فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ
(88)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ} أَيْ: أَجَبْنا نِدَاءَهُ ودُعاءَهُ، وَحَقَّقْنا رَجاءَهُ، والِاسْتِجَابَةُ: مُبَالَغَةٌ فِي الْإِجَابَةِ. وَهِيَ ـ هُنَا، إِجَابَةُ تَوْبَتِهِ مِمَّا فَرَّطَ مِنْهُ. وزِيادَةُ السِّينِ والتَّاءٍ للتَّأْكيدِ عَلَى سُرْعَةِ هذِهِ الإِجابَةِ، وتَحَقُّقِها، كَمَا أَنَّ تَعْدِيَةَ هَذا الفِعْلِ باللَّامِ ـ مَعَ أَنَّهُ يَتَّعَدَّى بِنَفْسِهِ؛ لإِظْهَارِ كَمَالِ العِنَايَةِ بِهِ، وتَوالي النِّعَمِ عَلَيْهِ.
لَقَدِ اسْتَجَابَ لَهُ اللهُ ـ سُبْحانَه، وَلَمْ يَدْعُهُ بِلِسَانِهِ، لَكِنَّهُ يَعْلَمُ مَا يُكِنُّ في جَنَانِهِ. فَإِنَّهُ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، لَمْ يَقُلُ أَكْثَرَ مِنْ: {لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} الآيةِ: 87، السَّابقةِ.
قوْلُهُ: {وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمّ} الْغَمُّ: هُوَ الأَلَمُ الَّذِي يُصِمُّ النَّفْسَ وَيُصِيبُهَا بِغُمَّةٍ شَديدَةٍ وَهَمٍّ وَاصِبٍ. وَيَعْنِي بالْغَمِّ هُنَا: غَمَّ بَطْنِ الحُوتِ، وَالغَمَّ الناجِمَ عَنِ الشُّعورِ بِالذَّنْبِ إِثْرَ المُغَاضَبَةِ وَالخُرُوجِ عَنْ سَنَنِ النَّبِيِّينَ.
قولُهُ: {وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} تَذْيِيلٌ لِمَا سَبَقَ، فِيهِ تَعْرِيضٌ بِالْمُشْرِكِينَ مِنَ الْعَرَبِ بِأَنَّ اللهَ مُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْغَمِّ وَالنَّكَدِ الَّذِي يُلَاقُونَهُ مِنْ سُوءِ مُعَامَلَةِ الْمُشْرِكِينَ إِيَّاهُمْ فِي بِلَادِهِمْ.
وَالْإِشَارَةُ بِـ "كَذلِكَ" إِلَى الْإِنْجَاءِ الَّذِي أَنْجَى بِهِ يُونُسَ، أَيْ: وَكَما نْجَّيْنَا عَبْدَنا يُونُسَ صَاحِبَ الحُوتِ نَنْجِي المُؤْمِنِينَ، فَلَا نَدَعُ أَحَدًا مِنْهُمْ في هَمٍّ أَو غَمٍّ، إِذَا دعانا فَقَالَ مِثْلَ مَا قَالَ ذُو النُّونِ، بلْ نُنَجِّيهِ كما نَجَّيْنا عَبْدَنا ذَا النُّونِ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ.
وَقَدْ وَقَعَ الْإِنْجَاءُ حِينَ الِاسْتِجَابَةِ إِذِ الصَّحِيحُ أَنَّهُ مَا بَقِيَ فِي بَطْنِ الْحُوتِ إِلَّا سَاعَةً قَلِيلَةً.
وَالْحُوتُ الذي ابْتَلَعَ يونُسَ هُوَ مِنْ الْحِيتَانِ الضَّخْمَةِ الَّتِي تَبْتَلِعُ الْأَجْسامَ الضَّخْمَةَ وَلَا تَقْضِمُهَا بِأَسْنَانِها. وَقد شَاعَ بَيْنَ النَّاسِ تَسْمِيَةُ هَذا الصِّنْفِ مِنَ الْحُيتانِ بِحُوتِ يُونُسَ.
قولُهُ تَعَالَى: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ} الفاءُ: للعَطْفِ والترْتيبِ والتَّعقيبِ. و "اسْتَجَبْنَا" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ على السُّكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رفعٍ مُتَحِرِّكٍ، هُوَ "نا" المعَظِّمِ نفسَهُ ـ سُبْحانَهُ وَتَعَالى، وضَميرُ التعظيمِ هَذا مُتَّصِلٌ بِهِ، مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في محلِّ الرَّفعِ بالفاعِلِيَّةِ. و "لَهُ" اللامُ: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "اسْتَجَبْنَا"، الهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلَّ الجَرِّ بحرفِ الجَرِّ. والجُمْلَةُ الفعليَّةُ هَذِهِ في مَحَلِّ الجرِّ عَطْفًا عَلى جُمْلَةِ {نادَى}.
قولُهُ: {وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمّ} الواوُ: للعَطْفِ، وَ "نَجَّيْنَا" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ على السُّكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رفعٍ مُتَحِرِّكٍ، هُوَ "نا" المعَظِّمِ نفسَهُ ـ سُبْحانَهُ وَتَعَالى، وضَميرُ التعظيمِ هَذا مُتَّصِلٌ بِهِ، مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في محلِّ الرَّفعِ بالفاعِلِيَّةِ. والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ النَّصْبِ على المَفْعُولِيَّةِ. و "مِنَ" حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بـ "نَجَّيْنَا"، وَ "الْغَمِّ" مجرورٌ بحرفِ الجَرِّ، وَالجُمْلَةُ في مَحَلِّ الجرِّ عَطْفًا عَلى جُمْلَةِ "اسْتَجبْنا".
قولُهُ: {وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} الواوُ: اسْتِئْنَافِيَّةٌ، و "كَذَلِكَ" الكافُ حرفُ جَرٍّ وتَشبيهٍ، صفة لمصدر محذوفٍ، أوْ حالٌ لهذا المصْدَرِ، وَ "ذا" اسْمُ إِشارةٍ مبنيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ الجَرِّ بحرفِ الجَرِّ، واللامُ: للبُعْدِ، والكافُ: للخِطابِ. و "نُنْجِي" فِعْلٌ مُضارعٌ مرفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازمِ، وعَلَامَةُ رَفْعِهِ الضَّمَّةُ المُقدَّرةُ عَلى آخرِهِ لانشغالِ المحلِّ بالحركةِ المناسِبةِ لِيَاءِ المُتَكَلِّمِ، وَفَاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ فيهِ وجوبًا تقديرُهُ (نحنُ)، يَعُودُ عَلَى اللهَ ـ سُبْحانَهُ وَتَعَالى، وَ "الْمُؤْمِنِينَ" مَفْعُولُهُ مَنْصُوبٌ بِهِ، وعَلامةُ نَصْبِهِ الياءُ لأنَّهُ جمعُ المُذكَّرِ السَّالمُ، وهذا عَلَى رَأْيِ مَنْ يُجَوِّزُ إِنَابَةَ الْمَصْدَرِ مَعَ وُجُودِ الْمَفْعُولِ بِهِ. كَمَا فِي قِرَاءَةِ أَبِي جَعْفَرٍ للآيةِ: 14، مِنْ سُورةِ الجاثية: {لِيَجْزِيَ} ـ بِفَتْحِ الزَّايِ، قَوْمًا بِما كانُوا يَكْسِبُونَ} بِتَقْدِيرِ لِيُجْزَى الْجَزَاءَ قَوْمًا. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْكَشَّافِ: إِنَّ هَذَا التَّوْجِيهَ بَارِدُ التَّعَسُّفِ. وَالجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ.