ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ
(32)
قولُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ} الشَّعَائِرُ: جَمْعُ شَعِيرَةٍ، والشَّعيرَةُ هِيَ الْمَعْلَمُ الْوَاضِحُ مُشْتَقَّةٌ مِنَ الشُّعُورِ. وَالشَعيرَةُ: البَدَنَةُ تُهْدَى. وَأَعْمَالُ الحَجِّ تُسَمَّى: شَعَائِرَ. وكلُّ مَا جُعِلَ عَلَمًا لِطَاعَةِ اللهِ ـ تَعَالَى، وَاحدَتُها شَعيرَةٌ، وَشِعَارَةٌ. قَالَ ـ تَعَالَى، مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ: {إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ} الآيةَ: 158، فَكُلُّ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ بِزِيَارَتِهِ أَوْ بِفِعْلٍ يُوقَعُ فِيهِ فَهُوَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ، أَيْ مِمَّا أَشْعَرَ اللهُ النَّاسَ وَقَرَّرَهُ وَشَهَرَهُ. وَهِيَ مَعَالِمُ الْحَجِّ: الْكَعْبَةُ، وَالصَّفَا وَالْمَرْوَةُ، وَعَرَفَةُ، وَالْمَشْعَرُ الْحَرَامُ، وَنَحْوُهَا مِنْ مَعَالِمِ الْحَجِّ. والمَشَاعِرُ: مَوَاضِعُ مَنَاسِكِ الحَجِّ. وَشَعَائِرُ اللهِ: لَقَبٌ لِمَنَاسِكِ الْحَجِّ، وَشَعِيرَة: أَيْ مُشْعِرَة بِصِيغَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ أَيْ مُعْلِمَةٍ بِمَا عَيَّنَهُ اللهُ. فَتَكُونُ شَعِيرَةٌ فَعِيلَةً بِمَعْنَى مُفْعُولَةٍ لِأَنَّهَا تُجْعَلُ لِيَشْعُرَ بِهَا الرَّائِي. والمَشْعَرُ الحَرَامُ أَحَدُ هَذِهِ المَشَاعِرِ. وكَسْرُ المِيمِ لُغَةٌ في المَشْعَرِ، فتقولُ: المِشْعَر الحَرَامِ. وَتُطْلَقُ الشَّعِيرَةُ أَيْضًا عَلَى بَدَنَةِ الْهَدْيِ. قَالَ ـ تَعَالَى، في الآيةِ: 36، مِنْ هَذِهِ السُّورةِ المُباركةِ: {وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللهِ}، لِأَنَّهُمْ يَجْعَلُونَ فِيهَا شِعَارًا، أَيْ عَلَّامَةً بِأَنْ يَطْعَنُوا فِي جِلْدِ جَانِبِهَا الْأَيْمَنِ حَتَّى يَسِيلَ مِنْهُ الدَّمُ فَتَكُونَ عَلَامَةً عَلَى أَنَّهَا نُذِرَتْ للهدي، فَهِيَ فَعِيلَةٌ بِمَعْنَى مَفْعُولَةٍ مَصُوغَةٌ مِنْ أَشْعَرَ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ.
فَعَلَى التَّفْسِيرِ الْأَوَّلِ تَكُونُ جُمْلَةُ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ إِلَى آخِرِهَا عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ: {وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللهِ} الْآيةَ: 30، السَّابِقَة. وَشَعَائِرُ اللهِ أَخَصُّ مِنْ حُرُمَاتِ اللهِ فَعَطْفُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ لِلْعِنَايَةِ بِالشَّعَائِرِ.
وَعَلَى التَّفْسِيرِ الثَّانِي لِلشَّعَائِرِ تَكُونُ جُمْلَةُ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ} الْآيةَ: 28، مِنْ هذِهِ السُّورةِ، تَخْصِيصًا لَهَا بِالذِّكْرِ بَعْدَ ذِكْرِ حُرُمَاتِ اللهِ.
فَمَضْمُونُ جُمْلَةِ "وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ" إِلَخْ ... أَخَصُّ مِنْ مَضْمُونِ جُمْلَةِ "وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللهِ" الْآيةَ: 30، السَّابقةِ مِنْ هَذِهِ السُّورةِ المُباركةِ، وَقَدْ جَاءَ ذِكْرُ الْأَخَصِّ بَعْدَ الْأَعَمِّ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ. وَالمَشَاعِرُ: هِي الحَوَاسُّ أَيْضًا. قالَ الشَّاعِرِ عِلْبَاءِ بْنِ قَيْسٍ:
والرَّأْسُ مُرْتَفِعٌ فِيهِ مَشَاعِرُهُ .............. يَهْدِي السَّبيلَ لَهُ سَمْعٌ وَعَيْنَانِ
وَأَصْلُ الشُّعُورِ مِنَ الشَعَرِ الَّذي يَكونُ لِلْإِنْسَانِ وَغَيْرِهِ، وَالجَمْعُ شُعورٌ وأَشْعارٌ، واحِدَتُها شَعْرَةٌ. والشِعَارُ: مَا وَلِيَ الجَسَدَ مِنَ الثِّيابِ. وَشِعَارُ القَوْمُ في الحَرْبِ: عَلامَتُهُمْ، لِيَعْرِف َبَعْضُهم بَعْضًا. والشَّعَارُ بالفتْحِ: الشَجَرُ. فَأَرْضٌ كَثِيرَةُ الشَعَارِ، أَيْ: كثيرَةُ الشَّجَرِ. وَيَقولونَ أَشْعَرَ الهَدْيَ، إِذَا طَعَنَ في سَنَامِهِ الأَيْمَنَ حَتَّى يَسيلَ مِنْهُ دَمٌ، لِيُعْلَمَ أَنَّهُ هَدْيٌ. وَشَعَرْتُ بالشَّيْءِ "بالفَتْحِ" أَشْعُرُ بِهِ شِعْرًا: فَطِنْتُ لَهُ. وَلَيْتَ شِعْرِي، معناهُ: لَيْتَنِي عَلِمْتُ. والشِعْرُ: وَاحِدُ الأَشْعارِ. وَالشَّاعِرُ صَاحِبُ شِعْرٍ، سُمِّيَ بِذَلِكَ لِفِطْنَتِهِ. وَيُجْمَعُ عَلى شُعَرَاءَ، وَلَقَدْ شَعُرَ فلانٌ "بالضَّمِّ" أَصْبحَ شاعِرًا، وَالذي يَفْتَعِلُ قَوْلَ الشِعْرِ يُسَمَّى مُتَشاعِرٌ. وَشَاعَرْتُهُ فَشَعَرْتُهُ أَشْعَرَهُ "بالفَتْحِ"، غَلَبْتُهُ بِالشِّعْرِ. واسْتَشْعَرَ فُلانٌ خَوْفًا، وأَشْعَرَهُ فَلانٌ شَرًّا: غَشِيَهُ بِهِ. وَأَشْعَرَهُ الحُبُّ مَرَضًا. وأَشْعَرْتُهُ فَشَعَرَ، أَي: أَدْرَيْتُهُ فَدَرَى. وَأَشْعَرَ الغلامُ وَتَشَعَّرَ: نَبَتَ شَعْرُهُ. والشِعْرَى: اسْمُ كَوْكبٍ يَطْلُعُ بَعْدَ الجَوْزاءِ.
أَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: "ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ" قَالَ: الْبُدْنَ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: "ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ"، قَالَ: اسْتِعْظَامُ الْبُدْنَ واسْتِسْمَانُها واسْتِحْسانُهَا.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، فِي قَوْلِهِ: "ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ"، قَالَ: الاسْتِسْمَانُ، وَالِاسْتِحْسَانُ، والاسْتِعْظامُ.
قولُهُ: {فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} فَإِنَّها: الضَمِيرُ فيها عَائِدٌ إِلَى شَعَائِرِ اللهِ الْمُعَظَّمَةِ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: فَإِنَّ تَعْظِيمَهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ. وَقَوْلُهُ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ جَوَابُ الشَّرْطِ وَالرَّابِطُ بَيْنَ الشَّرْطِ وَجَوَابِهِ هُوَ الْعُمُومُ فِي قَوْلِهِ: الْقُلُوبِ فَإِنَّ مِنْ جُمْلَةِ الْقُلُوبِ قُلُوبَ الَّذِينَ يُعَظِّمُونَ شَعَائِرَ اللهِ. فَالتَّقْدِيرُ: فَقَدْ حَلَّتِ التَّقْوَى قَلْبَهُ بِتَعْظِيمِ الشَّعَائِرِ لِأَنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ، أَيْ لِأَنَّ تَعْظِيمَهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ. وَإِضَافَةُ تَقْوَى إِلَى الْقُلُوبِ لِأَنَّ تَعْظِيمَ الشَّعَائِرِ اعْتِقَادٌ قَلْبِيٌّ يَنْشَأُ عَنهُ الْعَمَل.
قولُهُ تَعَالى: {ذَلِكَ} ذا: اسْمُ إِشارةٍ مبنيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ خبرًا لِمُبْتَدَأٍ مَحْذوفٍ، والتقديرُ: الأَمْرُ، والشَّأْنُ، ذَلِكَ الْمَذْكورُ السَّابِقُ، واللامُ: للبُعْدِ، والكافُ للخِطابِ، وهَذِهِ الجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ. وُهوَ نَظِيرُ مَا سَبَقَ بيانُهُ فِي الآيةِ: 30، السَّابقةِ في أَوْجُهِ الإِعْرَابِ السَّابِقَةِ وَفِي فائدَتِهِ.
قولُهُ: {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ} الواوُ: اسْتِئْنَافِيَّةٌ. و "مَنْ" اسْمُ شَرْطٍ جَازِمٌ مبنيٌّ على السُّكونِ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ بالابْتِداءِ، وَخَبَرُهُ جُمْلَةُ الشَّرْطِ، أَوِ الجَوَابِ، أَوْ هُمَا معًا. و "يُعَظِّمْ" فِعْلٌ مُضارِعٌ مَجْزُومٌ بِـ "مَنْ" عَلَى كَوْنِهِ فِعْلَ شَرْطٍ لَّهَا، وَفَاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هُوَ) يَعُودُ عَلَى "مَنْ". و "شَعَائِرَ" مَفْعُولُهُ مَنْصوبٌ بِهِ، وهو مُضافٌ، ولفظُ الجلالةِ "اللهِ" مَجرورٌ بالإضافَةِ إِلَيْهِ، والجملةُ الفعليَّةُ هَذِهِ فعلُ شَرْطِ "مَنْ" لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
قولُهُ: {فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى القُلُوبِ} الفاءُ: رَابِطَةٌ لِجَوابِ "مَنْ" الشَّرطِيَّةِ وُجُوبًا. و "إِنَّ" حَرْفٌ ناصِبٌ، ناسِخٌ، مُشَبَّهٌ بالفِعْلِ، للتَّوكيدِ، وَ "ها" ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السُّكونِ في محلِّ النَّصْبِ اسْمُهَا. و "مِنْ" حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذوفِ خَبَرِ "إنَّ". و "تَقْوَى" مَجْرُورٌ بحرفِ الجَرِّ، وعَلامَةُ جَرِّهِ كَسْرةٌ مُقدَّرةٌ عَلَى آخِرِهِ لِتَعَذُّرِ ظهُورِها عَلَى الأَلِفِ، وهوَ مُضافٌ. و "الْقُلُوبِ" مَجْرُورٌ بالإِضافَةِ إِلَيْهِ، وَجُمْلَةُ "إِنَّ" فِي مَحَلِّ الجَزْمِ بِـ "مَنْ" الشَّرْطِيَّةِ عَلَى كَوْنِهَا جَوَابًا لَهَا. والعائدُ عَلَى "مِنْ" مَحْذوفٌ، والتقديرُ: "مِنْهُمْ" أَوْ "مِنْهُ"، نَظَرًا لِلَفْظِ "مِنْ"، وَمَنْ جَوَّزَ إِقَامَةَ "أَلْـ" مَقَامَ الضَّمِيرِ ـ وَهُمُ الكُوفِيُّونَ، أَجَازَ ذَلِكَ هُنَا، والتَّقْديرُ: مِنْ تَقْوَى قُلُوبِهِمْ، وَجُمْلَةُ "مَنْ" الشَّرْطِيَّةِ مِنْ فعلِ شَرْطِها وَجَوابها جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ فَليسَ لَهَا مَحَلٌّ مِنَ الإِعْرَابِ.