الموسوعةُ القرآنيةُ (فيضُ العليم مِن معاني الذكْر الحكيم) سورةُ (طه) الآية: 84
قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى (84)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ:{قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي} أَيْ: هُمْ سَائِرونَ خَلْفي، وهُمْ قَرِيبٌ، وَمَا تَقَدَّمْتُهُمْ إِلَّا بِخطواتٍ يَسِيرةٍ ظننتُ أَنَّ مِثْلَهُ يُغْتَفَرُ، فَكَأَنِّي لَمْ أَتَقَدَّمْهُمْ، وَلَمْ أَعْجَلْ عَنْهُمْ لِقُرْبِ مَا بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ، وَقدْ سَبَقْتُهُمْ إِلَى مُنَاجَاتِكَ لِأَحْظَى برُضْوانِكَ ولأَزْدَادَ مِنْكَ قرْبِكَ، وَمُسَارَعَةً إِلَى مِيعَادِكْ.
وَهَكَذَا شَأْنُ المَوْعُودِ بِمَا يَسُرُّهُ، فإنَّهُ يَوَدُّ لَوْ رَكِبَ أَجْنِحَةَ الطَّيْرِ، أَوِ البَرْقَ لِيَصَلَ إِلى مَوْعُودِهِ وَيُدْرَكَ سُرورَهُ ومُناهُ، وَلَا مِثْلَ سُرورِ مَنْ مَوْعِدُهُ اللهِ تَعَالَى رَبِّهِ وَمَولاهُ.
قوْلُهُ: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} اعْتذَارٌ مِنْ سيِّدِنا مُوسَى ـ عَلَى نَبِيِّنَا وَعَليْهِ الصَّلاةُ السَّلامُ، إِلى رَبِّهِ ـ تَبَارَكَ وَتَعَالى، عَنْ تَعَجُّلِهِ في السَّيرِ، وَتَركِهِ قوْمَهُ يَسِيرُونَ خَلْفَهُ مَعَ أَخِيهِ هَارُونَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، بِأَنَّهُ إنَّما عَجِلَ إِلَيْهِ تَعَالَى اسْتِجَابَةِ لأَمْرِهِ ـ سُبْحانَهُ، ومُبَالَغَةً فِي إِرْضَائِهِ لِرَبِّهُ وَمَوْلَاهُ. وَقَدْ ظَنَّ ـ عَلَيْهِ الصلاةُ والسَّلامُ، أَنَّ لَيْسَ فِي تَقَدُّمِهِ عَلَيْهِمْ مَا يُؤْخَذُ عَلَيْهِ، أَوْ يَلامُ أَوْ يُعاتَبُ.
وَقِيلَ: إِنَّ المُرَادَ مِنْ سُؤَالِ اللهِ تَعَالى نَبِيَّهُ مُوسَى ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، عَنْ سَبَبِ تَعَجُّلِهِ ـ وَهُوَ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ، أَنْ يُعَلِّمَهُ أَدَبَ السَّفَرِ، إِذْ عَلى رَئيسِ القَوْمِ أَنْ يَتَأَخَرَ عَنْهُمْ لِيَكونَ بَصَرُهُ بِهِمْ، وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِمْ، ولا يَحْصُلُ هَذَا مَعَ تَقَدُّمِهِ عَلَيْهِمْ. وَمِثْلُ هذا الأَدَبِ عَلَّمَهُ اللهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ لُوطًا مِنْ قَبْلُ فَقَالَ في الآيةِ: 65، مِنْ سُورَةِ الحِجْرِ: {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ}، فَقد أَمَرَهُ ـ جَلَّ وَعَزَّ، أَنْ يَكونَ آخَرَهُمْ.
قوْلُهُ تَعَالَى:{قَالَ} قَالَ: فِعْلٌ مَاضٍ مبنيٌّ على الفتْحِ الظاهرِ على آخرِه، وَفَاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلى سيِّدِنا "مُوسَى" عَلَيْهِ السَّلامُ، وَالجُمْلَةُ استئنافٌ بَيَانيٌّ لَا مَحَلٌّ لها مِنَ الإِعْرابِ.
قولُهُ: {هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي} هُمْ: ضَمْيرٌ مُنْفَصِلٌ مَبْنِيٌّ في محلِّ الرَّفعِ بالابْتِداءِ. و "أُولَاءِ" اسْمٌ مَوْصولٌ في مَعْنَى "الذينَ"، مَبْنِيٌّ عَلى الكَسْرِ في مَحَلِّ الرَّفعِ خَبَرُهُ، وَقَدْ كُسِرَتْ؛ لِأَنَّ أَصْلَهَا السُّكونُ، لَكِنَّ الهَمْزَةَ كُسِرَتْ لِسُكونِها وَسُكونِ الأَلِفِ. وَإِنَّمَا كَانَ أَصْلُهَا السُّكونُ؛ لِأَنَّها بِمَنْزِلَةِ حَرْفِ الإِشارَةِ، والحُروفُ أَصْلُها السُّكونُ. و "عَلَى" حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذوفِ خَبَرٍ ثَانٍ لِلْمُبْتَدَأِ، أَوْ بِحالٍ مِنْهُ، و "أَثَرِي" مَجْرورٌ بحرفِ الجَرِّ، وهَذِهِ الجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ مَقولُ "قَالَ".
قوْلُهُ: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ} الوَاوُ: حرْفُ عَطْفٍ، و "عَجِلْتُ" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ عَلَى السُّكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رفعٍ متحرِّكٍ هوَ تاءُ الفاعِلِ، وتاءُ الفاعِلِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ عَلَى الضَّمِّ في محلِّ الرَّفعِ بالفاعِلِيَّةِ. و "إِلَيْكَ" إِلَى: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بـ "عَجِلْتُ"، وكافُ الخِطابِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجَرِّ بحرفِ الجَرِّ، وَالجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هذِهِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ "هُمْ أُولاءِ" الاسْمِيَّةِ عَلَى كَوْنِها في محلِّ النَّصْبِ بـ "قَالَ".
قولُهُ: {رَبِّ} رَبِّ: مُنَادَى مَنْصُوبٌ بالنِّداءِ مُضافٌ، وَعَلامَةُ نَصْبِهِ فَتْحَةٌ مُقَدَّرَةٌ عَلى مَا قَبْلِ ياء المتكلِّمِ المَحْذوفَةِ للتَّخْفِيفِ، وَياءُ المُتَكَلِّمِ المَحْذوفَةُ للتَّخْفيفِ فِي مَحَلِّ الجَرِّ بالإِضافَةِ إِلَيها، وَجُمْلَةُ النِّداءِ هَذِهِ جملةٌ اعْتِراضِيَّةٌ للاسْتِرْحامِ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعْرابِ.
قولُهُ: {لِتَرْضَى} اللَّامُ: لامُ "كَيْ" حَرْفُ جَرٍّ لِلتَّعْليلِ، مُتَعَلِّقٌ بِـ "عَجِلْتُ"، وَ "تَرْضَى" فعلٌ مُضَارِعٌ مَنْصُوبٌ بِـ "أَنْ" مُضْمَرَةٍ بَعْدَ لَامِ "كيْ"، وَعَلامَةُ نَصْبِهِ فَتْحَةٌ مُقَدَّرَةٌ على آخِرِهِ لِتَعَذُّرِ ظهورِها على الأَلِفِ. وفاعِلُهُ ضميرٌ مُسْتترٌ فيهِ وُجوبًا تقديرُهُ (أَنْتَ) يَعُودُ عَلَى اللهِ تَعَالَى، وَالجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هذِهِ، مَعَ "أَنْ" المُضْمَرَةِ: فِي تَأْويلِ مَصْدَرٍ مَجْرُورٍ بِلَامِ "كي"، والتَّقْديرُ: لِرِضَاكَ عَنِّي.
قَرَأَ الجُمْهُورُ: {أُوْلاء} بِهَمْزَةٍ مَكْسُورَةٍ. وَقَرَأَ الحَسَنُ، وَابْنُ مُعَاذٍ "أُولايِ" بِيَاءٍ مَكْسُورَةٍ، فَأَبْدَلَا الهَمْزَةَ يَاءً تَخْفِيفًا. وَقرأَ يَحْيَى ابْنُ وَثَّابٍ "أُوْلاَ" بِالقَصْرِ دُونَ هَمْزَةٍ. وَقَرَأَتْ طائفةٌ "أُولايَ" بِيَاءٍ مَفْتُوحَةٍ، وَهِيَ قَريبَةٌ مِنَ الغَلَطِ. وَالْمَدُّ فِي قَوْلِهِ: "أُولَاءِ" لُغَةُ الْحِجَازِيِّينَ. وَرَجَّحَهَا ابْنُ مَالِكٍ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ: وَالْمَدُّ أَوْلَى. وَلُغَةُ التَّمِيمِيِّينَ "أُولَا" بِالْقَصْرِ، وَيَجُوزُ دُخُولُ اللَّامِ عَلَى لُغَةِ التَّمِيمِيِّينَ فِي الْبُعْدِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الأعْشَى:
أُولَالِكَا قَوْمِي لَمْ يَكُونُوا أُشَابَةً ........... وَهَلْ يَعِظُ الضِّلِّيلَ إِلَّا أُولَالِكَا
وقيلَ: البَيْتُ هوَ لِابْنِ الكَلْحَبَةِ اليرْبوعِيِّ، واسْمُهُ هُبَيْرَةُ بْنُ عَبْد مَنَافٍ، وَ "كَلْحَبَةُ" هي أُمُّهُ. وَأَمَّا عَلَى لُغَةِ الْحِجَازِيِّينَ بِالْمَدِّ فَلَا يَجُوزُ دُخُولُ اللَّامِ عَلَيْهَا.
قَرَأَ الجُمْهورُ: {عَلَى أَثَري} بِفَتْحِ الهَمْزَةِ، والياءِ. وقرَأَ أَبُو عَمْرٍو في روايةِ عَبْدِ الوَارِثِ عَنْهُ وزيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وأَبو رَزينٍ العَقيلِيِّ، وَعَاصِمٌ الجَحْدَرِيُّ: "عَلَى إِثْري" بِكَسْرِ الهَمْزَةِ وَسُكونِ الثَّاءِ. وقَرَأَ عِكْرِمَةُ، وَأَبُو المُتَوَكِّلِ، وَعِيسى بْنُ يَعْمُرٍ بِضَمِّهَا وَسُكونِ الثَّاء، وحَكَاهَا الكِسَائِيُّ لُغَةً. وَقَرَأَ أَبُو رَجَاءٍ النَّقَّاشُ، وَأَبُو العالِيَةِ "أَثْري" بِفَتْحِ الهَمْزَةِ وَسُكونِ الثَّاءِ.
التعليقات