يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (12)
قولُهُ ـ تَعالى شأْنُهُ: {يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ} الَّذي يَدْعُو هُوَ الْمُشْرِكُ الَّذِي يَعْبُدُ الْأَوْثَانَ، الَّذينَ جاؤُوا إِلَى رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مُظْهِرينَ الإيمانَ نِّفَاقًا، وَهُمُ الذينَ تَحَدَّثَتْ عَنْهُمُ الآيَةُ السَّابقةُ، فوَصَفَتْهُمْ بأنَّهُمْ يُعْبُدونَ على حَرفٍ.
فكانُوا إِذا رَجَعُوا إِلَى دِينِهِمُ السَّابقِ وشِرْكِهِمْ يَسْتَغِيثُونَ بِالْأَصْنَامِ وَالْأَنْدَادِ وَيَسْتَنْصِرُونَهَا وَيَسْتَرْزِقُونَهَا، إِذَا تعرَّضُوا لِأَيِّ شِدَّةٍ، أَوْ وَجَدُوا أَنَّ الإِسْلامَ لَمْ يُحَقِّقْ لَهُمْ مَصَالِحَهُمْ ومَنَافعَهُم الشَّخصيَّةَ الآنِيَّةَ كَمَا بَيَّناهُ هناكَ فِي مَوْضِعِهِ.
قولُهُ: {مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ} أَيْ يدْعُونَ لِمَنْفَعَتِهِمْ وَدَرْءِ الشَّرِّ والضُّرِّ عَنْهُمْ مَنْ لَا يَنْفَعُهُ إِنْ عَبَدَهُ وأَطاعَهُ، وَلَا يَضُرُّهُ إِنْ تَرَكَ عِبَادَتَهُ وَانْصَرَفَ عَنْهُ فَلَمْ يَعْبُدْهُ.
فالمُرادُ هُنَا الصَّنَمُ، فَقَدْ أَخَرْجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "يَدْعُو مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَا يَضُرُّهُ" إِنْ عَصَاهُ فِي الدُّنْيَا، وَ "مَا لَا يَنْفَعهُ" إِنْ أَطَاعَهُ وَهُوَ الصَّنَمُ.
وَقِيلَ: بِأَنَّ الْمُرَادَ هُنَا رُؤَسَاؤُهُمُ الَّذِينَ كَانُوا يَفْزَعُونَ إِلَيْهِمْ، لِأَنَّهُ يَصِحُّ مِنْهُمْ النَّفْعُ وَالضُّرُّ ـ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرِ، واللهُ أَعْلَمُ بمُرادِهِ.
قولُهُ: {ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ} وَأَيُّ ضَلَالٍ أَكْبَرُ مِنْ أَنْ يدَعَ الإِنْسَانُ عِبَادَةَ رَبِّهِ الَّذي خَلَقَهُ وَأَسْبَغَ عَلَيْهِ نِعَمَهُ، وَيَعْبُدَ مِنْ دونِهِ مَنْ لَا يَرْجُو منهُ أَيَّ نَفْعٍ، وَلَا يَخْشَى مِنْهُ الضُّرَّ فِي شَيْءٍ أَبَدًا، وَقَدْ أَعْطاهُ اللهُ عَقْلًا يُفَرِّقُ بِهِ بَيْنَ الحَقِّ وَالبَاطِلِ، ما هوَ نافِعٌ وما ضارٌّ، وأَرْسَلَ لُهُ رُسُلًا يُبَصِّرُونَهُ عَاقِبَةَ أَمْرِهِ، وَأَنَزَلَ مَعَهُمُ الكِتَابَ وَالفُرْقَانَ. فَمَا أَجْهَلَ هذا الإنْسانَ وَمَا أَغْبَاهُ، وَمَا أَغْرَبَ أَمْرَهَ وَمَا أَعْجَبَ مَرْمَاهُ، وَمَا أَبَعَدَ ضَلَالَهُ وَمَا أَتْعَسَهُ وما أَشْقَاهُ.
قولُهُ تَعالى: {يَدْعُو مِنْ دُونِ اللهِ ما} يَدْعُو: فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَرْفوعٌ لتَجَرُّدِهِ مِنَ النَّاصِبِ والجازِمِ، وعلامةُ رَفْعِه ضمَّةٌ مُقدَّرةٌ على آخِرِهِ لِثِقَلِها على الواوِ. وَفَاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ فِيهِ جوازًا تقديرُهُ (هُوَ) يَعُودُ عَلَى العَابِدِ. وَ "مِنْ" حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِحَالٍ مِنْ فَاعِلِ "يَدْعُو"، أَيْ: حَالَةَ كَوْنِهِ مُتَجَاوِزًا اللهَ بِعِبَادَتِهِ إِلَى غَيْرِهِ، و "دُونِ" مجرورٌ بحرفِ الجَرِّ، مُضافٌ، ولَفْظُ الجلالةِ "اللهِ" مَجْرُورٌ بالإضافةِ إِلَيْهِ. و "مَا" مَوْصُولَةٌ مبنِيَّةٌ عَلَى السُّكونِ في محلِّ النَّصْبِ عَلَى المَفْعُولِيَّةِ لِـ "يَدْعُو"، أَوْ نَكِرَةٌ مَوْصُوفَةٌ. وَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإعْرابِ، أَوْ في محلِّ النَّصْبِ على الحالِ مِنْ فاعِلِ {يَعْبُدُ} في قَوْلِهِ مِنَ الآيةِ الَّتِي قبلَهَا: {مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلَى حَرْفٍ}.
قولُهُ: {لَا يَضُرُّهُ} لَا": نَافِيَةٌ. و "يَضُرُّهُ" فِعْلٌ مُضارعٌ مَرْفوعٌ لتجَرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وَفَاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلَى فاعِلِ "يَدْعُو"، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ النَّصْبِ على المَفعوليَّةِ، والجُمْلَةُ صِلَةٌ لِـ "مَا" الموصولةِ في مَحَلِّ النَّصْبِ، أَوْ صِفَةٌ لَهَا إنْ أُعْرِبتْ نَكِرةً موصوفةً.
قولُهُ: {وَمَا لَا يَنْفَعُهُ} الواوُ: للعَطْفِ، والجملةُ مَعْطُوفَةٌ على جملةِ قولِهِ "مَا لَا يَضُرُّهُ" وَلَهَا مِثْلُ إِعْرابِها.
قولُهُ: {ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ} ذَلِكَ: "ذا" اسْمُ إشارةٍ مبنيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالابْتِدَاءِ، واللامُ: للبُعْدِ، والكافُ للخِطابِ. و "هُوَ" ضَمِيرُ فَصْلٍ للتوكيدِ. و "الضَّلَالُ" خَبَرُ المبتدَأِ مرفوعٌ. و "الْبَعِيدُ" صِفَةٌ للخَبَرِ مَرفوعةٌ مِثْلُهً، وَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ.