قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ
(112)
قولُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {قُلْ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ} أَيْ: قُلْ يا محمَّدُ بِمَسْمَعٍ مِنْ هَؤلاءِ المُشْركينَ بِأَنَّكَ قدْ فَوَّضَتَ أَمْرَكَ إِلَى رَبِّكَ لِيَحُكْمَ فِيهِمْ بِالْحَقِّ، فيُبْطِلَ دَينَهُم، ويَخْضِدَ شَوْكَتِهِمْ، فإِنَّ اللهَ يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ، قُلْ ذَلِكَ إِظْهَارًا لِتَحَدِّيكَ إِيَّاهُمْ، واسْتِخْفَافَكَ بهِمْ، وَتَحْقِيرَكَ لِشَأْنِهِمَ.
وَفِي هَذا الأَمْرِ بِالِالْتِجَاءِ إِلَيْهِ ـ تَعَالى، وَالِاسْتِعَانَةِ بِهِ، بَعْدَ قَولِ لَهُ في الآيةِ: 109، السَّابِقةِ: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ} إِشارةٌ إِلَى أَنَّهُمْ مُتَوَلُّونَ ذاهبونَ لَا مَحَالَةَ وَأَنَّ اللهَ مُنْزلٌ فِيهِمْ عَذابَهُ جَزَاءَ كُفْرِهِمْ وَإِجْرامِهِمْ لا مَحَالةَ، لأَنَّ اللهَ إِذَا لَقَّنَ عَبْدَهُ دُعَاءً فَهذا يَعْنِي أَنَّ استجابتَهُ مَضْمونَةٌ، ومثْلُ هذا قَوْلُهُ في آخِرِ سُورةِ البَقَرَةِ: {رَبَّنا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} الْآيَةَ: 286، وَنَحْوِها مِنْ آياتٍ، وَقَدْ صَدَقَ اللهُ وَعْدَهُ وَاسْتَجَابَ دُعاءَ رسولِهِ فَنَفذَ حُكْمُهُ فِي المُشْركينَ يَوْمَ بَدْرٍ. فَكَانَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذَا شَهِدَ قِتَالًا قَالَ: "رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ".
وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ ـ تَعَالَى عَنْهُ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما، فِي قَوْلِهِ ـ تَعَالَى: "قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ" قَالَ: لَا يَحْكُمُ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ، وَلَكِنْ إِنَّمَا يَسْتَعْجِلُ بِذَلِكَ فِي الدُّنْيَا فَيَسْأَلُ رَبَّهُ النَّصْرَ عَلَى قَوْمِهِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: كَانَتِ الْأَنْبِيَاءُ تَقولُ: {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَومِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الفَاتِحِينَ} الآيَةَ: 89، مِنْ سورةِ الْأَعْرَاف، فَأَمَرَ اللهُ نَبِيَّهُ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، أَنْ يَقُولَ: "رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ" أَيْ: اقْضِ بِالْحَقِّ.
وَكَانَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَعْلَمُ أَنَّهُ عَلَى الْحَقِّ، وَأَنَّ عَدُوَّهُ عَلى الْبَاطِلِ، وَكَانَ إِذَا لَقِيَ العَدُوَّ قَالَ: "رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ". وَاللهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
فَإِنَّهُ بَعْدَ وَصْفِ رِسَالَةِ سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيمَا مَضَى مِنْ آياتٍ، وَإِجْمَالِ أَصْلِهَا وَبَيَانِهِ، وَأَمْرِهِ ـ تَعَالى، رَسُولَهُ ـ صَلَّى اللهُ عَليْهِ وسلَّمَ، بِإِنْذَارِهِمْ بالعَذابِ، وَتَسْجِيلِ تَبْلِيغِهِ ذَلِكَ عَلَيْهِم، خُتِمَتْ هَذِهِ السُّورةُ المُباركَةُ بهِذِهِ الجُمْلَةِ الاسْتِئنافيَّةِ، وَهُوَ اسْتِئْنَافٌ ابْتِدائيُّ قُصِدَ مِنْهُ التَّلْوِيحُ إِلَى عَاقِبَةِ أَمْرِ هَذَا الدِّينِ الْمُسْتَقْبَلَةِ الْمَرْجُوَّةِ، لِتَكُونَ قِصَّةُ هَذَا الدِّينِ وَصَاحِبِهِ مُسْتَوْفَاةً مَبْدَأً وَعَاقِبَةً، كَقَصَصِ الأنْبِياءِ والمُرْسلينَ السَّابِقِينَ، والتي ابْتُدِئتْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى في الآيَةِ: 48، مِنء هَذِهِ السُّورةِ المُباركةِ: {وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً} واخْتُتِمَتْ بهَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ.
قولُهُ: {وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} ربُّنا: أَضَافَهُم إِلَى مَقَامِ الرُّبوبيَّةِ والرَّحْمَانِيَّةِ تَعْظِيمًا لِشَأْنِهِمْ، وَتَذْكِيرًا لَهُمْ بِأَنَّهُ ـ سُبْحانَهُ، هوَ المُربِّي وَالرَّاعِي لَهُمْ، وَالقائِمُ بِمَصَالِحِهِم وَجِميعِ شُؤُونِهِم، وَذَلِكَ كُلُّهُ إِنَّما هُوَ مندَرِجٌ تَحْتَ مِظَلَّةِ اسْمِهِ "الرَحْمَنُ" مَشْمولٌ بِهِ، فإِنَّ رَحْمَانِيَّتَهُ ـ تَعَالَى، ساريةٌ في كُلِّ ما يَفْعَلُهُ بِهِمْ وَلَأَجْلِهِم. ولذلكَ فَإنَّ عَلَيْهِمْ أَنْ يسْتَعَينُوا بهِ وحدَهُ في طَلَبِ قَضَاءِ حَوَائجِهِمْ وَيَلْجَؤوا إلَيْهِ في جَمِيعِ شُؤونِهِمْ، ويلوذوا به مِنْ عدوِّهم، وأَنْ يَتَبَرَّؤوا مِنْ المُشْركينَ بهِ، وَمَّا يُلْصِقونَهُ بِهِ مِنْ أَوْصافٍ لَا تَلِيقُ بجنابِهِ العظيمٍ، وما يَنْسِبُونَهُ لهُ ظلمًا وبهتانًا، كَوُجُودِ الشَّريكِ لَهُ في مُلْكِهِ، أَوِ الزَّوْجَةِ وَالْوَلَدِ، وَنِسْبَةِ الظُّلْمِ لَهُ افتراءً علَيْهِ ـ تَبَارَكَتْ أَسْماؤهُ، وجَلَّتْ صِفاتُهُ.
قولُهُ تَعَالَى: {قَالَ} قَالَ: فِعْلٌ ماضٍ مَبْنيٌّ على الفتْحِ، وفاعِلُهُ ضميرٌ مُسْتَتِرٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هُو) يعودُ عَلَى سيِّدِنا محمَّدٍ ـ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، والجمْلةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ جملةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ ليسَ لها مَحَلٌّ مِنَ الإعرابِ.
قولُهُ: {رَبِّ} رَبِّ" مُنَادَى مُضَافٌ إِلَى يَاءِ المُتَكَلِّمِ المَحْذُوفَةِ، اجْتِزَاءً عَنْهَا بِالْكَسْرَةِ، وَجُمْلَةُ النِّداءِ هَذِهِ في مَحَلِّ النَّصْبِ مَقْولُ القولِ لِـ "قَالَ".
قولُهُ: {احْكُمْ بِالْحَقِّ} فِعلُ دُعَاءٍ وَطَلَبٍ سُلُوكًا مَسْلَكَ الأَدَبِ، مبنيٌّ عَلى السُّكونِ. وفاعلُهُ ضميرٌ مُسْتَتِرٌ فيهِ وُجوبًا تقديرُهُ (أَنْتَ) يَعُودُ عَلَى الحقِّ ـ تَبَارَكَ وتَعَالَى، وَ "بِالْحَقِّ" الباءُ: حرفُ جَرٍّ لِلْمُلَابَسَةِ مُتَعَلِّقٌ بِـ "احْكُمْ"، وَحُذِفَ الْمُتَعَلِّقُ الثَّانِي لِفِعْلِ "احْكُمْ" لِتَنْبِيهِهِمْ إِلَى أَنَّ النَّبِيَّ عَلَى الْحَقِّ فَإِنَّهُ ـ صلَّى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ، مَا سَأَلَ الْحُكْمَ بِالْحَقِّ إِلَّا لِأَنَّهُ يُرِيدُهُ، أَيِ إِنَّهُ كانَ يَقُولُ: احْكُمْ لَنَا أَوْ فِيهِمْ أَوْ بَيْنَنَا. و "الْحَقِّ" مجرورٌ بِحَرْفِ الجَرِّ، والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ في مَحَلِّ النَّصْبِ بـ "قال" عَلى كَوْنِهَا جَوَابَ النِّدَاءِ.
قولُهُ: {وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} الواوُ: اسْتِئْنَافِيَّةٌ. "رَبُّنَا" مَرفوعٌ بالابْتِداءِ، مُضافٌ، و "نَا" ضميرٌ جماعَةِ المُتَكَلِّمينَ مُتَّصِلٌ بِهِ، مَبْنِيٌّ عَلى السُّكونِ في محَلِّ الجَرِّ بالإِضافةِ إِلَيْهِ. و "الرَّحْمَنُ" خَبَرٌ أَوَّلُ للمُبْتَدَأِ مَرْفوعٌ. و "الْمُسْتَعَانُ" خَبَرُهُ الثاني مَرفوعٌ، وَيَجُوزَ أَنْ يَكونَ "الرَّحْمَنُ" صِفَةً لِـ "رَبُّ" مَرفوعةٌ مِثْلُهُ، وَ "المُسْتَعَانُ" هُوَ خَبَرُ الْمُبْتَدَأُ؛ لِأَنَّهُ المُحَدَّثُ بِهِ، و "عَلَى" حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "الْمُسْتَعَانُ"، و "مَا" اسمٌ موصولٌ مبنيٌّ على السُّكونِ في مَحلِّ الجَرِّ بحرفِ الجَرِّ. وهذِهِ الجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ مُسْتَأْنَفَةٌ عَلَى كَوْنِهَا مَقُولَ القَوْلِ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإِعْرَابِ.
قولُهُ {تَصِفُونَ} فِعْلٌ مُضارعٌ مَرْفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ النَّاصِبِ والجازِمِ، وعلامةُ رَفعِهِ ثُبُوتُ النُّونِ في آخِرِهِ لِأَنَّهُ مِنَ الأَفْعَالِ الخَمْسَةِ، وَوَاوُ الجَمَاعَةِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالفَاعِلِيَّةِ، وَالجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ صِلَةُ المَوْصُولِ الحَرْفِي "ما" لَا مَحَلِّ لَهَا مِنَ الإِعْرَابِ، وَالعائدُ مَحْذُوفٌ، والتَّقْديرُ: تَصِفُونَهُ مِمَّا هُوَ مُخالِفٌ لِلْوَاقِعِ.
قَرَأَ العامَّةُ: {قُلْ} فِعْلَ أَمْرٍ مِنَ اللهِ لِرَسُولِهِ ـ صَلَّى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ. وَقَرَأَ حَفْصٌ "قَالَ" خَبَرًا عَنِ الرَّسُولِ ـ عَلَيْهِ صلاةُ اللهِ وَسَلامُهُ، مِثْلَما قرأَ قَوْلَهُ في الآيةِ الرَّابعةِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ المُباركةِ: {قُلْ رَبِّي يَعْلَمُ القَوْلَ}ِ، فقد قرأَها أَيْضًا "قالَ". وَلَمْ يُكْتَبْ فِي الْمُصْحَفِ الْكُوفِيِّ بِإِثْبَاتِ الْأَلِفِ.
قَرَأَ العَامَّةُ: {رَبِّ} بِكَسْرِ الباءِ اجْتِزاءً بِالْكَسْرَةِ عَنْ يَاءِ الإِضافةِ، وَهِيَ اللُّغةُ الفُصْحَى. وَقَرَأَ أبو جَعْفَرٍ "رَبُّ" بِضَمِّها، وَهُوَ وَجْهٌ عَرَبِيٌّ فِي الْمُنَادَى الْمُضَافِ إِلَى يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ، فَكَأَنَّهُمْ جَعَلُوهُ بِمَنْزِلَةِ التَّرْخِيمِ، وَهُوَ جَائِزٌ إِذَا أُمِنَ اللَّبْسُ. قَالَ السَّمينُ الحَلَبِيُّ فِي تَفْسِيرهِ المُسَمَّى: "الدُّرُّ المَصُونُ في علومِ الكتابِ المكنون": لَيْسَ هَذَا مِنَ المُنَادَى المُفْرَدِ، بَلْ نَصَّ بَعْضُهُم عَلَى أَنَّ هَذِهِ بَعْضُ اللُّغَاتِ الجائزَةِ في المُضَافِ إِلَى ياءِ المُتَكَلِّم حَالَ ندائهِ، واللهُ أَعْلَمُ.
قرَأَ العامَّةُ: {احْكُمْ} عَلَى صُورَةِ الأَمْرِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعِكْرِمَة، وابْنُ يَعْمُر: "رَبِّيْ" ـ بِسُكُونِ الياءِ، "أَحْكَمُ" بِصِيغَةِ "أَفْعَلَ" التَّفْضِيل، فَهُمَا مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ. وَقُرِئ: "أَحْكَمَ" بِفَتْحِ المِيمِ كـ أَلْزَمَ، عَلَى أَنَّه فِعْلٌ مَاضٍ في مَحَلِّ خَبَرٍ أَيْضًا لـ "ربِّي".
قَرَأَ العامَّةُ: {تَصِفُوْن} بِالخِطَابِ. وَقَرَأَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَلَى أُبَيٍّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، "يَصِفُون" بيَاءِ الغيبةِ، وَهِيَ مَرْوِيَّةٌ أَيْضًا عَنْ عَاصِمٍ وَابْنِ عَاِمرٍ. وَالغَيْبَةُ وَالخِطَابُ وَاضِحَانِ.
تمتْ سورةُ الأنبياءِ بمَعُونَتِهِ وحمدِهِ وبذلكَ تمَّ المجلَّدُ الثالثُ والثلاثونَ منْ هذهِ الموسوعةِ، ويليها سورةُ الحجِّ والمجلدُ الرَّابعُ والثلاثونَ بعونِهِ تعالى وفضله.