لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ
(100)
قوْلُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ} لَهُم: الضميرُ عائدٌ لِجَمِيعِ الَّذينَ هُمْ حَصَبُ جَهَنَّمَ والَّذينَ هُمْ فيها خَالِدُونَ. والزَّفيرُ: هُوَ صَوْتٌ يَخْرُجُ مِنْ أَقْصَى جَوْف المَهْمُومِ صَاحِبِ الغَمِّ، حينَ يَدْفَعُ نَفَسَهُ بعْدَ حَبْسِهِ في رِئتَيْهِ حَتَّى تَنْتَفِخَ مِنْهُ ضُّلُوعُهُ. والزفيرُ: أوّلُ صوت الحمار، والشهيق: آخرهُ؛ لأنَّ الزفير إدخال النَفَس، والشهيق: إخراجُه. وقد زَفَرَ يَزْفِرُ. والاسم الزَفْرَةُ. والجمع زَفرات بالتحريك، لأنّه اسم وليس بِنَعْتٍ. وربَّما سكّنها الشاعر الرَّجِزُ للضَّرُورَةِ، حِينَ قالَ:
عَلَّ صُروفَ الدَّهْرِ أَوْ دُولاتَها
تُدِلْنَنَا اللَّمَّةَ مِنْ لَمَّاتِها
فَتَسْتَريحَ النَفْسُ مِنْ زَفْراتِهَا
مِنْ مَشْطورِ الرَّجَزِ وَقَدْ أَنْشَدَهُ الفرَّاءُ في "مَعَاني القُرْآنِ وإعْرابُهُ" لَهُ: (3/235). وَلَمْ يَنْسِبْهُ لِأَحَدٍ.
وَأَصْلُهُ مِنْ قوْلِهِمْ: زَفَرَ الحِمْلَ يَزْفِرُهُ زَفْرًا، وَأَزْدَفَرَهُ ـ أَيْضًا: إِذَا حَمَلَهُ. والزِّفْرُ: الحِمْلُ، والجَمْعُ أَزْفارٌ، كَ "أَحْمَالٍ".
والزَفيرُ: الداهِيَةُ. والزُفْرَةُ: وَسَطُ الفَرَسِ. يُقَالُ: إِنَّهُ لَعْظُ الزُّفْرَةِ. والزُفَرُ: السَيِّدُ. قَالَ أَعْشَى بَاهِلَةَ عامِرُ بْنُ الحَارِثِ، يَرْثي أَخَاهُ مِنْ أُمِّهِ، المُنْتَشِرَ بْنَ وَهْبٍ الباهِلِيَّ:
أَخُو رَغَائِبَ يُعْطِيهَا ويُسْأَلُها ............ يَأْبى الظُلامَةَ مِنْهُ النَوْلَفُ الزُفَرُ
النَّوْفَلُ: البَحْرُ، والكَثِيرُ النَّفْلِ أَيْ العَطاءِ. وَالزُّفَرُ: السَّيِّدُ الكَثيرُ العِدَّةِ وَالأَهْلِ النَّاصِرِ. وَزَافِرَةُ الرَّجُلِ: عَشِيرَتُهُ وحاشِيَتُهُ، وَأَنْصَارُهُ ومُحازِبوهُ. وَالزِّفْرُ أَيْضًا: القِرْبَةُ، والإِماءُ اللَّوَاتي يَحْمِلْنَ القِرَبَ: زَوافِرُ.
قولُهُ: {وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ} كَمَا أَغَلَقُوا آذانَهُمْ في الدُّنيا، وأصَمُّوا أَسْماعَهُم فيها عَنْ سَماعِ الحَقِّ، فَإِنَّهم مُعاقبونَ في الآخِرَةِ بالصَّمَمِ وَعَدَمِ سَمَاعِ مَا يَسُرُّهمْ وَيُبهِجُ نُفُوسَهم، فَلَا يَسْمَعونَ إلَّا مَا يكْرهونَ ممَّا يَسُوءُ وَيُحْزِنُ.
وَقِيلَ لَا يَسْمَعُونَ لِأَنَّهُمْ إنَّما يُحْشَرُونَ عُمْيًا، وبُكْمًا، صُمًّا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى في الآيةِ: 97، مِنْ سُورَةِ الإِسْرَاءِ: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا}. لأَفِي سَمَاعِ أَصْواتِ الْأَشْيَاءِ رَوْحٌ للنَّفْسِ وَأُنْسٌ، فَمَنَعَ اللهُ عَنْهُمْ ذَلِكَ فِي النَّارِ.
وَقيلَ: لَا يَسْمَعُ بَعْضُهُمْ زَفِيرَ بَعْضٍ لِشِدَّةِ ما يَلْقونَ في جَهَنَّمِ مِنْ هَوْلِ العَذابِ وَفَظَاعَتِهِ.
وَقَالَ عبدُ اللهِ ابْنُ مَسْعُودٍ ـ رَضِيَ اللهُ ـ تَعَالَى عَنْهُ، فِي تفسيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: (إِذَا بَقِيَ فِي النَّارِ مَنْ يَخْلُدُ فِيهَا جُعِلُوا فِي تَوَابِيتَ مِنْ نَارٍ، ثُمَّ جُعِلَتْ تِلْكَ التَّوَابِيتُ في تَوَابِيتَ أُخَرَ، ثُمَّ تِلْكَ التَّوَابِيتُ فِي تَوَابِيتَ أُخَرَ، عَلَيْهَا مَسَامِيرُ مِنْ نَارٍ، فَلَا يَسْمَعُونَ شَيْئًا وَلَا يَرَى أَحَدٌ مِنْهُمْ أَنَّ فِي النَّارِ أَحَدًا يُعَذَّبُ غَيْرَهُ، ثُمَّ اسْتَثْنَى فَقَالَ: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ}. ذَكَرَهُ البَغَوِيُّ في تَفْسيرِهِ "مَعَالِمُ التَّنْزِيلِ": (3/318). والقُرْطُبِيُّ في تَفْسِيرِهِ "الجامعُ لأَحْكامِ القُرآنِ": (11/345)، وغيرُهُما.
قوْلُهُ تَعَالَى: {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ} لَهُمْ: اللَّامُ: حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِخَبَرٍ مَقَدَّمٍ. وَالهَاءُ: ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بَحَرْفِ الجَرِّ، والميمُ: علامةُ جَمْعِ المُذَكَّرِ. وَ "فِيهَا" في: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِحَالٍ مِنْ الضَّمِيرِ المجرورِ في "لَهُمْ"، و "ها" ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ الجَرِّ بِحَرْفِ الجَرِّ. و "زَفِيرٌ" مَرفوعٌ بالابْتِدَاءِ مُؤَخَّرٌ، والتَّقْديرُ: زَفِيرٌ كائِنٌ لَهُمْ، حَالَةَ كَوْنِهِمْ مُسْتَقِرِّينَ فِيهَا، وَهَذِهِ الجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ جملةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإِعْرابِ.
قولُهُ: {وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ} الوَاوُ: حاليَّةٌ، و "هُمْ" ضميرٌ مُنْفَصِلٌ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالابْتِدَاءِ. و "فِيهَا" في: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِالخَبَرِ "يَسْمَعُونَ"، و "ها" ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ، مَبْنِيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ الجرِّ بحرفِ الجَرِّ. و "لَا" نافيَةٌ، و "يَسْمَعُونَ" فِعْلٌ مُضارِعٌ مَرفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وعَلامَةُ رَفْعِهِ ثَبَاتُ النُّونِ في آخِرِهِ لِأَنَّهُ مِنَ الأَفْعَالِ الخَمْسَةِ، وواوُ الجَمَاعَةِ ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ، مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالفَاعِلِيَّةِ، والجُمْلَةُ الفعلِيَّةُ هَذِهِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ خَبَرُ المُبْتَدَأِ، وهذِهِ الجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ عَلى الحالِ مِنْ الضَّميرِ المَجْرورِ في "لَهُمْ"، أَوْ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ لَهُمْ فَيهَا زَفَير.