فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ (109)
قوْلُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {فَإِنْ تَوَلَّوْا} أَيْ: فإِن لَّمْ يُذْعِنُوا لِدَعْوَةِ الحَقِّ، وَأَعْرَضُوا، عَنْكَ يا رَسُولَ اللهِ، وعَنِ الكتابِ الذي أَنْزَلْنَاهُ عَلَيْكَ، وَلَمْ يُجِيبُوا دَاعِيَ الإِسْلامِ، وَلَمْ يُسْلِموا وُجُوهَهَمْ إلى اللهِ ـ العَليمِ العلَّامِ، وَلم يَسْتَجِيبُوا لدعوتِكَ إيَّاهُم لِيُخْلِصُوا العِبَادَةِ لله وَحْدَهُ لا شَريكَ لَهُ.
وَ "تَوَلَّى" مِنْ "وَلَيَ" أَيْ: دَنا واقْتَرَبَ، فَوَلَيَ فُلانٌ فُلَانًا: دَنَا مِنْهُ واقْتَرَبَ، وَالمَصْدَرُ: "الوَلْيُ"، وَهوَ القُرْبُ وَالدُّنُوُّ. يُقَالُ: تَبَاعَدَ فلانٌ مِنِّي بَعْدَ وَلْيٍ، أَيْ: تَبَاعَدَ عَنِّي بَعْدَ أَنْ كانَ قَريبًا. وَهَذَا مِمَّا يَلِيكَ، أَيْ: ممَّا يُقَارِبُكَ. وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ سَاعِدَةَ بْنِ جُؤْيَةَ:
هَجَرَتْ غَضُوبُ، وَحُبَّ مَنْ يَتَجَنَّبُ ... وَعَدَتْ عَوَادٍ دُونَ وَلْيِكَ تَشْعَبُ
يُقَالُ مِنْهُ: وَأَوْلَيْتُ فلانًا الشَّيْءَ فَوَلِيَهُ. ومِنْهُ سُمِّيَ مَنْ وَلِيَ البَلَدَ واليًا، ووَلِيَ الرَّجُلُ البَيْعَ، وِلايَةً. وَأَوْلَيْتُهُ مَعْرُوفًا إِذا أدْنَيْتُهُ مِنْهُ. ويُقَالُ: مَا أَوْلاهُ لِلْمَعْرُوفِ في حالِ التَّعْجُّبِ مِنْ كثرةِ فعلِهِ لَهُ. وَفُلَانٌ وَلِيَ وَوُلِيَ عَلَيْهِ، ك "ساسَ" و "سِيسَ" عَلَيْهِ. ووَلَّاهُ الأَمِيرُ عَمَلَ كَذَا كَلَّفَهُ بِهِ، وَتَوَلَّى العَمَلَ: تَقَلَّدَهُ. وتَوَلَّى عَنْهُ: أَعْرَضَ. وَوَلَّى هَارِبًا: أَدْبَرَ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ البَقَرَةِ: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها} الآيَةَ: 148. أَيْ: مُسْتَقْبِلُهَا بِوَجْهِهِ. وَ "الوَلِيُّ" و "الوَلْيُ" مِنَ المَطَرِ: ما نَزَلَ بَعْدَ الوَسْمِيِّ، سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّه يَلِيهِ. وَالْجَمْعُ أَوْلِيَةٌ. وَالوَلِيُّ أَيْضًا: المحازبُ والمُحالِفٌ، فهوَ ضِدُّ العَدُوِّ. فتَقولُ مِنْهُ: تَوَلَّى فَلَانٌ فُلَانًا ووالاهُ إِذَا حَالَفَهُ. والمَوْلَى: المُعْتِقُ، والمُعْتَقُ، وَالمَوْلَى أَيْضًا: ابْنُ العَمِّ، والنَّاصِرُ، وَالجَارُ. والوَلِيُّ: الصِهْرُ، وَكُلُّ مَنْ وَلِيَ أَمْرَ وَاحِدٍ فَهُوَ وَليُّهُ. والنِّسْبَةُ إِلَى المَوْلَى: مَوْلَويٌّ؛ وَإِلَى الوَلْيِّ مِنَ المَطَرِ: وَلَوِيٌّ، كَمَا قَالُوا في مَنْ حالَفَ سيِّدَنا عليًّا ـ رَضِيَ اللهُ عنهُ: هُوَ عَلَوِيٌّ. وَيُقالُ: بَيْنَ فلانٍ وفلانٍ وَلَاءٌ بِالفَتْحَ، أَيْ: قَرَابَةٌ، أَوْ تحالُفٌ. وَالوَلاءُ: وَلاءُ المُعْتِقِ. جاءَ فيما رواهُ أَحْمَدُ والشَّيخانِ وغيرُهُما مِنْ حَديثِ ابْنَ عُمَرَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، قالَ: (نَهَى رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَنْ بَيْعِ الْوَلَاءِ وَعَنْ هِبَتِهِ)). والوَلاءُ: هُمُ المُوَالُونَ. يُقَالُ: هُمْ وَلَاءُ فُلانٍ. والمُوالاةُ: ضِدُّ المُعَادَاةِ. ووَالَى بَيْنَهُمَا وِلَاءً، أَيْ: تَابَعَ. وَتَوَالَى عَلَيْهِ شَهْرَانِ، أَيْ تَتَابَعَ. وِالوِلَايَةُ بالْكَسْرِ: السُّلْطانُ. وَالوَلايَة والوِلايَةُ ـ أَيْضًا: النُصْرَةُ. وقولُهُمْ لِمَنْ تُخَاصِمُ: أَوْلَى لَكَ! تَهَدُّدٌ لهُ وَوَعيدٌ. وأَنْتَ أَوْلى بِالأَمْر، أَيْ: أَنْتَ أَحْرَى بِهِ مِنْ غيرِكَ وَأَجْدَرُ.
قولُهُ: {فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ} أَيْ: أَعْلَمْتُكُمْ وَبَيَّنْتُ لَكُمُ الحَقَّ، في أَنَّكُمْ سَتُبْعَثُونَ وَتُحَاسَبُونَ جميعًا سَوَاءً مَنِ اهْتَدَى مِنْكُمْ وَمَنْ ضَلَّ فَجَميعُكمْ مَبْعُوثُونَ ومُحَاسَبُونَ، وكُلٌّ مُجازى بعمَلِهِ.
أَوْ "آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ": يَعْنِي أَعْلَمْتُكُمْ بِالْوَحْيِ الذي يُوحَى إِلَيَّ وبَيَّنْتُ لَكُمْ عَلَانِيَةً دونَما إسْرارٍ لِنَسْتَوِي فِي الإِيمانِ بِهِ، فَقْدْ صِرْتُ وإيَّاكُمْ في ذلكَ سَوَاءً. وهَذَا الاخْتِصَارُ مِنَ البَلَاغَةِ القرآنيَّةِ الفَريدَةِ.
وَ "آذَنَ" أَعْلَمَ فَالْهَمْزَةُ فِيهِ لِلنَّقْلِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: آذَنَ: مَنْقُولٌ مِنْ "أَذِنَ" إِذَا عَلِمَ، وَلَكِنَّهُ كَثُرَ اسْتِعْمَالُهُ فِي الجَرْيِ مَجْرَى الإِنْذَارِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ} الآيةَ: 279، مِنْ سُورَةِ البَقَرَةِ كقَوْلِ الشَّاعرِ الجاهليِّ الحَارِثِ ابْنِ حِلِّزَةَ اليَشْكُرِيِّ فِي مَطْلِعِ مُعَلَّقَتِهِ:
آذَنَتْنا بِبَيْنِها أَسْمَاءُ ........................... رُبَّ ثَاوٍ يَمَلُّ مِنْهُ الثَّوَاءُ
وهُوَ مِنْ أَذِنَ في الشَّيْءِ إِذْنًا: إِذَا عَلِمَ بِهِ، وَالأَذَانُ: الإِعْلَامُ. فقَولُهُ تَعَالَى مِنْ سورةِ التَّوبةِ: {وَأَذَانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} الآيةَ: 3، أَيْ إِعْلامٌ مِنَ اللهِ ورسولِهِ إلى الناسِ. وقولُهُ مِنْ سُورَةِ الحَجِّ: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} الآيةَ: 27، مَعْنَاهُ إِعْلامٌ. والآذانُ للصَّلَواتِ الخَمْسِ، الإعْلامُ بوقْتِهِنَّ. والأَذينُ مِثْلُهُ. وَقَدْ أَذَّنَ أَذانًا. وَالمِئْذَنَةُ: المَنَارَةُ التي يرفعُ عليها الأَذانُ.
وَ "أَذِنَ" بِالِشَّيءَ "إِذْنًا" سَمَحَ بِهِ، ووَافَقَ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ النُّورِ: {فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ} الآيَةَ: 62.
وَ "أَذِنَ" "أَذَنًا": اسْتَمَعَ. وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الشَّاعِرِ الأُمَوِيِّ قَعْنَبِ بْنِ ضَمرَةَ الغَطَفَانِيِّ المَعْروفِ بِابْنِ أُمِّ صَاحِبٍ:
إِنْ يَسْمَعُوا رِيبَةً طَارُوا بِهَا فَرَحًا ....... عَنِّي وَمَا سَمِعُوا مِنْ صَالِحٍ دَفَنُوا
صُمُّ إِذَا سَمِعُوا خَيْرًا ذُكِرْتُ بِهِ .......... وَإِنْ ذُكِرْتُ بِشَرٍّ عِنْدَهُمْ أَذِنُوا
وَيقالُ: رَجُلٌ أُذُنٌ، إِذَا كَانَ يَسْمَعُ مَقَالَ كُلِّ أَحَدٍ وَيَقْبَلُ مِنْهُ، ويَسْتَوِي فِيهِ الوَاحِدُ وَالجَمْعُ، وَبِهِ آذى المنافقونَ سَيِّدَنا رَسولَ اللهِ فَقَالُوا: "هوَ أُذُنٌ" فردَّ اللهُ عليهِمْ في الآيةِ: 61، مِنْ سُورَةِ التَّوبةِ: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ}
والأَذينُ: الكَفِيلُ. وَقَيلَ: هوَ المَكانُ يَأْتِيهِ الأَذَانُ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ. وهِيَ لُغَةُ بَعْضِ قيسٍ، وأَنْشَدُوا عَلَيْهِ قولَ أَحَدِهِم:
طهُورُ الْحَصَى كَانَتْ أَذِينًا وَلَمْ يَكُنْ .......... بِهَا رِيبَةٌ مِمَّا يُخَافُ تَرِيبُ
وَ "إِذَنْ": حَرْفُ مُكافَأَةٍ وَجَوَابٍ، فَإِنْ أَنْتَ قَدَّمْتَهَا عَلَى الفِعْلِ المُسْتَقْبَلِ نَصَبَتَهُ بِهَا لَا غَيْرَ. كَمَا لَوْ قَالَ لَكَ قَائلٌ: اللَّيْلَةَ أَزُورُكَ، فإِنَّكَ تُجَيبُهُ: إِذَنْ أُكْرِمَكَ. فَتَنْصِبُ الفِعْلَ بِهَا، أَمَّا إِذَا أُخِّرَتْها عَنِ الفِعْلِ فَقلْتَ: أَكْرِمُكَ إِذَنْ، فقد أَلْغَيْتَ عَمَلَها فَرَفَعْتَ الفِعْلَ.
قولُهُ: {وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ} إِنْ: هِيَ هُنَا بِمَعْنَى "مَا"، والمُرادُ بِـ "توعَدونَ"، يَجُوزُ أَنْ يَكونَ مَا تَوَعَّدَهُمُ اللهُ بِهِ مِنْ عَذابٍ في الدَّنيا، ويَجُوزُ أَنْ يَكونَ المُرَادَ يَوْمُ البَعْثِ وَالقِيامَةِ والحِسابِ والجَزاءِ، فإِنَّ ممَّا اسْتَأْثَرَ اللهُ بِعِلْمِهِ كما قالَ مِنْ سورةِ الأَعْرافِ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} الآيةَ: 187، وكَمَا قَالَ ـ جَلَّ جلالُهُ، في الآيةَ: 34، مِنْ سُورَةِ لُقْمانَ: {إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}، وقالَ مِنْ سورةِ الأَحزابِ: {يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا} الآيةَ: 63، وقالَ مِنْ سورةِ فُصِّلَتْ: {إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ، وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا، وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ} الآيةَ: 47، وَقَالَ مِنْ سُورَةِ الشُّورى: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ} الآيةَ: (17)، وقالَ في الآيةَ: 85، مِنْ سُورَةِ الزُّخرُف: {وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}، واللهُ أَعْلمُ بِمُرادِهِ
قوْلُهُ تَعَالى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا} الفاءُ: للاسْتِئْنَافِ. و "إِنْ" شَرْطِيَّةٌ جازِمَةٌ. و "تَوَلَّوْا" فِعْلٌ مَاضٍ مَبْنيٌّ عَلَى الضَّمِّ لاتِّصالِهِ بواوِ الجَمَاعَةِ، والضَّمَّةُ مُقَدَّرَةٌ عَلَى الْأَلِفِ الْمَحْذُوفَةِ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، وَوَاوُ الجَمَاعَةِ ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ بالفَاعِلِيَّةِ. والجُملةُ الفعلِيَّةُ هذِه فِي مَحَلِّ الجَزْمِ بِـ "أَنَّ" الشَّرْطِيَّةِ، عَلَى كَوْنِهَا فِعْلَ شَرْطٍ لَهَا.
قَوْلُهُ: { فَقُلْ} الفاءُ، رَابِطَةٌ لِجَوابِ "إِنْ" الشَّرْطِيَّةِ وُجُوبًا. و "قُلْ" فِعْلُ أَمْرٍ مبنيٌّ على السُّكونِ، وَفاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتترٌ فيهِ وُجوبًا تقديرُهُ (أَنْتَ) يَعُودُ عَلَى سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ ـ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، وَالجُمْلَةُ الفعلِيَّةُ هَذِهِ فِي مَحَلِّ الجَزْمِ بِـ "إِنْ" الشَّرْطِيَّةِ عَلَى كَوْنِهَا جَوَابَ شَرْطٍ لَهَا، وَجُمْلَةُ "إِنْ" الشَّرْطِيَّةِ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
قولُهُ: {آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ} آذَنْتُكُمْ: فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ لِاتِّصالِهِ بِضَميرِ رَفْعٍ مُتَحَرِّكٍ هُوَ تاءُ الفاعِلِ، وَتَاءُ الفاعِلِ هَذِهِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى الضَّمِّ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ بالفاعِلِيَّةِ، وكافُ الخِطابِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ النَّصْبِ عَلَى المَفْعُولِيَّةِ، عَلَى كَوْنِهِ مَفْعُولًا بِه أَوَّلُ، أَمَّا المَفْعولُ بِهِ الثاني فَمَحْذوفٌ، والتَّقْديرُ: عَذَابًا، والميمُ: علامَةُ جَمْعِ المُذكَّرِ. وَ "عَلَى" حَرْفُ جَرٍّ متعلِّقٌ بِحَالٍ مِنْ مَفْعُولِ "آذَنْتُ"؛ والتقديرُ: حَالَةَ كَوْنِكُمْ عَلَى سَوَاءٍ فِي الإِعْلَامِ بِهِ، لَمْ أُخْفِهِ عَنْ أَحَدٍ مِنْكُمْ، وَمَا فَرَّقْتُ بَيْنَكُمْ فِي النُّصْحِ وَتَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ؛ و "سَوَاءٍ" مجرورٌ بِحَرْفِ الجَرِّ، أَيْ: مُسْتَوينَ فِي عِلْمِهِ. وَالْجُمْلَةُ الفعلِيَّةُ هَذِهِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ مُقُولُ "قُلْ".
قوْلُهُ: {وَإِنْ أَدْرِي} الوَاوُ: حَالِيَّةٌ. وَ "إِنْ" نَافِيَةٌ بِمَعْنَى "لا". وَ "أَدْرِي" فِعْلٌ مُضَارِعٌ مرفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ النَّاصِبِ والجَازِمِ، وعلامةُ رَفْعِهِ ضمَّةٌ مُقدَّرةٌ عَلَى آخِرِهِ لثِقَلِها على الياءِ، وَفَاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتترٌ فِيهِ وُجُوبًا تقديرُهُ (أَنا) يَعُودُ عَلى سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ ـ صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ. والجُملَةُ الفعليَّةُ هَذِهِ في مَحَلِّ النَّصْبِ، على الحالِ مِنَ الفاعِلِ في "آذَنْتُكُمْ".
قَوْلُهُ: {أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ} أَقَرِيبٌ: الهَمْزَةُ لِلِاسْتِفْهَامِ، الَّذي هُوَ لِطَلَبِ التَّعْيِينِ. و "قَريبٌ" خَبَرٌ مَرْفوعٌ مُقَدَّمٌ. و "أَمْ" حَرْفُ عَطْفٍ. و "بَعِيدٌ" مَعْطُوفٌ عَلى "قريبٌ" مَرْفوعٌ مِثْلُهُ. وَ "مَا" اسْمٌ مَوْصُولٌ مبنيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ بالابْتِداءِ مُؤَخَّرٌ. وهذِهِ والجملةُ الاسْمِيَّةُ في مَحَلِّ النَّصْبِ، سَادَّةٌ مَسَدَّ مَفْعُولَيْ "أَدْرِي"؛ لِأَنَّهَا مُعَلَّقَةٌ عَنْهَا بِهَمْزَةِ الاسْتِفْهَامِ. وَأَخَّرَ المُسْتَفْهَمَ عَنْهُ لِكَوْنِهِ فَاصِلَةً. وَلَوْ وَسَّطَهُ لَكَانَ التَّركيبُ: أَقَريبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ بَعِيدٌ، وَلَكِنَّهُ اُخِّرَ مُراعَاةً لِرُؤوسِ الآياتِ.
قولُهُ: {تُوعَدُونَ} فِعْلٌ مُضارعٌ مبنيٌّ للمجهولِ، مَرْفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وعلامةُ رَفعِهِ ثُبوتُ النُّونِ في آخِرِهِ لِأَنَّهُ مِنَ الأَفْعَالِ الخَمْسَةِ، وَوَاوُ الجَمَاعَةِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالنِّيَابَةِ عَنْ فاعِلِهِ، وَالجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ صِلَةُ المَوْصُولِ لا مَحَلِّ لها مِنَ الإعرابِ، والعائدُ مَحْذُوفٌ، والتَّقْديرُ: مَا تُوعَدُونَهُ. وَيجوزُ في "مَّا تُوعَدُونَ" أَنْ يَكونَ مُبْتَدَأً، وَمَا قَبْلُهُ خَبَرٌ عَنْهُ وَمَعْطوفٌ عَلَيْهِ.
وَجَوَّزَ أَبُو البَقَاءِ العُكْبُريُّ فِيهِ أَنْ يَرْتَفِعَ فَاعِلًا بِـ "قريبٌ". قَالَ: لِأَنَّهُ اعْتَمَدَ عَلى الهَمْزَةِ. قَالَ: وَيُخَرَّجُ عَلى قَوْلِ البَصْرِيِّينَ أَنْ يَرْتَفِعَ بـ "بَعِيدٌ" لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ. وَيَعْنِي العُكْبُريُّ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ تَكونَ المَسْأَلَةُ مِنَ التَنَازِعِ فَإِنَّ كَلًا مِنَ الوَصْفَيْنِ يَصِحُّ تَسَلُّطُهُ عَلَى "مَا تُوْعَدونَ" مِنْ حَيْثُ المَعْنَى.
قَرَأَ العامَّةُ: {وَإِنْ أَدْري أَقَريبٌ} بِإِرْسَالِ الياءِ سَاكِنَةً، إِذْ لَا مُوْجِبَ لِغَيْرِ ذَلِكَ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما، أَنَّهُ قَرَأَ: "وَإِنْ أَدْرِيَ أَقريبٌ"، وكذلكَ قَرَأَ بعدَ ذلكَ في الآيَةِ: 111، مِنْ هذِهِ السُّورةِ المُباركةِ: "وَإِنْ أَدْرِيَ لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ}، بِفَتْحِ اليَاءَيْنِ. وقد خُرِّجَتْ عَلَى التَّشْبِيهِ بِيَاءِ الإِضافَةْ. عَلَى أَنَّ ابْنَ مُجَاهِدٍ أَنْكَرَ هَذِهِ القِرَاءَةَ البَتَّةَ. وَقَالَ ابْنُ جِنِّي: هُوَ غَلَطٌ، لِأَنَّ "إنْ" نَافِيَةٌ لَا عَمَلَ لَهَا. ونَقَلَ أَبُو البَقَاءِ العُكْبُرِيُّ عَنْ غَيْرِهِ أَنَّه قَالَ فِي تَخْريجِها: إِنَّهُ أَلْقَى حَرَكَةَ الهَمْزَةِ عَلَى اليَاءِ فَتَحَرَّكَتْ، وَبَقِيَتِ الهَمْزَةُ سَاكِنَةً، فَأُبْدِلَتْ أَلِفًا لِانْفِتَاحِ مَا قَبْلِهَا، ثُمَّ أُبْدِلَتْ هَمْزَةً مُتَحَرِّكَةً؛ لِأَنَّهَا فِي حُكْمِ المُبْتَدَأِ بِهَا، وَالابْتِداءُ بِالسَّاكِنِ مُحَالٌ.
قالَ السَّمينُ: وَهَذَا تَخْريجٌ مُتَكَلَّفٌ لَا حَاجَةَ إلَيْهِ. وَنِسْبَةُ رَاويهَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ إِلَى الغَلَطِ أَوْلَى مِنْ هَذَا التَّكَلُّفِ، فَإِنَّها قِراءَةٌ شَاذَّةٌ مُنْكَرَةٌ.