قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى
(126)
قولُهُ ـ تَعالى ِشَأْنُهُ: {قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا} جَوابٌ لِسُؤالِهِ بقولِهِ الوارِدِ في الآيَةِ الَّتي قَبْلَها: {رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا؟}، فَأُجيبَ: "كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا"، و "آياتُنا" حُجَجُنا وَدَلَالَاتُنَا عَلَى وَحْدَانِيَّتِنَا وَقُدْرَتِنَا، فقد جاءتْكَ وَاضِحَةً تمامَ الوُضوحِ كالشَّمْسِ النَيِّرَةِ في كَبِدِ السَّماءِ رابعَةَ النَّهارِ. فَلَا تَخْفَى عَلَى ناظِرٍ، ولا تُعمَّى عَلى أَحَدٍ، ومعَ ذلكَ فقدْ تعامَيْتَ عَنْهَا، وَأَغْفَلْتَهَا، وتَرَكْتَهَا، وأَهْمَلْتَها كَمَا يُتْرَكَ المَنْسِيُّ، وَيُهْمَلُ خامِلُ الذِّكْرِ الَّذي لَا يكادُ يُذْكَرُ أَصْلًا، وعَمِيَتَ عَنْها فَلَمْ تَعْبَأْ بِهَا، ولمْ تَنْظُرْ فِيهَا، بَلْ أَعْرَضْتَ عَنْهَا، وَتَرَكْتَها وَابْتَعدْتَ.
قوْلُهُ: {وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} قَالَ قَتَادَةُ: نُسُوا مِنَ الْخَيْرِ وَلَمْ يُنْسَوْا مِنَ الْعَذَابِ. أَيْ: وَمِثْلَ ذَلِكَ الإِعْراضِ عَنْ آياتِنا الذي أَعْرَضْتَ، وَالتَّعَامِي الذي كانَ مِنْكَ، وَمثلُ ذَلِكَ النِّسْيَانِ وَالتَّرْكِ، ومِثْلَ إهْمالِكَ لَهَا فِي الحَيَاةِ الدُّنيا، تُتْرَكُ هُنَا فِي الْعَذَابِ، وتُهْمَلُ في نَارِ جَهَنَّمَ، وتُنسَى فِيهَا كما نَسِيتَ، وذَلكَ جَزَاءً وِفاقًا لِمَا صَدَرَ عَنْكَ، وكِفاءً لِمَا بَدَرَ مِنْكَ إِلى مَا شَاءَ اللهُ. ثُمَّ يَزُولُ عَنْهُ العَمَى فَيَرَى أَهْوَالَ يومِ القيامَةِ، وَيُشَاهِدُ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ، فَيَكونُ ذَلِكَ عَذَابًا لَهُ فَوْقَ العَذَابِ، وَكَذلِكَ يُفعَلُ بِالصُّمِّ والبُكْمِ، حَيْثُ يُزيلُ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمْ الصَّمَمَ والبَكَمَ، لِيَزدادوا عَذَابًا فَوْ ما يَكونُونَ فِيْهِ مِنْ عَذابٍ، فَلَا يكونَ أَسْمعَ منْهَمْ ولا أَقوى بَصَرًا، كما قالَ اللهُ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ مَرْيمَ ـ عَلَيْها السَّلامُ: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} الآيةَ: 38. وَالنِّسْيَانُ مُسْتَعْمَلٌ كِنَايَةً أَوِ اسْتِعَارَةً فِي الْحِرْمَانِ مِنْ حُظُوظِ الرَّحْمَةِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسيتَها وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى" قَالَ: تُتْرَكُ فِي النَّارِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ مِثْلَهُ عَنِ السُّدِّيِّ ـ رضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ.
قوْلُهُ تَعالى: {قَالَ} قالَ: فِعْلٌ مَاضٍ مَبْنيٌّ عَلى الفَتْحِ، وفاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ فِيهِ جَوَازًا تَقْديرُهُ (هُوَ) يَعُودُ عَلَى اللهِ ـ تَعَالَى، والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ مُسْتَأْنَفَةٌ لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرَابِ.
قَوْلُهُ: {كَذَلِكَ} الكافُ: حَرْفُ جَرٍّ للتَشْبيهِ مُتَعَلِّقٌ بِصِفَةٍ لِمَصْدَرٍ مَحْذوفٍ، والتَّقْديرُ: حَشَرْنَاكَ حَشْرًا مِثْلَ ذَلِكَ الحَشْرِ، يَعْنِي: "أَعْمَى" أَوْ فَعَلْنَا بِكَ مِثْلَ ذَلِكَ، أَوْ بِخَبَرٍ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذوفٍ والتَّقْديرُ: الأَمْرُ كَذَلِكَ. وَقَالَ أَبُو البَقَاءِ العُكْبُرِيُّ: "كَذَلِكَ" فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، أَيْ: حَشْرًا مِثْلَ ذَلِكَ، أَوْ فَعَلْنَا مِثْلَ ذَلِكَ، أَوْ إِتْيَانًا مِثْلَ ذَلِكَ، أَوْ جَزَاءً مِثْلَ إِعْرَاضِكَ، أَوْ نِسْيَانًا. وَهَذِهِ الأَوْجُهُ الَّتِي قَالَهَا العُكْبُريُّ تَكونُ الكافُ فِي بَعْضِهَا نَصْبًا عَلَى المَصْدَرِ، وَفِي بَعْضِهَا نَصْبًا عَلَى المَفْعُولِ بِهِ. وَلَمْ يَذْكُرِ الزَّمَخْشَرِيُّ فِيهِ غَيْرَ المَفْعُولِ بِهِ فَقَالَ: أَيْ: مِثْلَ ذَلِكَ فَعَلْتَ أَنْتَ، ثُمَّ فُسِّرَ بِأَنَّ آياتِنا أَتَتْكَ وَاضِحَةً مُسْتَنيرَةً فَلَمْ تَنْظُرْ إِلَيْهَا بِعَيْنِ المُعْتَبِرِ، و "ذا" اسْمُ إِشَارَةٍ مَبْنِيٌّ على السُّكونِ في مَحَلَّ الجَرِّ بِحَرْفِ الجَرِّ، واللَّامُ للبُعِدِ، والكافُ الثانيةُ للخِطَابِ. وَالجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ مَقُولُ القَوْلِ لِـ "قَالَ".
قولُهُ: {أَتَتْكَ آيَاتُنَا} أَتَتْكَ: فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى الأَلِفِ المَحْذُوفَةُ
لالْتِقاءِ السَّاكِنَيْنِ، والتاءُ السَّاكِنَةُ: لِتَأْنِيثِ الفاعِلِ، والكافُ: ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ النَّصْبِ عَلَى المَفْعُولِيَّةِ. و "آيَاتُنَا" فَاعِلُهُ مَرْفوعٌ بِهِ وهوَ مُضَافٌ، وكافُ الخِطابِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بالإِضافةِ إِلَيْهِ، وَالجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ مَقُولُ القولِ لِـ "قَالَ".
قوْلُهُ: {فَنَسِيتَهَا} الفاءُ: عَاطِفَةٌ، و "نَسِيتَهَا" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ عَلَى السُّكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رفعٍ متحرِّكٍ هوَ تاءُ الفاعِلِ، وهي ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الرَّفعِ بالفاعِلِيَّةِ، و "ها" ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السُّكونِ في محلِّ النَّصْبِ على المَفْعُوليَّةِ، والجُمْلَةُ الفعليِةُ هَذِهِ في مَحَلِّ النَّصْبِ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ "أَتَتْكَ" على كونِها في مقولَ القولِ لـ "قال".
قولُهُ: {وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} الواوُ: عَاطِفَةٌ، و "كَذَلِكَ" تَقَدَّمَ إعرابُها. و "الْيَوْمَ" منصوبٌ على الظَّرْفيَّةِ الزمانيَّةِ مُتَعَلِّقٌ بِـ "تُنْسَى". و "تُنْسَى" فِعْلٌ مُضَارِعٌ مُغَيَّرُ الصِّيغَةِ مبنيٌّ للمَجْهولِ، مرفوعٌ لتجَرُّدِهِ مِنَ النَّاصِبِ والجازمِ، وعلامةُ رَفعِهِ ضمّةٌ مُقدَّرةٌ عَلَى آخِرِهِ لِتَعَذُّرِ ظهورِها على الألِفِ، وَنائِبُ فَاعِلِهِ ضَمِيرٌ مُسْتترٌ فيهِ وُجوبًا تقديرُهُ (أَنْتَ) يَعُودُ عَلَى المُعْرِضِ عَنْ ذِكْرِ اللهِ تعالى، وَالتَّقْديرُ: وَتُنْسَى اليَوْمَ نِسْيَانًا مِثْلَ نِسْيَانِكَ ذِكْرَنا في الدُنْيَا، وَالجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ "نَسِيتَها" عَلَى كَوْنِهَا مَقُولَ القولِ لِـ "قَالَ".