قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ
(108)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ} ما زَالَ الخِطابُ الإلهِ السَّامي لِسَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَيْ: قُلْ لَهُمْ يَا رَسُولَ اللهِ: مَا يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّهُ لَا إِلَهَ لَكُمْ إِلَّا اللهُ الواحدُ الأَحَدُ، فَإِنَّ تَوْحِيدَ المعبودِ هُوَ المَقْصُودُ مِنَ إِرْسَالِ المُرْسَلِينَ أَجْمَعِينَ، ومِنْ ثمَّ أَحْكَامٌ وتَشْريعَاتٌ في أَمْرِ الدُنيا والدِّينِ مُفَرَّعَةٌ عَليْهِ، فإِنَّ قَوْلَكَ: إِنَّمَا المَوجُودُ في البَيْتِ زَيْدٌ يَعْنِي أَنَّهُ لَا يُوجَدُ في البَيْتِ أَحَدٌ غيْرُهُ. أَيْ مَا يُوحَى إِلَيَّ فِي شَأْنِ الْإِلَهِ إِلَّا أَنَّ الْإِلَهَ إِلَهٌ وَاحِدٌ أَحَدٌ.
فَقَدْ أَفَادَتْ "إِنَّمَا" الْمَكْسُورَةُ الْهَمْزَةِ مَعَ فِعْلِ "يُوحَى" بَعْدَها قَصْرَ الْوَحْيِ إِلَى رَسُولِ اللهِ ـ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، عَلَى مَضْمُونِ جُمْلَةِ "أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ" التاليَةِ، قَصْرَ صِفَةٍ عَلَى مَوْصُوفٍ.
فهوَ قَصْرٌ إِضَافِيٌّ، لِإِبْطَالِ مَا يُلَبِّسُونَ بِهِ عَلَى النَّاسِ مِنْ أَنَّ مُحَمَّدًا ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَدْعُو الناسَ إِلَى إِلَهٍ واحِدٍ ثُمَّ يَذْكُرُ "اللهَ" وَ "الرَّحْمَنَ"، وَيُلِّبِسُونَ عَلى النَّاسِ تَارَةً أُخْرَى بِأَنَّهُ سَاحِرٌ ذلكَ لِأَنَّهُ يَدْعُو إِلَى مَا لَا يُعْقَلُ، قَالَ تَعَالَى مِنْ سورةِ (ص): {وَقالَ الْكافِرُونَ هَذَا ساحِرٌ كَذَّابٌ * أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا واحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجابٌ} الآيتانِ: (4 ـ 5)، فَيَكُونُ مَعْنَى الْآيَةِ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورةِ الْأَحْقَاف: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ} الآيةَ: (9).
وَقدْ صِيغَتِ هَذِهِ الْجُمْلَةُ فِي صِيغَةِ حَصْرِ الْوَحْيِ إِلَيْهِ فِي مَضْمُونِهَا لِأَنَّ مَضْمُونَهَا هُوَ أَصْلُ الشَّرِيعَةِ الْأَعْظَمُ، وَكُلُّ مَا تَشْتَمِلُ عَلَيْهِ الشَّرِيعَةُ مُتَفَرِّعٌ عَلَيْهِ، فَالدَّعْوَةُ إِلَيْهِ هِيَ مُقَدِّمةُ الدَّعْوةِ إِلَى الشَّرِيعَةِ كُلِّهَا، بَلْ هِيَ الدِّينُ كُلُّهُ، إِذْ أَنَّ أَصْلَ الْخِلَافِ بَيْنَ الرَّسُولِ وَالمُعَانِدِينَ المُكَذِّبينَ لَهُ مِنْ قومِهِ يَوْمَئِذٍ هُوَ مَسْأَلَةُ الإيمانِ بوَحْدَانِيَّةِ اللهِ ـ تَعَالَى، وَلِذَلِكَ قَالُوا: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهًا واحِدًا؟ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} الآيةَ: 5، مِنْ سُورَةِ (ص). وَقَدْ أَنْكَرُوا الْبَعْثَ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَجِدُوا فِي دِينِهِم الذي كانُوا عَلَيْهِ ما يُشِيرُ إلى بعثٍ لحياةٍ أُخرى بَعْدَ الموتِ، فحِسابٌ ثُمَّ ثوابٌ وعقابٌ، إِذْ أَنَّ مَنَ صاغُوا لَهُمُ عقيدةَ الشِّرْكَ، ما كانوا يُحَدِّثُونَهُمْ إِلَّا عَنْ الدُّنْيَا وَأَحْوَالِها، ولِذَلِكَ فَقدْ كَانَ تَصَلُّبُهُمْ فِي إِنْكَارِ الْبَعْثِ وَنفيِ حَيَاةٍ أُخْرَى فِيهَا حِسَابٌ وَجزَاءٌ فَثَوَابٌ أَوْ عقابٌ، شُعْبَةً مِنْ شُعَبِ الشِّرْكِ، وبَنْدًا أَساسيًّا مِنْ بنودِهِ. وإِذًا فَلَا جَرَمَ كَانَ الِاهْتِمَامُ بِتَقْرِيرِ الْوَحْدَانِيَّةِ للهِ ـ تَعَالى، تَضْيِيقًا لِشُقَّةِ الْخِلَافِ بَيْنَ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ الْمُعْرِضِينَ عَنْ دَعْوتِهِ ـ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الَّذِينَ افْتُتِحَتِ السُّورَةُ بِوَصْفِ حَالِهِمْ بِقَوْلِهِ ـ جَلَّ وَعَزَّ، أَوَّلَ هَذِهِ السُّورَةِ الْمُباركةِ: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ * مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ * لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ}، الآياتِ: (1 ـ 3). وَقَدْ تقدَّمَ تفْسيرُهُ والحديثُ حولَهُ في مَكانِهِ.
قولُهُ: {أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} هُوَ أَصْلُ الدَّعْوَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ الْوَاجِبُ عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ بِهَا، أَيْ الْإِيمَانُ بِوَحْدَانِيَّةِ اللهِ ـ تَعَالَى، وَالكُفْرُ بإِلَهِيَّةِ مَا سِوَاهُ، ممَّا علَيْهِ الْأُمَمُ يَوْمَئِذٍ. وَلِذَلِكَ صُدِّرَتْ هَذِهِ الآيَةُ بِأَمْرِ اللهِ لِرَسولِهِ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ .. . لِتُصْغيَ أَسْمَاعُهُمْ إِلَيْهِ.
والقَصْرُ هُنَا هوَ قَصْرٌ عَلى الحُكْمِ، كَمَا لَوْ قُلتَ: إِنَّمَا زَيْدٌ قائِمٌ. أَيْ: لَيْسَ لزيْدٍ إِلَّا صِفَةُ القِيَامِ. فَـ "أَنَّمَا" ـ الْمَفْتُوحَةُ الْهَمْزَةِ، هِيَ أُخْتُ "إِنَّمَا" الْمَكْسُورَةِ الْهَمْزَةِ، فِي إِفَادَتِها للْقَصْرِ، لِأَنَّها مُرَكَّبَةٌ مِنْ "أَنَّ" الْمَفْتُوحَةِ الْهَمْزَةِ وَ "مَا" الْكَافَّةِ. وَكَذلكَ "إِنَّمَا" الْمَكْسُورَةُ الهمزِةِ فهيَ مُركَّبةٌ مِنْ "إِنَّ" الْمَكْسُورَةِ الْهَمْزَةِ وَ "مَا" الْكَافَّةِ، وَ "إنَّ" و "أَنَّ" أُخْتَانِ، وكلاهما حَرْفٌ مُشَبَّهٌ بالفعلِ وَتَعْمَلُ نَفْسَ العَمَلِ، وتُفَيدُ التَّأْكِيدَ، كَمَا تُفِيدُ الحَصْرَ عِنْدَ اتِّصَالِهَا بِـ "مَا" الْكَافَّةِ.
وَقَدْ أُعْقِبَتْ "أَنَّمَا" هُنَا بِالِاسْمِ الْجَامِعِ لِحَقِيقَةِ الْإِلَهِ "إِلَهُكم"، وَأُخْبِرَ عَنْهُ بِأَنَّهُ "إِلَهٌ وَاحِدٌ" فَقَدْ أَفَادَتْ أَنَّ صَاحِبَ هَذِهِ الْحَقِيقَةِ مُتَّصِفٌ بِالْوَحْدَانِيَّةِ، فَلَا يَكُونُ فِي هَذِهِ الْحَقِيقَةِ تَعَدُّدُ أَفْرَادٍ، فَتَكُونُ "أَنَّما" المَفتوحَةُ الهَمْزَةِ قد أَفَادَتْ قَصْرًا ثَانِيًا إِضافِيًا، وَهُوَ قَصْرُ مَوْصُوفٍ عَلَى صِفَةٍ، فَالْقَصْرُ الثَّانِي فِي شَأْنِ الْإِلَهِ إِضَافِيٌّ أَيْضًا، مِنْ حَيْثُ الْوَحْدَانِيَّةُ. وَلَمَّا كَانَ مِنْ شَأْنِ الْقَصْرِ الْإِضَافِيِّ أَنْ يَرُدَّ اعْتِقَادَ الْمُخَاطَبِ بِجُمْلَةِ الْقَصْرِ، لذلكَ فقد لَزِمَ اعْتِبَارُ رَدِّ اعْتِقَادِ الْمُشْرِكِينَ بِالْقَصْرَيْنِ معًا، والحمْدُ للهِ ربِّ العَالَمِينَ.
قولُهُ: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} أَيْ: فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ لِهَذَا الوَحْيِ الَّذي يُوحَى إِلَيَّ بِإِخْلاصِ الإِلَهِيَّةِ للهِ ـ تَعَالَى، وَتَوْحِيدِهِ ـ سُبْحانَهُ، وَهَلْ أَنْتُمْ مُخْلِصُونَ العِبَادَةَ لَهُ ـ جَلَّ وَعَلَا. فَإِنَّ الاسْتِفْهَامَ هُنَا مَعْنَاهُ الأَمْرُ، والمَعْنَى: أَسْلِمُوا للهِ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ مِنْ سُورَةِ المَائِدَةِ: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ} الآيَةَ: 91، فإِنَّ المَعْنَى هُوَ: انْتَهُوا.
قولُهُ تَعَالَى: {قُلْ} فعلُ أَمْرٍ مبنيٌّ على السُّكونِ، وقدْ حُذِفتِ الأَلِفُ مِنْ وَسَطِهِ لالْتِقاءِ السَّاكنَيْنِ، وفاعِلُهُ ضمِيرٌ مُسْتترٌ فيهِ وُجوبًا تَقديرُهُ (أَنْتَ) يعودُ على سيِّدِنا رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ، والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
قولُهُ: {إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ} إِنَّمَا: أَدَاةُ حَصْرٍ. و "يُوحَى" فِعْلٌ مُضَارِعٌ مُغَيَّرُ الصِّيغَةِ (مبنيٌّ للمجهولِ)، مَرْفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ النَّاصِبِ والجازِمِ، وَعَلامَةُ رَفعِهِ ضَمَّةٌ مُقدَّرةٌ عَلَى آخِرِهِ لتَعذُّرِ ظُهُورِها عَلى الأَلِفِ. وَ "إِلَيَّ" إِلَى: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بـ "يُوحَى"، وياءُ المُتكَلِّمِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجَرِّ بحرفِ الجَرِّ.
قولُهُ: {أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} و "أَنَّمَا" أَنَّ: حَرْفٌ ناصِبٌ، نَاسِخٌ مُشَبَّهٌ بالفعلِ للتَّوْكيدِ، مَصْدَريٌّ، وَلَكِنَّ عملَهُ بَطَلَ لِدُخُولِ "مَا" الكافَّةِ عَلَيْهَا. و "ما" كَافَةٌ كَفَّتْ مَا قَبْلَهَا عَنِ العَمَلِ فِيمَا بَعْدَهَا. و "إِلَهُكُمْ" مَرْفوعٌ بالابْتِداءِ، وهوَ مُضافٌ، و "كافُ الخِطابِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ، والميمُ: علامةُ الجَمعِ المُذَكَّرِ. و "إِلَهٌ" خَبَرُ المُبْتَدَأِ مرفوعٌ. و "وَاحِدٌ" صِفَةُ "إِلَهٌ" مَرْفوعةٌ مِثلُهُ. وَجُمْلَةُ "أَنَّ" وَمَا فِي حَيِّزِهَا مِنَ المُبْتَدَأِ وَخَبَرِهِ، فِي تَأْويلِ مَصْدَرٍ مَرْفُوعٍ عَلَى كَوْنِهِ نَائِبًا عَنْ فاعِلِ "يُوحَى"، والتَّقْديرُ: قُلْ لَّهُمْ يَا مُحَمَّدُ: مَا يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا كَوْنُ إِلَهِكُمْ إِلَهًا وَاحِدًا، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ في كَشَّافِهِ: "إِنَّمَا" لِقَصْرِ الحُكْمِ عَلَى شَيْءٍ، أَوْ لِقَصْرِ الشَّيْءِ عَلَى حُكْمٍ كَقَوْلِكَ: "إِنَّمَا زَيْدٌ قائِمٌ، وَ "إِنَّمَا يَقُومُ زَيْدٌ. وَقَدِ اجْتَمَعَ المِثَالَانِ فِي هَذِهِ الآيَةِ؛ لِأَنَّ "إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ" مَعَ فَاعِلِهِ بِمَنْزِلَةِ: "إِنَّمَا يَقُومُ زَيْدٌ، وَ "أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ" بِمَنْزِلَةِ "إِنَّمَا زَيْدٌ قائِمٌ». وَفَائِدَةُ اجْتِمَاعِهِمَا الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ الوَحْيَ لِرَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَقْصُورٌ عَلَى اسْتِئْثَارِ اللهِ بالوَحْدانِيَّةِ.
قالَ الشَّيْخُ أَبُو حيَّانَ الأَنْدَلُسِيٌّ مُعقِّبًا عَلَيْهِ: أَمَّا مَا ذَكَرَهُ فِي "أَنَّما" أَنَّها لِقَصْرِ مَا ذَكَرَ، فَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلى أَنَّ "أَنَّما" لِلْحَصْرِ، وَقَدْ قَرَّرْنَا أَنَّهَا لَا تَكُونُ لِلْحَصْرِ، وَأَنَّ "مَا" مَعَ "أَنَّ" كَ هِيَ مَعَ "كَأَنَّ" وَمَعَ "لَعَلَّ". فَكَمَا أَنَّهَا لَا تُفِيدُ الحَصْرَ فِي التَّشْبيهِ وَلَا الحَصْرِ فِي التَّرَجِّي، فَكَذَلِكَ لَا تُفِيدُهُ مَعَ "أَنَّ". وَأَمَّا جَعْلُهُ "أَنَّمَا" المَفْتُوحَةَ الهَمْزَةِ مِثْلَ المَكْسُورَتِهَا تَدُلُّ عَلَى القَصْرِ، فَلَا نَعْلَمُ الخِلَافَ إِلَّا فِي "إِنَّما" بِالْكَسْرِ، وَأَمَّا "أَنَّما" بِالْفَتْحِ فَحَرْفٌ مَصْدَرِيٌّ، يَنْسَبِكُ مِنْهُ مَعَ مَا بَعْدَهُ مَصْدَرٌ، فَالْجُمْلَةُ بَعْدَهَا لَيْسَتْ جُمْلَةً مُسْتَقِلَّةً. وَلَوْ كَانَتْ "أَنَّمَا" دَالَّةً عَلَى الحَصْرِ لَزِمَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ لَمْ يُوْحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ إِلَّا التَّوْحِيدُ، وَذَلِكَ لِا يَصِحُّ الحَصْرُ فِيهِ، إِذْ قَدْ أُوْحِيَ لَهُ أَشْيَاءُ غَيْرُ التَّوْحيدِ.
قَالَ السَّمينُ الحَلَبِيُّ في الدُّرِّ المَصُونِ مُعَقِّبًا: الحَصْرُ بِحَسَبِ كُلِّ مَقَامٍ عَلى مَا يُنَاسِبُهُ؛ فَقَدْ يَكونُ هَذَا المَقَامُ يَقْتَضِي الحَصْرَ فِي إِيحاءِ الوَحْدَانِيَّةِ لِشَيْءٍ جَرَى مِنْ إِنْكارِ الكُفَّارِ وَحْدَانِيَّتَهُ ـ تَعَالَى، وَأَنَّ اللهَ لَمْ يُوْحِ إِلَيْهِ لَهَا شَيْئًا. وَهَذَا كَمَا أَجابَ النَّاسُ عَنْ هَذَا الإِشْكَالِ الَّذي ذَكَرَهُ الشَّيْخُ أَبو حَيَّانَ فِي قَوْلِهِ ـ تَعَالَى، مِنْ سُورةِ الرَّعْدِ: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ} الآيَةَ: 7، وَقوْلِهِ مِنْ سُورةِ الكَهْفِ: {إِنَّمَا أَنَاْ بَشَرٌ} الآيَةَ: 110، وقولِهِ مِنْ سورةِ سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ ـ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلَّمَ: {إِنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} الآيةَ: 36، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ. و "ما" مِنْ قَوْلِهِ: "إِنَّمَا يُوحَى" يَجُوزُ فِيهَا وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ كَافَّةً وَقَدْ تَقَدَّمَ. وَالثَّاني: أَنْ تَكونَ مَوْصُولَةً كَهِيَ فِي قَوْلِهِ ـ تَعَالَى، مِنْ سُورةِ طَهَ: {إِنَّمَا صَنَعُواْ كيدُ ساحِرٍ} الآيةَ: 69، وَيَكونُ الخَبَرُ هُوَ الجُمْلَةَ مِنْ قِوْلِهِ: "أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ" تَقْديرُهُ: إِنَّ الَّذي يُوحَى إِلَيَّ هُوَ هَذَا الحُكْمُ. وَالجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ مَقُولُ القولِ لِـ "قُلْ".
قولُهُ: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} الفاءُ: هِيَ الفَصيحَةُ أَفْصَحَتْ عَنْ جَوَابِ شَرْطٍ تَقْديرُهُ: إِذَا عَرَفْتُمْ مَا ذَكَرْتُهُ لَكُمْ مِنَ التَّوْحيدِ، وَأَرَدْتُمْ بَيَانَ مَا هُوَ اللَّازِمُ لَكُمْ، فَأَقُولُ: هَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ؟؛ أَيْ: أَسْلِمُوا. و "هَلْ" حَرْفُ اسْتِفْهَامٍ بِمَعْنَى الأَمْرِ. و "أَنْتُمْ" ضميرُ رفعٍ منفصِلٌ للمُخاطَبينَ، مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ بالابْتِداءِ. و "مُسْلِمُونَ" خَبَرُهُ مَرفوعٌ، وَهَذِهِ الجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ، مَقُولٌ لِجَوابِ "إِذَا" المُقَدَّرَةِ، وَجُمْلَةُ "إِذَا" المُقَدَّرَةُ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ مَقُولُ القولِ لِـ "قُلْ".