِيَ لِي وَلِأَصْحَابِي.
قولُهُ: {إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ} وهَذِهِ هِيَ جَريمَتُهُم فِي نَظَرِ المُشْرِكينَ، أَنَّهُمْ آمَنُوا بِرَبِّ العَالَمِينَ، إِلَهًا واحدًا أَحَدًا، وَكَفَرُوا بِما يَعْبُدُهُ أُولئكَ المُشْركونَ بِرَبِّهِم مِنْ تَمَاثِيلَ وَأَصْنَامٍ عَلَيْهَا يَعْكفونَ، يَنْحِتُونَها بِأَيْدِيهم ثُمَّ يَقَعُونَ لَهَا سَاجِدِينَ، وَيُسَوُّونَهَا بِرَبِّ العَالَمِينَ الَّذي خَلَقَهُمْ وَصَوَّرَهُمْ فأحْسَنَ صوَرَهم، وَشَقَّ لَهُمْ سَمْعَهُمْ وَبَصَرَهُمْ، وَقَسَّمَ لَهُمْ أَرْزَاقَهُم، وأَسْبَغَ نِعَمَهُ عَلَيْهِمْ.
و "بِغَيْرِ حَقٍّ" أَيْ بغيرِ زوالِ حقِّهم في الإِقَامَةِ عَلى أَرضِهِمْ في مَوْطِنِهِمُ، وَمُعَاشَرَةِ قَوْمِهِمْ، وَهَذَا الْحَقُّ ثَابِتٌ بِالْفِطْرَةِ، لِأَنَّ مِنَ الْفِطْرَةِ أَنَّ النَّاشِئَ فِي أَرْضٍ وَالْمُتَوَلِّدَ بَيْنَ قَوْمٍ هُوَ مُسَاوٍ لِجَمِيعِ أَهْلِ ذَلِكَ الْمَوْطِنِ فِي حَقِّ الْاسْتِقْرَارِ فِي وَطَنِهِمْ وَبَيْنَ قَوْمِهِمْ، بِالْوَجْهِ الَّذِي ثَبَتَ لِجُمْهُورِهِمْ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ مِنْ نَشْأَةٍ مُتَقَادِمَةٍ، أَوْ قَهْرٍ وَغَلَبَةٍ لِسُكَّانِهِ، كَمَا قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ: "إِنَّهَا لَبِلَادُهُمْ قَاتَلُوا عَلَيْهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَأَسْلَمُوا عَلَيْهَا فِي الْإِسْلَامِ". فقد أَخْرجَ مَالِكٌ في مُوَطَّئِهِ: (2/1003)، وَابْنُ أَبي شَيْبَةَ: (6/461)، وَالبُخَارِيُّ في صحيحِهِ: (3/1113)، والبَيْهَقِيُّ: (6/146). والدَّارَقُطْنِيُّ في سُنَنِهِ: (10/379)، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُ، أَنَّهُ اسْتَعْمَلَ مَوْلًى لَهُ يُقَالُ لَهُ: هُنَىٌّ عَلَى الْحِمَى، فَقَالَ: يَا هُنَىُّ اضْمُمْ جَنَاحَكَ عَنِ الْمُسْلِمِينَ، وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنَّهَا مُجَابَةٌ، وَأَدْخِلْ رَبَّ الصُّرَيْمَةِ وَالْغُنَيْمَةِ، وَإِيَّايَ وَنَعَمَ ابْنِ عَفَّانَ، وَابْنِ عَوْفٍ، فَإِنَّهُمَا إِنْ تَهْلِكْ مَاشِيَتُهُمَا يَرْجِعَا إِلَى زَرْعٍ وَنَخْلٍ، وَإِنَّ رَبَّ الصُّرَيْمَةِ وَالْغُنَيْمَةِ، إِنْ تَهْلِكْ مَاشِيَتُهُ يَأْتِنِي بِبَنِيهِ، فَيَقُولُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَفَتَارِكُهُمْ أَنَا ـ لَا أَبَا لَكَ؟ فَالْمَاءُ وَالْكَلأُ أَهْوَنُ عَلَيَّ مِنَ الدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ، وَأَيْمُ اللهِ، إِنَّهُمْ لَيَرَوْنَ أَنْ قَدْ ظَلَمْنَاهُمْ، إِنَّهَا لَبِلاَدُهُمْ قَاتَلُوا عَلَيْهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَأَسْلَمُوا عَلَيْهَا فِي الإِسْلاَمِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْلَا الْمَالُ الَّذِي أَحْمِلُ عَلَيْهِ فِي سَبِيلِ اللهِ، مَا حَمَيْتُ عَلَى النَّاسِ مِنْ بِلاَدِهِمْ شِبْرًا". وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا الإمامُ وَكَذَلِكَ رَوَاهُ الإمامُ الشَّافِعِيُّ عَنِ الدَّرَاوَرْدِيِّ: (4/238).
وَلَا يَزُولُ ذَلِكَ الْحَقُّ عَنْ صاحِبِهِ إِلَّا بِمُوجِبٍ قَرَّرَهُ الشَّرْعُ الحنيفُ، أَوِ الْعُرْفَ والعَادةُ قَبْلَ الشَّرْعِ. وَمِنْ ذَلِكَ مَا قَالَ الشَّاعِرُ الجاهليُّ زُهَيْرُ بْنُ أبي سُلْمَى:
فَإِنَّ الْحَقَّ مَقْطَعُهُ ثَلَاثٌ ........................ يَمِينٌ أَوْ نِفَارٌ أَوْ جَلَاءُ
فَإِنَّ ذَلِكَ مِمَّا دَرَجَتْ عَلَيْهِ العَرَبُ في جَاهِلِيَّتِها، وكانَوا يُسَمُّونَهُ بِـ "الْجَلَاءِ"، وَ "الْخَلْعِ"، وُهُوَ مَا جاءَتْ بِهِ الشَّرَائِعِ وسَمِّيَ فيها بـ "النَّفيِ"، و "التَّغْرِيبِ. وَمُوجِبَاتُهُ اعْتِدَاءُ الْمَرْءِ عَلَى قَوْمِهِ، إِذَا لَمْ يَجِدُونَ لَهُم سَبيلًا إِلَى رَدْعِه سِوَى تَهْجِيرِهِ مِنْ أَرْضِهِمْ، ونَفْيِهِ مِنْ بَيْنِهِمْ.
وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: "بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ"، فَإِنَّ الإِيمَانَ بِاللهِ ـ تَعَالى، لَا يَسْتَتْبِعُ الاعْتِدَاءَ عَلَى مَنْ حولَهُمْ، فَإِنَّ اعْتِقَادَهمْ مُقْتِصِرٌ عَلَيْهِمْ أَنْفُسهِمْ، حتى ولو جهروا بِهِ وأَعَلَنُوهُ، فَإنَّ الْإِعْلَانَ بِهِ لَا يُضِرُّ بِغَيْرِهِمْ، وَلَا يُؤْذي أَحَدًا.
وَقد جاءَ الِاسْتِثْنَاءُ بـ "إلَّا" هُنَا عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِعَارَةِ التَّهَكُّمِيَّةِ، أَيْ إِنْ كَانَ عَلَيْهِمْ حَقٌّ فَهُوَ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ، وَهَذَا مِنْ تَأْكِيدِ الشَّيْءِ بِمَا يُوهِمُ نَقْضَهُ. وَيُسَمَّى في عِلْمِ الْبَدِيعِ: تَأْكِيدُ الْمَدْحِ بِمَا يُشْبِهُ الذَّمَّ، وَمِنْهُ قَوْلُ نَابِغَةِ بَنِي ذُبيانَ:
وَلَا عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أَنَّ سُيُوفَهُمْ .......... بِهِنَّ فُلُولٌ مِنْ قِرَاعِ الْكَتَائِبِ
قولُهُ: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} إِسْنَادُ الدَّفْعِ إِلَى الذَّاتِ الإِلهِيَّةِ هُوَ مِنَ المُجَازِ العَقْلِيِّ لِأَنَّهُ إِذْنٌ لِلنَّاسِ بِأَنْ يَدْفَعُوا أَعداءهمْ عَنْ مَعَابِدِهِمْ فَإِذْنُ اللهِ هَذا هُوَ سَبَبُ الدَّفْعِ، وَفيهِ تَكْليفٌ لِأَهْلِ الْإِيمَانِ بَمُقَاوَمَةِ أَهْلِ الشِّرْكِ.
وَالدَّفْعُ في اللُّغةِ: الإِبْعَادُ، وَالإِزالَةُ بِقُوَّةٍ، مِنْ: دَفَعَهُ، يَدْفَعُهُ، دَفْعًا وَدَفَاعًا، وَدَافَعَهُ، وَدَفَّعَهُ فانْدَفَع، وتَدَفَّعَ، وَتَدَافَعَ. وَتَدَافَعَ القَوْمُ الشَّيْءَ: إِذا دَفَعَهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَنْ صَاحِبِهِ، وَتَدَافَعُوا أَيْضًا: دَفَعَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا. وَرَجُلٌ دَفَّاعٌ: شَديدُ الدَّفْعِ، ومِدْفَعٌ كَذَلِكَ. وَرُكْنٌ مِدْفَعٌ: قَوِيٌّ. ومنهُ سُمِّتْ وزارَةُ الحَربيَّةِ بوزارةِ الدِّفاعِ لِدِفاعِها عنْ دولتِها. وَدَفَعَ فَلَان إِلَى فُلانٍ شَيْئًا: أَعطاهُ إِيَّاهُ. وَدَفَعَ عَنْهُ الشَّرَّ: أَبْعَدَهُ عَنْهُ. وَتَقُولُ دَفَعْتُ الشِّيْءَ عَنِّي، إِذَا أَبْعَدتَّهُ عَنْكَ ـ مَادِّيًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مَادِيٍّ، وَانْدَفَعَ الفَرَسُ: أَسْرَعَ في سَيْرِهِ. وَالمُدَافَعَةُ: تَبَادُلُ الدَّفْعِ وَتَكْرارُهُ، وَالمُدافعةُ ـ أَيْضًا، المُمُاطَلَةُ. وَدَفَعَ عَنَهُ، وَدَافَعَ بِمَعْنَى. وَدَفْعُ اللهِ ـ تَعَالَى، بَعْضَ النَّاسِ بِبَعْضٍ يجوزُ أَنْ يكونَ المُرادُ بِهِ هُنَا مَا رَخَّصَ بهِ للمُؤمنينَ مِنْ قتالِ المُشْرِكينَ دِفاعًا عَنْ حَوْزَةِ الدِّينِ، وذَوْدًا عنْ حياضِ المُسْلِمِينَ، ويَجُوزُ أَنْ يَعُمَّ ما كانَّ مِنْ قتالِ دَاودَ لِجَالُوتَ، ونصْرَ اللهِ لِدَاودَ وإِعْزَازَهُ المُؤمنينَ، ويجوزُ أَنْ يكونَ قَريبًا مِنَ الشَّفاعةِ، أَيْ إِكْرامَ بَعْضَ عِبَادِهِ بِإبْعَادِ الأَذَى، والسُّوءِ، والبَلَاءِ عَنْ أَهْلِهِمْ وَذَويهِمْ وَجِيرَانِهِمْ إِكْرامًا لِهُمْ لِتُقَاهُمْ وَصَلَاحِهِمْ. فَقَدْ أَخْرَجَ الطَّبَرانيُّ في مُعْجَمَيْهِ "الكبِيرِ الأَوْسَطِ: (جـ 13، 14 (ص: 215)، وَابْنُ عَسَاكِرَ في مُعْجَمِ الشُّيوخِ: (1/162)، وَالطَّبَرِيُّ فِي تَفْسيرِهِ "الجامعُ للعُلُومِ والحِكَمِ": (4/516)، والعَقِيلِي فِي "الضُّعَفاء": (4/403)، وَأخرجَهُ أَيْضًا الإمامُ البَغَوِيُّ في "تَفْسِيرِهِ": (1/265)، وَابْنُ عَدِيٍّ في "الكامِلِ": (2/382 ـ383)، عَنِ ابْنِ عُمَرَ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُما، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ اللهَ ـ عَزَّ وَجَلَّ، لَيَدْفَعُ بِالمُسْلِمِ الصَّالِحِ عَنْ مِئَةِ أَهْلِ بَيْتٍ مِنْ جِيرَانِهِ البَلاَءَ))، ثُمَّ قَرَأَ ابْنُ عُمَرَ: "وَلَوْلاَ دَفْعُ اللهِ النَّاسِ".
وأَخْرجَ البيهقيُّ في شُعَبِ الإِيمَانِ: (10/75)، عَنْ أَبِي الْجَوْزَاءِ، أَوْسُ بنُ عَبْدِ اللهِ الرَّبَعِيُّ البَصْرِيِّ، رَضِيَ اللهُ عنْهُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُما، فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: "وَلَوْلاَ دَفْعُ اللهِ النَّاسِ"، قَالَ: "يَدْفَعُ اللهُ بِمَنْ يُصَلِّي عَمَّنْ لَا يُصَلِّي، وَبِمَنْ يَحُجُّ عَمَّنْ لَا يَحُجُّ، وَبِمَنْ يُزَكِّي عَمَّنْ لَا يُزَكِّي". قُلْتُ (أَبِو الْجَوْزَاءِ): "وَهَذَا يَكُونُ إِلَى مَا شَاءَ اللهُ، وَقَدْ يَدَعُهُمْ فَيَهْلَكُوا جَمِيعًا إِذَا كَثُرَ الْفَسَادُ، ثُمَّ يَبْعَثُهُمُ اللهُ عَلَى نِيَّاتِهِمْ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ، عَنْ ثَابِتِ بْنِ عَوْسَجَةَ الحضرَمِيِّ قَالَ: حَدثنِي سَبْعَة وَعِشْرُونَ من أَصْحَاب أميرِ المُؤمنينَ عَليِّ بْنِ أَبي طَالِبٍ، وَعَبْدِ اللهِ ابْنِ مَسْعُودٍ ـ رَضِيَ اللهُ ـ تَعَالى، عَنْهُمَا، مِنْهُم لَاحِقُ بْنُ الْأَقْمَرِ، والعَيْزارُ بْنُ جَرْوَل، وَعَطِيَّة الْقُرُظِيُّ، أَنَّ عَلِيًّا ـ رضِيَ اللهُ عنهُ، قَالَ: إِنَّمَا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ ـ صلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ: "وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ"، قَالَ: لَوْلَا دَفْعُ اللهِ بِأَصْحَابِ مُحَمَّدٍ عَنِ التَّابِعينَ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَن مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، فِي الْآيَةِ قَالَ: مَنْعُ بَعضَهُمْ بِبَعْضٍ فِي الشَّهَادَةِ، وَفِي الْحَقِّ، وَفِيمَا يكونُ مِثْلَ هَذَا، يَقُول: لَوْلَا هَذَا لَهَلَكَتْ هَذِهِ الصَّوَامِعُ وَمَا ذُكِرَ مَعهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ أَيْضًا ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، فِي الْآيَةِ قَالَ: دَفْعُ الْمُشْركُينَ بِالْمُسْلِمِينِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهما: "وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ" قَالَ: لَوْلَا الْقِتَال وَالْجِهَادُ.
قولُهُ: {لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ} هَدْمُ البناءِ: تَقْوِيضُهُ وَإِسْقاطُهُ. أَيْ: لَولا أَنْ يأْذَنَ اللهُ لِعِبَادِه المُؤْمِنينَ بقتالِ المُشْركينَ والدِّفاعِ عَنْ أَنْفُسِهم وأَمْوالهم وعيالِهم، والمُسْتضْعفينَ منهم، وحمايةِ دورِ عبادَتِهمْ، لِصَوْنِ دينِهم ومُعتقَداتهِمْ، لطغى المُشْركونَ وبَغَوْا، وقضوا على الدينِ والمتديِّنينَ وهدَّموا معابدَهم ومساجدَهُم لأنَّهُم عُدْوانيُّونَ بطَبْعِهمْ لا يُنْصِتُونَ لعقلٍ ولا لصوتِ ضميرٍ، وقدْ رَأَيْنا وسَمِعْنَا ما فعَلَ مشركو مكَّةَ مِنْ كبراءِ قريشٍ بالمُسْتضْعفينَ منَ المُؤْمنينَ كَيَاسِرَ وآلِ ياسِر وغيرهم إِذْ عذبوهُم حتَّى المَوْتِ، وكذلكَ فعلَ الجبابرةُ الكَفَرةُ بالمُؤمنينَ منَ الأمم السابقةِ.
فإنَّهُ لَمَّا أَذِنَ اللهُ ـ سُبحانَهُ وتَعَالى، لِلْمُسْلِمِينَ بِدَفْعِ الْمُشْرِكِينَ عَنْهُمْ، أَتْبَعَ ذَلِكَ بِبَيَانِ الْحِكْمَةِ مِنْ ذَلِكَ، مَعَ التَّنْوِيهِ بِهَذَا الدِّفَاعِ، وَالْمُتَوَلِّينَ لَهُ، بِأَنَّهُ دِفَاعٌ عَنِ الْحَقِّ وَالدِّينِ عامَّةً، وَلَيْسَ عَنِ الْمُسْلِمِينَ خَاصَّةً، فَيَنْتَفِعُ بِهِ جَمِيعُ أَهْلِ التَّوْحِيدِ مِنَ الأَدْيانِ، كَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى. ولولا ذَلِكَ الدَّفعُ لَمَحَقَ الْمُشْرِكُونَ مَعَالِمَ التَّوْحِيدِ، كَمَا فَعَلَ "بُخْتَنَصَّرُ" بِهَيْكَلَ سُلَيْمَانَ، وتَقْتيلِهِ اليهودَ وتشريدِهِمْ. فـ "لَوْلا" حَرْفُ امْتِنَاعٍ لِوُجُودٍ، أَيْ: حَرْفٌ يَدُلُّ عَلَى امْتِنَاعِ جَوَابِهِ وانتفائِهِ، لِأَجْلِ وُجُودِ شَرْطِهِ، أَيْ: عِنْدَ تَحَقُّقِ مَضْمُونِ جُمْلَةِ شَرْطِهِ، وَالْمَعْنَى: لَوْلَا دِفَاعُ النَّاسِ عَنْ مَوَاضِعِ عبَادَة الْمُسلمين لَبَغَى الْمُشْرِكُونَ، وَلَتَجَاوَزُوا فِيهِ الْمُسْلِمِينَ إِلَى الِاعْتِدَاءِ عَلَى مَا يُجَاوِرُ بِلَادَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْملَل الْأُخْرَى المُنَاوِئَةِ لِمِلَّةِ الشِّرْكِ، وَلَهَدَمُوا مَعَابِدَهُمْ، مِنْ صَوَامِعَ، وَبِيَعٍ، وَصَلَوَاتٍ، وَمَسَاجِدَ، يُذْكُرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيرًا، بُغْيَةَ مَحْوِ عَقِيدَةِ التَّوْحِيدِ. فَذِكْرُ الصَّوَامِعِ، وَالْبِيَعِ، إِدْمَاجٌ لِيَنْتَبِهُوا إِلَى تَأْيِيدِ الْمُسْلِمِينَ، فَـ "الْـ" التَّعْرِيفِ فِي "النَّاسِ" لِلْعَهْدِ، أَيْ: النَّاسِ الَّذِينَ يَتَقَاتَلُونَ وَهُمُ الْمُسْلِمُونَ وَمُشْرِكُو أَهْلِ مَكَّةَ.
أَمَّا "الصَّوامِع"، فَهُوَ اسْمُ دُورِ العِبَادَةِ عِنْدَ النَّصَارَى، مفردُهُ: صَوْمَعَة، وَوَزْنُهَا "فَوْعَلَةٌ" كَ "دَوْخَلَةٍ"، وَهِيَ البِنَاءُ المُرْتَفِعُ المُسْتَطِيلٌ يُصْعَدُ إِلَيْهِ بِدَرَجٍ وَبِأَعْلَاهُ بَيْتٌ، كَانَ الرُّهْبَانُ يَتَّخِذُونَهُ لِلْعِبَادَةِ بَعيدًا عَنْ مُشَاغَلَةِ النَّاسِ إِيَّاهُمْ، وَكَانُوا يُوقِدُونَ بِهِ مَصَابِيحَ لِلْإِعَانَةِ عَلَى السَّهَرِ لِلْعِبَادَةِ وَلِإِضَاءَةِ الطَّرِيقِ لِلْمَارَّةِ. ولذَلِكَ سُمَّتِ العرَبُ الصَّوْمَعَةَ مَنَارَةً. قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:
تُضِيءُ الظَّلَامَ بِالْعَشِيِّ كَأَنَّهَا ................ مَنَارَةُ مَمْسَى رَاهِبٍ مُتَبَتِّلِ
وَأَمَّا "البِيَع" فهِيَ لليَهُودِ، جَمْعُ "بِيعَةٍ"، وَهِيَ مُتَعَبَّدُ النَّصَارَى. وَقِيلَ: كَنَائِسُ اليَهُودِ.
وَ "صَّلَوَاتُ" فِي الأُمَمِ: صَلَاةُ كُلِّ مِلَّةٍ بِحَسَبِها. وَظاهِرُ كَلَامِ الزَّمَخْشَرِيِّ أَنَّها بِنَفْسِهَا اسْمُ مَكانٍ فَإِنَّهُ قالَ: "وَسُمِّيَتِ الكَنِيسَةُ صَلَاةً لأَنَّهُ يُصَلَّى فيهَا.
وَكَذَلِكَ المَسَاجِدُ والصَّلواتُ، فإنَّ المَذْكورَ في هَذِهِ الآيَةِ الكَريمةِ هيَ دُورُ عِبَادَةٍ لِلْأَدْيَانِ السَّماوِيَّةِ الثَّلاثَةِ، الإِسْلَام، واليَهُودِيَّة، والنَّصْرانِيَّة. والأَشْهَرُ أَنَّ الصَّوامِعَ للرُّهْبانِ، والبِيَعَ للنَّصَارَى، وَالصَّلَواتِ لليَهُودِ، والمَسَاجِدَ للمُسْلِمِينَ. واللهُ أَعْلَمُ. فَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، فِي قَوْلِهِ ـ تَعَالَى: "لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ"، قَالَ: الصَّوامِعُ الَّتِي تَكونُ فِيهَا الرُّهْبَانُ وَالْبِيَعُ مَسَاجِدُ الْيَهُودِ، وَصَلَوَاتُ كَنَائِسِ النَّصَارَى، والمَسَاجِدُ مَسَاجِدُ الْمُسْلِمِينَ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، فِي قَوْلِهِ "صَوَامِعُ" قَالَ: هِيَ للصَّابِئِينَ، وَ "بِيَعُ" لِلنَّصَارَى، و "صَلَوَاتُ" كَنَائِسُ الْيَهُودِ، و "مَسَاجِدُ" للْمُسْلِمِينَ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ أَبي الْعَالِيَةِ الرِّياحيِّ أَيْضًا ـ رَضِيَ اللهُ تعالى عنْهُ، أَنَّهُ قَالَ فِي تَأْويلِ هَذِهِ الْآيَةِ المُباركةِ: "صَوَامِعُ" الرُّهْبَانِ، وَ "بِيَعُ" النَّصَارَى، وَ "صَلَوَاتُ" مَسَاجِدُ الصَّابِئِينَ: يُسَمُّونَهَا بِصَلَوَاتٍ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، فِي قَوْلِهِ ـ تَعَالى: "وصَلَوَاتُ" أَهْلُ الْإِسْلَامِ تَنْقَطِعُ إِذَا دَخَلَ عَلَيْهِمُ الْعَدُوُّ تَنْقَطِعُ الْعِبَادَةُ مِنَ الْمَسَاجِدِ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ أَبي الْعَالِيَةِ الرِّياحِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالى عنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: البِيَعُ: هِيَ بِيَعُ النَّصَارَى، والصَّلَوَاتُ: هيَ بِيَعٌ صِغَارٌ لِلنَّصَارَى أَيْضًا.
وَأَخَرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، فِي الْآيَةِ قَالَ: الصَّوَامِعُ: صَوَامِعُ الرُّهْبَانِ، وَ "بِيَعُ" كَنَائِسُ، و "صَلَوَاتُ" و "مَسَاجِدُ" لِأَهْلِ الْكِتَابِ وَلِأَهْلِ الْإِسْلَامِ بِالطُرُقِ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَريرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُما، قَالَ: البِيَعُ بِيَعُ النَّصَارَى، وَصَلَوَاتُ كَنَائِسُ الْيَهُودِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ عَاصِمٍ الجَحْدَرِيِّ أَنَّهُ قَرَأَ "وَصَلَوَاتٌ" قَالَ: الصَّلَوَاتُ دُونَ الصَّوَامِعِ، وقَالَ: وَكَيْفَ تُهْدَمُ الصَّلَاةُ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِ الضَّحَّاكِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: صَلَوَاتُ كَنَائِسُ الْيَهُودِ يُسَمُّونَ الْكَنِيسَةَ صَلَاةً.
قولُهُ: {يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيرًا} الضَّميرُ هنا عائدٌ إِلَى: صَوامِعُ، وَبِيَعٌ، وَصَلَواتٌ، وَمَساجِدُ فإِنَّ هَذهِ الأَماكِنَ الأَرْبَعَةَ يُذْكَرُ فِيهَا اسمُ اللهِ، وهَذا ما يُثِيرُ حِقْدَ المُشركينَ عَلَيْهَا فَيُبادرونَ إلى هَدْمِها، في مُحاولَةٍ للقَضَاءِ عَلى دِينِ اللهِ ـ تَعَالى، لأَنَّهُمْ كما وَصَفهم اللهُ في الآيَةِ: 45، مِنْ سُورةِ الزُّمَرِ: {وَإِذَا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ}. فَإِنَّ في هَذَا الْوَصْفِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ سَبَبَ هَدْمِهَا أَنَّهَا يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيرًا، أَيْ دائمًا، وَلَا تُذْكَرُ أَسْمَاءُ أَصْنَامِهمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِ الضَّحَّاكِ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، فِي قَوْلهِ ـ تَعَالى: "يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيرًا" يَعْنِي فِي كُلٍّ مِمَّا ذُكِرَ مِنَ الصَّوَامِعِ، والبِيَعِ، وَالصَّلَوَاتِ، وَالمَسَاجِدِ. يَقُولُ: فِي كُلِّ هَذَا يُذْكَرُ اسْمُ اللهِ، وَلَمْ يَخُصَّ الْمَسَاجِدَ.
قولُهُ: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} تعهَّدَ اللهُ لِمَنْ يَنْصُرُ دينَهُ ويقاتلُ في سبيلِه مُخْلِصًا للهِ تَعَالى بِأَنْ يَنْصُرَهُ عَلَى أَعْدَائِهِ، وأنْ يُعِزَّهُ كَمَا سَعَى لعِزَّةِ دينِهِ ـ سُبْحانَهُ.
قولُهُ: {إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} يؤَكِّدُ اللهُ ـ عَزَّ وَجَلَّ، عَلى قوَّتِهِ التي حدودَ لها، وعِزَّتِهِ التي لا مَطْمَعَ فيها، حَتَّى لا يتَسَرَّبَ الوَهْمُ إلى أحَدٍ بِأَنَّهُ ـ تَبَارَكَتْ أَسْماؤُهُ بِحَاجَةٍ لِمَنْ يُقاتِلُ عَنْهُ أَوْ مَعَهُ، وأَنَّ قوَّةً في الوُجودِ يمكِنُ لَهَا أَنْ تقفَ أمامَ قُوَّتِهِ، أَوْ تنالَ مِنْ عِزَّتِهِ، فَهُوَ عِنْدَمَا حَثَّ عبادَهُ المُؤمنينِ على القتالِ ذودًا عَنْ حياضِ الدينَ فإنَّه ما أمَرَهُمْ بذلك إلَّا ليعيشوا أعزاءَ في ديارهم لَا يطمعُ أَحَدٌ بالنَّيْلِ مِنْ كرامتهم وعزَّتِهم، وليكونوا أحرارًا في اعْتِقَادِهِمْ، وَلِيَمْنَحَهُمْ عَظيمَ الثَّوَابِ عَلَى ذَلِكَ في الآخرةِ، كما قالَ: {إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} الآيةَ: 111، مِنْ سورةِ التَّوْبَة. فإنَّ قتالَ الكُفَّارِ والمُشْركينَ والجهادَ لحمايةِ الدينِ وعزَّةِ المُسْلمينَ، مِنْ أَعْظَمِ العِباداتِ والقُرُباتِ التي يَتَقَرَّبُ بِهَا العبدُ إِلَى رَبِّهِ ـ تَبَارَكَ وتَعَالَى.
وفي سَبَبِ نزولِ هَذِهِ الآيةِ المُباركةِ أَخْرَجَ ابْنُ مِرْدُوَيْهِ عَنْ ثابتِ بْنِ عَوْسَجَةَ الحَضْرِمِيِّ ـ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى، قَالَ: حَدَّثَنِي سَبْعَةٌ وَعِشْرُونَ مِنْ أَصْحَابِ عَلِيٍّ، وَعَبْدِ اللهِ (ابْنِ مَسْعودٍ) مِنْهُمْ لَاحِقُ بْنُ الأَرْقَمِ، والعَيْزَارُ بْنُ جَرْوَلٍ، وَعَطَيَّةُ القُرَظِيُّ، أَنَّ عَلَيًّا ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، قَالَ: إِنَّما نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ" وَلَوْلَا دِفَاعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ، بِأَصْحَابِ مُحَمَّدٍ عَنِ التَّابِعِينَ، "لَهُدَّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ" الآيةَ: 40 مِنْ سُورةِ الحَجِّ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ في تفسيرِهِ: (17/174)، عَنْ أَميرِ المُؤمنينَ عَلِيِّ بْنِ أَبي طالبٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، قَالَ: إِنَّمَا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الآيَةُ في أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ ـ صلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ: "وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} الآيةَ: 40، منْ سُورةِ الحَجِّ، قَالَ: لَوْلَا دَفْعُ اللهِ بِأَصْحَابِ مُحَمَّدٍ عَنِ التَّابِعِينَ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ. وأخرجَهُ أَيْضًا ابْنُ المُنْذِرِ، وَابْنُ أَبى حاتِمٍ، وابْنُ مِرْدُوَيْهِ. وكَنْزُ العُمَّالِ: (4529).
وَوَاضِحٌ مِمَّا تقَدَّمَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ الكَريمَةَ إِنَّما هِيَ مِمَّا نَزَلَ بِالْمَدِينَةِ المُنَوَّرةِ، لَا مَحَالَةَ، واللهُ أَعْلَمُ.
قوْلُهُ تَعَالى: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ} الَّذِينَ: اسْمٌ مَوْصُولٌ للجَمْعِ المُذَكَّرِ مَبْنِيٌّ على الفتْحِ فِي مَحَلِّ الجَرِّ بِحَرْفِ الجَرِّ بَدَلًا مِنَ {الَّذِينَ} في الآيَةِ الَّتِي قَبْلَها، أَوْ بيانًا لَهُ أَوْ نَعْتًا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكونَ في مَحَلِّ الرَّفْعِ خَبَرًا لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وَالتَّقْديرُ: هُمُ الَّذينَ، فَتَكونُ هَذِهِ الجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ في محلِّ الجَرِّ على النَّعْتِ، كَمَا يجوزُ أَنْ يكونَ في مَحَلِّ النَّصْبِ عَلَى المَدْحِ. وَ "أُخْرِجُوا" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ للمَجْهُولِ، مَبْنِيٌّ عَلَى الضَّمِّ لاتِّصالِهِ بِوَاوِ الجَمَاعَةِ، وَواوُ الجَماعَةِ ضَميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ، مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ بالنِّيابَةِ عنْ فاعِلِهِ. وَ "مِنْ" حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "أُخْرِجُوا"، و "دِيَارِهِمْ" مجرورٌ بِحَرْفِ الجَرِّ، مُضافٌ، والميمُ: علامةُ الجَمْعِ المُذَكَرِ. وَ "بِغَيْرِ" الباءُ: حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِحَالٍ مِنْ وَاوِ "أُخْرِجُوا"، أَيْ: حَالَةَ كَوْنِ إِخْرَاجِهِمْ مُلْتَبِسًا بِغَيْرِ حَقٍّ، وَ "غَيْرِ" مَجْرُورٌ بحرفِ الجَرِّ مُضافٌ، وَ "حَقٍّ" مَجْرورٌ بالإضافَةِ إِلَيْهِ. والجُمْلَةُ الفعليَّةُ هَذِهِ صِلَةُ الاسْمِ المَوْصُولِ لا محلَّ لها مِنَ الإِعْرَابِ.
قولُهُ: {إِلَّا أَنْ يَقُولُوا} إِلَّا: أَدَاةُ اسْتِثْنَاءٍ، والاسْتِثْناءُ مُنْقَطِعٌ هُنَا، وَ "أَنْ" حَرْفٌ نَاصِبٌ، وَ "يَقُولُوا" فِعْلٌ مُضارِعٌ مَنْصوبٌ بها، وعَلامةُ نَصْبِهِ حَذْفُ النُّونِ مِنْ آخِرِهِ، لِأَنَّهُ مِنَ الأَفْعَالِ الخَمْسَةِ، ووَاوُ الجَمَاعَةِ ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ بالفاعِلِيَّةِ، والأَلِفُ للتَّفْريقِ وَالجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ في تَأْويلِ مَصْدَرٍ مَنْصُوبٍ عَلَى الاسْتِثْنَاءِ، وَهَذَا مِمَّا يُجْمِعُ العَرَبُ عَلَى نَصْبِهِ؛ نَحْوَ: "مَا زَادَ إِلَّا مَا نَقُصَ"، و "مَا نَفَعَ إِلَّا مَا ضَرَّ" لِأَنَّهُ مِنْقَطِعٌ لَا يُمْكِنُ تَوَجُّهُ العَامِلِ إِلَيْهِ، وَمَا كانَ كَذَلِكَ أَجْمَعُوا عَلَى نَصْبِهِ، وَلَكِنَّهُ عَلى تَقْديرِ حَرْفِ الْجَرِّ، كَمَا فِي المُسْتَثْنَى مِنْهُ؛ أَيْ: مَا أُخْرِجُوا بِشَيْءٍ مِنَ الأَشْيَاءِ إلَّا بِقَوْلِهِمْ: "رَبُّنَا اللهُ". فَلَوْ تَوَجَّهَ العَامِلُ جَازَ فِيهِ لُغَتَانِ: النَّصْبُ ـ وَهُوَ لُغَةُ الحِجَازِ، وَأَنْ يَكونَ كالْمُتَّصِلِ فِي النَّصْبِ والبَدَلِ نَحْوَ: "ما فِيهَا أَحَدٌ إِلَّا حِمَارٌ"، وإِنَّما كانَتِ هذهِ الآيَةُ الكَرِيمَةُ مِن الَّذي لَا يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ العَامِلُ لِأَنَّكَ لَوْ قُلْتَ: "الَّذينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنا اللهُ: لَمْ يَصِحَّ. الثاني: أَنَّهُ فِي مَحَلِّ جَرِّ بَدَلًا مِنْ "حَقٍّ"، قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: "أَيْ بِغَيْرِ مُوجِبٍ سِوَى التَّوْحِيدِ الَّذي يَنْبَغِي أَنْ يَكونَ مُوجِبَ الإِقْرارِ وَالتَّمْكِينِ لَا مُوجِبَ الإِخْرَاجِ والتَّسْيِيرِ. وَمِثْلُهُ قولُهُ مِنْ سُورةِ المائدَةِ: {هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللهِ} الآيَةَ: 59. وَمِمَّنْ جَعَلَهُ فِي مَوْضِعِ جَرٍّ بَدَلًا مِمَّا قَبْلَهُ أَبو إسحاقٍ الزَّجَّاجُ. إِلَّا أَنَّ الشَّيْخَ أَبا حَيَّانَ الأندَلُسِيَّ رَدَّ ذَلِكَ قَالَ: "مَا أَجازاهُ مِنَ البَدَلِ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ البَدَلَ لَا يَجُوزُ إِلَّا حَيْثُ سَبَقَهُ نَفْيٌ أَوْ نَهْيٌ أَوِ اسْتِفْهَامٌ فِي مَعْنَى النَّفْيِ. وَأَمَّا إِذَا كانَ الكَلَامُ مُوجَبًا، أَوْ أَمْرًا فَلَا يَجُوزُ الْبَدَلُ؛ لِأَنَّ البَدَلَ لَا يَكُونُ إِلَّا حَيْثُ يَكُونُ العَامِلُ يَتَسَلَّطُ عَلَيْهِ. وَلَوْ قُلْتَ: "قَامَ إِلَّا زَيْدٌ"، وَ "لْيَضْرِبْ إِلَّا عَمْرٌو" لَمْ يَجُزْ. وَلَوْ قُلْتَ فِي غَيْرِ القُرْآنِ: "أُخْرِجَ النَّاسُ مِنْ دِيَارِهِمْ إِلَّا بِأَنْ يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ" لَمْ يَكُنْ كَلَامًا. هَذَا إِذَا تُخُيِّلَ أَنْ يَكُونَ {إِلَّا أَنْ يَقُولُواْ} فِي مَوْضِعِ جَرٍّ بَدَلًا مِنْ "غَيْرِ" المُضَافِ إِلَى "حَقٍّ". وَأَمَّا إِذَا كَانَ بَدَلًا مِنْ "حَقٍّ" كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الزَّمَخْشَرِيُّ، فَهُوَ فِي غَايَةِ الفَسَادِ؛ لأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ البَدَلُ يَلِي "غَيْرًا" فَيَصِيرُ التَّرْكِيبُ: بِغَيْرِ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا، وَهَذَا لَا يَصِحُّ، وَلَوْ قَدَّرْنا إِلَّا بـ "غَيْرِ" كَمَا يُقَدَّرُ فِي النَّفْيِ فِي: "مَا مَرَرْتُ بْأَحَدٍ إِلَّا زَيْدٍ" فَتَجْعَلُهُ بَدَلًا لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ التَّرْكِيبُ: بِغَيْرِ غَيْرِ قَوْلِهِمْ رَبُّنَا اللهُ، فَتَكُونُ قَدْ أَضَفْتَ غَيْرًا إِلَى "غَيْرِ" وَهِيَ هِيَ فَيَصِير: بِغَيْرِ غَيْرٍ، وَيَصِحُّ فِي "مَا مَرَرْتُ بِأَحَدٍ إِلَّا زَيْدٍ" أَنْ تَقُولَ: مَا مَرَرْتُ بِغَيْرِ زَيْدٍ، ثُمَّ إِنَّ الزَّمَخْشَرِيَّ حَيْثُ مَثَّلَ البَدَلَ قَدَّرَهُ: بِغَيْرِ مُوجبٍ سِوَى التَّوْحِيدِ، وَهَذَا تَمْثيلٌ للصِّفَةِ جَعَلَ "إِلَّا" بِمَعْنَى سِوَى، وَيَصِحُّ عَلَى الصِّفَةِ فَالْتَبَسَ عَلَيْهِ بَابُ الصِّفَةِ بِبَابِ البَدَلِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَقُولَ: "مَرَرْتُ بِالْقَوْمِ إِلَّا زَيْدٍ" عَلَى الصِّفَةِ لَا عَلَى البَدَلِ. وَبحسَبِ قَولِ بَعْضِهِمْ ـ الزَّمَخْشَريِّ وغيرِهِ، بِأَنَّ هَذَا الاسْتِثْنَاءَ مُفَرَّغٌ لِوُجُودِ النَّفْيِ بِـ "غَيْرِ"، تَكُونُ "إِلَّا": أَدَاةَ حَصْرٍ. وَ "أَنْ يَقُولُوا" فِي مَحَلِّ جَرٍّ عَلَى البَدَلِيَّةِ مِنَ "حَقٍّ"؛ أَيْ: بِغَيْرِ مُوجِبٍ سِوَى التَّوْحِيدِ، الَّذي يَنْبَغِي أَنْ يَكونَ مُوجِبَ الإِقْرَارِ وَالتَّمْكِينِ، لَا مُوجِبَ الإِخْرَاج وَالْتَسْيِيرِ.
قولُهُ: {رَبُّنَا اللهُ} رَبُّنَا: مَرفوعٌ بالابْتِدَاءِ، مُضافٌ، و "نَا" ضميرُ جَمَاعَةِ المُتَكَلِّمِينَ مُتَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ الجرِّ بالإضافةِ إلَيْهِ. ولفظُ الجلالةِ "اللهُ" خَبَرُ المُبتدَأِ مَرفوعٌ، وَهذِهِ الْجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ في مَحَلِّ النَّصْبِ مَقُولُ القَوْلِ لِـ "يَقُولُوا".
قولُهُ: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} الواوُ: اسْتِئْنَافِيَّةٌ. و "لَوْلَا" حَرْفُ امْتِنَاعٍ لِوُجُودٍ، مُتَضَمِّنٌ مَعْنَى الشَّرْطِ. و "دَفْعُ" مَرفوعٌ بالابْتِدَاءِ مَحْذُوفُ الخَبَرِ وُجُوبًا لِقِيامِ جَوَابِ "لَوْلَا" مَقَامَهُ، تَقْديرُهُ مَوْجُودٌ. وَهُوَ مَصْدَرٌ مُضَافٌ إِلَى الفَاعِلِ، و "دَفْعُ" مُضافٌ، وَلَفْظُ الجَلَالَةِ "اللهِ" مَجْرُورٌ بالإِضَافةِ إِلَيْهِ. و "النَّاسَ" مَفْعُولُ "دَفْعُ" مَنصوبٌ بِهِ لِأَنَّ المَعْنَى وَلَوْلَا أَنْ دَفَعَ اللهُ النَّاسَ. و "بَعْضَهُمْ" مَنْصوبٌ على أَنَّهُ بَدَلٌ مِنَ النَّاسِ، وهوَ مُضافٌ، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بحرفِ الجَرِّ، والميمُ للجمعِ المُذَكَّرِ. و "بِبَعْضٍ" الباءُ: جرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "دَفْعُ"، و "بعضٍ" مجرورٌ بِحَرْفِ الجَرِّ.
قوْلُهُ: {لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ} اللَّامُ: رَابِطَةٌ لِجَوَابِ "لَوْلَا". و "هُدِّمَتْ" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ للمَجْهولِ (مُغَيَّرُ الصِّيغةِ) مبنيٌّ على الفتْحِ، والتاءُ السَّاكِنَةُ لِتَأْنيثِ الفاعِلِ، و "صَوَامِعُ" نَائِبٌ عنْ فاعِلِهِ مَرْفوعٌ، ولمْ يُنَوَّنْ لأنَّهُ ممنوعٌ منَ الصَّرْفِ على وزنِ "مَساجِد". و "بِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ" مَعْطوفاتٌ عَلَى "صَوَامِعُ" مرفوعاتٌ مِثلها. والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ جَوَابُ "لَوْلَا"، لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرَابِ. وَجُمْلَةُ "لَوْلَا" مُسْتَأْنَفَةٌ لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ أَيْضًا.
قولُهُ: {يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيرًا} يُذْكَرُ: فِعْلٌ مُضَارِعٌ مبنيٌّ للمجهولِ (مُغَيَّرُ الصِّيغَةِ)، مرفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ النَّاصِبِ والجازِمِ. وَ "فِيهَا" في: جرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "يُذْكَرُ"، و "ها" ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ الجرِّ بحرفِ الجَرِّ. و "اسْمُ" نَائِبٌ عَنْ فَاعِلِهِ مرفوعٌ مُضافٌ، ولفظُ الجلالةِ "اللهِ" مجرورٌ بالإضافةِ إلَيْهِ. وَ "كَثِيرًا" صِفَةٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ؛ أَيْ: ذِكْرًا كَثَيرًا، أَوْ صِفَةٍ لِظَرْفٍ مَحْذُوفٍ؛ أَيْ: وَقْتًا كَثِيرًا. وَالجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ على أنَّها صِفَةٌ لِتِلْكَ الأَمَاكنِ المَذْكُورَةِ آنفًا، وذلكَ إِنْ أَعَدْنَا الضَّمِيرَ مِنْ "فِيهَا" عَلَى تلكَ الأماكِنِ، وَيجوزُ أَنْ تكونَ صِفَةً للْمَسَاجِدِ فَقَط، إِنْ خَصَصْنَا الضَّمَيرَ مِنْ "فيها" بِهَا، لكِنَّ الأَوَّلَ أَظْهَرُ.
قوْلُهُ: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ} الواوُ اسْتِئْنَافِيَّةٌ. وَاللَّامُ: هيَ المُوَطِّئَةُ للْقَسَمِ. و "يَنْصُرَنَّ" فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَبْنِيٌّ عَلَى الفَتْحِ لاتِّصالِهِ بنونِ التوكيدِ الثقيلةِ في مَحَلِّ الرَّفْع، لِتَجَرُّدِهِ مِنَ النَّاصِبِ وَالجَازِمِ. ولفظُ الجلالةِ "اللهُ" مرفوعٌ بالفاعِلِيَّةِ. و "مَنْ" اسْمٌ مَوْصُولٌ مبنيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ النَّصْبِ على المَفْعُولِيَّةِ. وَالجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ جَوَابٌ لِقَسَمٍ مَحْذُوفٍ لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ. وَجُمْلَةُ القَسَمِ المحذوفِ مُسْتَأْنَفَةٌ لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ أيْضًا.
قولُهُ: {يَنْصُرُهُ}: فِعْلٌ مُضارعٌ مرفوعٌ لتجرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وَفَاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتترٌ فهِ جوازًا تَقْديرُهُ (هوَ) يَعُودُ عَلَى "مَنْ". والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بهِ في محلِّ النَّصْبِ على المفعولِيَّةِ، وَالجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ صِلَةُ "مَنْ" المَوْصُولَةِ لا محلَّ لها مِنَ الإِعرابِ.
قوْلُهُ: {إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} إِنَّ: حرفٌ ناصِبٌ، ناسِخٌ، مُشَبَّهٌ بالفِعْلِ للتوكيدِ، وَلفظُ الجلالةِ "اللهَ" اسْمُهُ مَنْصُوبٌ بِهِ. و "لَقَوِيٌّ" اللَّامُ المُزَحْلَقةُ للتوكيدِ (حَرْفُ ابْتِدَاءٍ). و "قَوِيٌّ" خَبَرٌ أَوَّلُ لِـ "إِنَّ" مرفوعٌ بِها. وَ "عَزِيزٌ" خَبَرُها الثاني مرفوعٌ بِها أَيْضًا، وَالجُملةُ مِنْ "إِنَّ" واسْمِها وخبرِها مُسْتَأْنَفَةٌ مَسُوقَةٌ لِتَعْلِيلِ النَّصْرِ لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
قَرَأَ العامةُ: {وَلَوْلاَ دَفْعُ اللهِ النَّاسَ} الدَّفعُ: هُوَ مَصْدَرُ: دَفَعَ يَدْفَع الثُّلاثيَّ. وأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ عَاصِمٍ ـ رَحِمَهُ اللهُ، أَنَّهُ قَرَأَ: "وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ"، بِغَيْرِ الْأَلِفِ.
قرأَ العامَّةُ: {لَهُدِّمتْ} بِتَثْقِيلِ الدَّالِ عَلَى التَّكْثِيرِ؛ لِأَنَّ المَوَاضِعَ كَثِيرةٌ مُتَعَدِّدَةٌ، وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ كَثِيرٍ "لَهُدِمَتْ" بالتَّخْفِيفِ، وَهَذِهِ القِرَاءَةُ صَالِحَةٌ لِهَذَا المَعْنَى أَيْضًا.
قَرَأَ العامَّةُ: {وَصَلَواتٌ} بِفَتْحِ الصَّادِ وَاللَّامِ، وهوَ جَمْعُ صَلَاةٍ.
وَقَرَأَ جَعْفَرُ ابْنُ مُحَمَّدٍ "صُلُواتٌ" بِضَمِّهِمَا. وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَرَأَ أَيْضًا "صِلْواتٌ" بِكَسْرِ الصَّادِ، وَسُكُونِ اللَّامِ.
وَقَرَأَ الجَحْدَرِيُّ: "صُلَوَاتٌ" بِضَمِّ الصَّادِ، وَفَتْحِ اللَّامِ.
وقرأَ أَبُو العَالِيَةَ "صَلْواتٌ" بِفَتْحِ الصَّادِ، وَسُكُونِ اللَّامِ.
وقرأَ أَيْضًا الجَحْدَرِيُّ "صُلُوْتٌ" بِضَمِّهِمَا وَسُكُونِ الوَاوِ، بَعْدَهَا تَاءٌ مُثَنَّاةٌ مِنْ فَوْقُ مِثْلَ: "صُلْب" و "صُلُوب".
وقرَأَ الكَلْبِيُّ وَالضَّحَّاكُ كَذَلِكَ أَيْضًا، إِلَّا أَنَّهُمَا أَعْجَمَا التَّاءَ بِثَلاثٍ مِنْ فَوْقِهَا.
وَقَرَأَ الجَحْدَرِيُّ أَيْضًا وَأَبُو العَالِيَةِ، وَأَبُو رَجَاءٍ، وَمُجاهِدٌ كَذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهُمْ جَعَلُوا بَعْدَ الثَّاءِ المُثَلَّثَةِ أَلِفًا فَقَرَؤوا "صُلُوْثا". وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي هَذَهِ التَّاءِ المُثَنَّاةِ مِنْ فَوْقُ أَيْضًا.
وَرُوِيَ عَنِ الجَحْدَرِيِّ أنَّهُ قرأَ أَيْضًا "صُلْواثٌ" بِضَمِّ الصَّادِ، وَسُكُونِ اللَّامِ، وبأَلِفٍ بَعْدَ الوَاوِ، وبالثَّاءِ مُثَلَّثَةً.
وَقَرَأَ عِكْرِمَةُ: "صِلْوِيثَى" بِكَسْرِ الصَّادِ وَسُكُونِ اللَّامِ، وَبَعْدَهَا وَاوٌ مَكْسُورَةٌ، بَعْدَهَا يَاءٌ مُثَنَّاةٌ مِنْ تَحْتُ، بَعْدَهَا ثَاءٌ مُثَلَّثَةٌ. وَحَكَى ابْنُ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قُرِئَ "صِلْواث" بِكَسْرِ الصَّادِ وَسُكونِ اللَّامِ. بَعْدَهَا وَاوٌ، بَعْدَهَا أَلِفٌ، بَعْدَهَا ثَاءٌ مُثَلَّثَةٌ.
وَقَرَأَ الجَحْدَرِيُّ "وَصُلُوبٌ" مِثْلُ "كُعُوْب" بِالبَاءِ المُوَحَّدَةِ آخِرَهُ، وَهُوَ جَمْعُ "صَلِيبٍ"، وَ "فُعُوْلٌ" جَمْعُ "فَعِيلِ" شَاذٌّ، نَحْوَ: ظَريفٍ، وَظُروفٍ، وأَسِينَةِ وَأُسُونٍ، وَرُوِيَ عَنْ أَبي عَمْرٍو أنَّهُ قرَأَ "صَلَوَاتُ" كَالْعَامَّةِ، إلَّا أَنَّهُ لَمْ يُنَوِّنْ، فقد مَنَعَهُ مِنَ الصَّرْفِ بِالْعَلَمِيَّةِ وَالعُجْمَةِ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَهُ اسْمَ مَوْضِعٍ، فَهَذِهِ أَرْبَع عَشرَةَ قِرَاءَةً فيها، وَالمَشْهُورُ مِنْهَا وَاحَدَةٌ، وَهِيَ هَذِهِ الصَّلَاةُ المَعْهُودَةُ.
وَلَا بُدَّ مِنْ حَذْفِ مُضَافٍ لِيَصِحَّ تَسَلُّطُ الهَدْمِ عَلَيْهَا أَيْ: مَوَاضِعُ صَلَوَاتٍ، أَوْ يُضَمَّنَ "هُدِّمَتْ" مَعْنَى "عُطِّلَتْ" فَيَكون قَدْرًا مُشْتَرَكًا بَيْنَ المَوَاضِعِ وَالأَفْعَالِ؛ فَإِنَّ تَعْطِيلَ كُلِّ شَيْءٍ بِحَسَبِهِ.
وَقد أَخَّرَ المَسَاجِدَ لِأَنَّها الأَحْدَثُ وُجُودًا، أَوْ للانْتِقَالِ إِلَى الأَشْرَفِ فالأَشْرَفِ. وَالصَلَوَاتُ في الأُمَمِ، كُلِّ مِلَّةٍ صَلَاتُها بِحَسَبِها. وَظَاهِرُ كَلَامِ الزَّمَخْشَرِيِّ أَنَّهَا بِنَفْسِهَا اسْمُ مَكانٍ، فَإِنَّهُ قال: وَسُمِّيَتِ الكَنِيسَةُ صَلَاةً لأَنَّهُ يُصَلَّى فيها.