يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ
(76)
قوْلُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} يجوزُ أَنْ يعودَ الضَمِيرانِ مِنْ "أَيْدِيهِمْ" وَ "خَلْفَهُمْ" إِلَى الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ عَادَ إِلَيْهِمْ الضَمِيرُ مِنْ قولِهِ في الْآيةُ: 67، السَّابقة: {فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ}، وَيجوزُ أَنْ يَعُودَا إِلَى "الْمَلَائِكَةِ" وَ "النَّاسِ" مِنْ قولِهِ في الآيةِ: 75، السابقةِ. {اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ} أَيْ: يَعْلَمُ مَا يَفْعَلُ رُسُلُه مِنَ المَلاَئِكَةِ ومِنَ البَشَرِ وَمَا يَجْرِي مَعَهُمْ فِيمَا أَرْسَلَهُمْ بِهِ، وَلاَ يَخْفَى عَلَيْهِ شَيءٌ مِنْ أَمْرِهِمْ، ولا شَأْنٌ مِنْ شؤونِهِمْ، فَهُوَ ـ سُبْحَانَهُ وتَعَالى، عَلَيْهِم رَقِيبٌ، وعَلَى مَا يُقَالُ لَهُمْ ويفعَلُ بِهِم شَهِيدٌ، وَلَهُمْ مؤيِّدٌ وَنَاصِرٌ وحْفَظٌ. قَالَ ـ تَعَالى، مِنْ سُورَةِ الجِنِّ: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا * لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا} الآيَاتِ: (26 ـ 28)، فَهُو ـ تَبَارَكَتْ أَسْماؤُهُ، لَهُمُ نَاصِرٌ وحافظٌ كَمَا قالَ مِنْ سُورَةِ المَائِدَةِ: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} الآية: 67.
وَقولُهُ: "مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ" مُسْتَعَارٌ هنا لِمَا يُظْهِرُونَهُ، وَ "مَا خَلْفَهُمْ" مُسْتعارٌ لِمَا يُخْفُونَهُ، لِأَنَّ الشَّيْءَ الَّذِي يُريدُ صَاحِبُهُ أَنْ يُظْهِرُهُ يَجْعَلُهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَيَجْعَلُه الشَّيْءَ الَّذِي أَنْ يُخْفِيهِ وَرَاءَهُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قولُهُ: "مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ" مُسْتَعَارًا لِمَا سَيَكُونُ مِنْ أَحْوَالِهِمْ، لِأَنَّهَا تُشْبِهُ الشَّيْءَ الَّذِي هُوَ تُجَاهَ الشَّخْصِ، وَهُوَ يَمْشِي إِلَيْهِ، وَ "ما خَلْفَهُمْ" يجوزُ أَنْ يكونَ مُسْتَعَارًا لِمَا مَضَى مِنْ أَحْوَالِهِمْ، لِأَنَّهَا تُشْبِهُ مَا تَجَاوَزَهُ السَّائِرُ وتَرَكَهُ وَرَاءَهُ.
وَذَكَرَ الإمامُ البَغَوِيُّ في تفسيرِهِ: (5/401). عنِ ابْنُ عبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُما، أَنَّهُ قَالَ: "يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْديهِمْ" يُريدُ مَا قدَّمُوا، "وَمَا خَلْفَهُمْ" يُريدُ مَا خَلَفُوا. وَنقَلَ أَيْضًا عَنِ الإِمَامِ الحَسَنِ البَصْريُّ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، أَنَّهُ قالَ: "مَا بَيْنَ أَيْديهِمْ" مَا عَمِلُوهُ، و "مَا خَلْفَهُمْ" مَا هُمْ عَامِلونَ مِمَّا لَمْ يَعْمَلُوا بَعْدُ. المَصْدَرُ السَّابِق. وَقَالَ مُقاتِلُ بْنُ سُليمانَ في تفسيرِهِ: يَعْلَمُ مَا كَانَ قَبْلَ خَلْقِ المَلَائِكَةِ، وَيَعْلَمٌ مَا يَكُونُ بَعْدَ خَلْقِهِمِ. تَفْسيرُهُ: (2/28 ب)، وَحَكَاهُ أَيْضًا عَلِيُّ ابْنُ عِيسَى. وَنَقَلَ الإِمامُ المَاوَرْدِيُّ في تَفْسيرِهِ (النُّكَتُ والعُيُونُ) عَنْ يَحْيَى بْنُ سَلَّامِ بْنِ ثَعلَبَةَ ـ رَحِمُهُ اللهُ، أَنَّهُ قالَ: "مَا بَيْنَ أَيْديهِمْ" مِنْ أَمْرِ الآخَرَةِ، "وَمَا خَلْفَهُمْ" مِنْ أَمْرِ الدُّنْيا. وَيُحْتَمَلُ: أَنَّ المُرادَ: "مَا بَيْنَ أَيْديهِمْ" مِنْ أُمُورِ السَّمَاءِ، "وَما خَلْفَهُمْ" مِنْ أُمُورِ الأَرْضِ. واللهُ أَعْلَمُ.
وَهَذِهِ الجُمْلَةُ الكريمةُ مُقَرِّرَةٌ لِمَضْمُونِ جُمْلَةِ {إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} مِنَ الآيةِ الَّتي قَبْلَها، وَفَيها ـ زِيَادَةً عَلَى التَّقْرِيرِ، تَعْرِيضٌ بِوُجُوبِ مُرَاقَبَتِهِمْ رَبَّهُمْ فِي سِرِّهم وَالْعَلَانِيَةِ، لِأَنَّهُ لَا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ في الأرضِ ولا في السَّماءِ، وهوَ السَّميعُ البَصيرُ.
قولُهُ: {وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} وَإِلَى اللهِ: قُدِّمَ الجارُّ والْمَجْرُورِ هُنَا لِيُفَيدَ ذلكَ الْحَصْرَ الْحَقِيقِيَّ، أَيْ: إِلَى اللهِ وحدَهُ لَا إِلَى غَيْرِهِ يَرْجِعُ الْجَزَاءُ يومَ القيامةِ لِأَنَّهُ هُوَ مَلِكُ يَوْمِ الدِّينِ وَلَا مَلِكَ سِواهُ.
وَقدْ بُنِيَ فِعْلُ "تُرْجَعُ" علَى المَفْعُولِ لِأَنَّ فَاعِلَ الْإِرْجَاعِ مَعْرُوفٌ ظاهِرٌ، فَإِنَّ مِثْلَ هَذَا الفِعْلِ العَظِيمِ لَا يَلِيقُ إِلَّا بِالإلَهِ العَظِيمِ ـ تَبَارَكَتْ أَسْماؤُهُ، فَهُوَ الذي يُمْهِلُ النَّاسَ فِي الدُّنْيَا، وَهُوَ الذي تُرْجَعُ إِلَيْهِ الْأُمُورُ كُلُّها يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَإِرْجَاعُ الْأُمُورِ إِلَيْهِ ـ سُبحانَهُ، مَعْنَاهُ إِرْجَاعُ الْقَضَاءِ إِلَيْهِ ـ تَعَالَى، يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي جَزَائِهَا مِنْ ثَوَابٍ وَعِقَابٍ. أَيْ: وَيَوْمَ القِيَامَةِ يَرْجِعُ إِلَيهِ ـ تَعَالَى، أَمْرُ الخَلْقِ كُلِّهِمْ، فَيُحَاسِبُهُم، ويَجْزِي كُلًّا مِنْهُمْ بِمَا عَمِلَ. وَلذلكَ جِيءَ بِـ "ال" التَّعْرِيفُ فِي قولِهِ: "الْأُمُورُ" لِأَنَّها تُفيدُ الِاسْتِغْرَاقَ، أَيْ كُلِّ أَمْرٍ. فَقد جَمَعَ بِذَلِكَ بَيْنَ الْبِشَارَةِ وَالنِّذَارَةِ ـ تَبَعًا لِلجُمْلةِ الِّتي قَبْلَها، وَهِيَ قَوْلُهُ ـ تَعَالى: "يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ".
قوْلُهُ تَعَالَى: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} يَعْلَمُ: فِعْلٌ مُضَارِعٌ مرفوعٌ لتَجَرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وَفَاعِلُهُ مُسْتَتِرٌ فيهِ جَوزًا تقديرُهُ (هُوَ) يَعُودُ عَلَى اللهِ ـ تَعَالَى. و "مَا" اسْمٌ مَوْصُولٌ مبنيٌّ على السكونِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ عَلَى المَفْعُولِيَّةِ لِـ "يَعْلَمُ". و "بَيْنَ" مَنْصُوبٌ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ الاعْتِبَارِيَّةِ، مُتَعلِّقٌ بِصِلَةٍ لِـ "مَا"، وهُوَ مُضافٌ، وَ "أَيْدِيهِمْ" مَجرورٌ بالإضَافَةِ إِلَيْهِ، وَعَلَامَةُ جَرِّهِ مقدَّرةٌ عَلى آخِرِهِ لِثِقَلِ ظهورِ الكَسْرةِ على الياءِ، وهوَ مُضافٌ أَيْضًا، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إلَيْهِ، والميمُ: علامةُ تَذْكيرِ الجَمعِ. وَقولُهُ: "مَا خَلْفَهُمْ" مَعْطُوفٌ عَلَى "مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ" ولهُ مِنَ الإعرابِ مثْلُهُ. وَالجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ خَبَرٌ ثَالِثٌ لِـ {إِنَّ} مِنْ قولِهِ في الآيةِ التي قبلَها: {إِنَّ اللهَ سميعٌ بَصِيرٌ}، والتقديرُ: إنَّ اللهَ سميعٌ بَصِيرٌ عالمٌ ..، وَيجوزُ أنْ تكونَ مُسْتَأْنَفَةً لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعراب.
قولُهُ: {وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} الواوُ: عاطِفَةٌ، أَوْ اسْتِئْنَافِيَّةٌ. و "إلى" حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "تُرْجَعُ"، ولفظُ الجلالةِ "اللهِ" مجرورٌ بها. وَ "تُرْجَعُ" فِعْلٌ مُضارعٌ مَبْنِيٌّ للمَجْهُولِ، مرفوعٌ لتجَرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وَ "الْأُمُورُ" نَاِئبُ فَاعِلِهِ مَرْفوعٌ بِهِ، وَالْجُمْلَةُ الفعليَّةُ هَذِهِ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ "يَعْلَمُ" على كونِها خَبَرَ إِنَّ الثالثَ في محلِّ الرَّفعِ، أَوْ مُسْتَأْنَفَةً لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ.