قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى
(49)
قولُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {قَالَ} أَيْ "قالَ" فِرْعَوْنُ بَعْدَمَا أَتَيَاهُ وَبَلَّغَاهُ رِسالَةَ رَبِّهِ إلَيْهِ، الَّتي أَمَرَهُما بِتَبْليغِهِ إِيَّاهَا. قَالَ أَبو إِسْحاقٍ الزَّجَّاجُ: (المَعْنَى فَأَتَيَاهُ، فَقالَا لَهُ: مَا أَخْبَرَ اللهُ فِي كِتَابِهِ، فَقَالَ لَهُمَا فِرْعَوْنُ: "فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى" دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمَا أَتَيَاهُ فَقالَا لَهُ) "معاني القرآنِ وإِعْرَابُهُ" لَهُ: (3/358). وَإِنَّمَا طُوِيَ ذِكْرُ هَذَا إِيجازًا عَلَى مَا جَرَتْ عَلَيْهِ عادةُ أُسْلوبُ الذِّكْرُ الحَكيمٌ في البَلاغَةِ، لِأَنَّ البَلاغَةَ هِيَ الإيجازُ ـ كَمَا عَرَّفَها أَئمَّةُ أَهْلُ هَذِهِ اللغَةِ العظيمةِ وَعُلَمَاءُ البَيَانِ.
وللإِشْعَارِ بِأَنَّ مُوسَى وأَخَاهُ هَارونَ ـ عَلَيْهِما السَّلامُ، سَارَعَا بِتَبْلِيغِ الرِّسالةِ على أَكْمَلِ الوُجوهِ، وَذَلِكَ امْتِثَالًا لِأَمْرِ اللهِ ـ سُبْحانَهُ وتَعَالى، دونَ تَمَهُّلٍ، أَوْ تَلَكُّؤٍ تَبِاطُؤٍ، أَوْ تَكَاسُلٍ، أَوْ تَلَعْثُمٍ، وهَذا مِنَ الظُّهُورِ والوُضُوحِ بِحَيْثُ لَا يُحْتَاجُ إِلَى التَّصْريحِ بِهِ.
قولُهُ: {فَمَنْ رَبُّكُمَا} لَقَدْ رَتَّبَتِ الفَاءُ هُنَا هَذَا السُّؤَالَ عَلَى مَا سَبَقَ مِنْ أَنَّهُمَا رَسُولَيْ رَبِّهِمَا، كَأَنَّما قَالَ: إِذَا كُنْتُمَا رَسُولَيْ رَبِّكُمَا ـ كَمَا تَزْعُمانِ، فَأَخْبِرَاني مَنْ هوَ رَبُّكُمَا هَذا الذي أَرْسَلَكُما إِلَيَّ بهذِهِ الرِّسالةِ؟
وَسَأَلَهُما عَنْ ربِّهِما، فَلَمْ يُضِفْ الرُّبوبيَّةِ إِلَى نَفْسِهِ، لِعَدَمِ اعْتِرَافِهِ بِمَرْبوبيَّتِهِ، وَكَيْفَ يعترِفُ بها لِغَيْرِهِ وَهُوَ يَعْتَقِدُها ويدَّعيها لِنَفْسِهِ؟. أَوَ لَمْ يَقُلُ {أَنَا ربُّكُمُ الأَعَلَى} كَمَا حَكَى اللهُ هَذَا عَنْهُ في الآيةِ: 24، مِنْ سُورةِ النَّازِعاتِ. بَلْ لمْ يكُنْ يَعْتَرِفِ بِأَنَّهُ ثمَّةَ رَبَّ للخَلْقِ سِواهُ، لِمَا حَكَاهُ عنْهُ الحَقُّ ـ تَبَارَكَ وتَعَالَى فِي الآيةِ: 38، مِنْ سُورَةِ" القَصَصِ، قَالَ: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ}.
وَعَزَفَ عَنْ قُوْلِ: "فَمَنْ رَبِّي؟" أَوْ فَمَنْ رَبُّنا؟ إِلَى قَوْلِهِ: فَمَنْ رَبُّكُما إِعْرَاضًا مِنْهُ عَنِ الِاعْتِرَافِ بِالْمَرْبُوبِيَّةِ وَلَوْ بِحِكَايَةِ قَوْلِهِمَا، لِتَمَادِيهِ في عُتُوِّهِ واسْتِرْسَالِهِ في طُغْيَانِهِ ولِئَلَّا يَتَنَاهَى ذَلِكَ إِلَى أَسْماعِ قَوْمِهِ وأَتْبَاعِهِ، فَيَنْقلِبُوا عَلَيْهِ ويَمْتَنِعُوا عِنْ عِبادَتِهُ، ويَنْصَرِفُوا إِلى عبادةِ غَيْرِهِ.
قولُهُ: {يَا مُوسَى} في بِدَايَةِ الحِوَارِ وَجَّهَ فِرْعَوْنُ الْخِطَابَ إِلَى مُوسَى وهارونَ بِالضَّمِيرِ الْمُشْتَرَكِ، ثُمَّ خَصَّ مُوسَى بِالنِّدَاءِ، لِعِلْمِهِ بِأَنَّ مُوسَى هُوَ الْأَصْلُ بِالرِّسَالَةِ، وَأَنَّ هَارُونَ تَابِعٌ لِمُوسَى، وَهَذَا وَإِنْ لَمْ يَحْتَوِ عَلَيْهِ كَلَامُهُمَا فَقَدْ تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ فِرْعَوْنُ عَلِمَهُ مِنْ كَيْفِيَّةِ دُخُولِهِمَا عَلَيْهِ وَمُخَاطَبَتِهِ، وَلِأَنَّ مُوسَى كَانَ مَعْرُوفًا فِي بَلَاطِ فِرْعَوْنَ فقد كانَ رَبِيُّهُ أَوْ رَبِيُّ أَبِيهِ، فَلَهُ سَابِقَةُ اتِّصَالٍ بِدَارِ فِرْعَوْنَ وعائلَتِهِ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ لَهُ الْمَحْكِيُّ فِي الآيَةِ: 18، مِنْ سُورَةِ الشُّعَرَاءِ: {قالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ}َ. وَلَعَلَّ مُوسَى كانَ هُوَ الَّذِي يَتَوَلَّى الْكَلَامَ في الحوارِ مَعَ فِرْعونَ، وَكانَ هَارُونُ يُصَدِّقُهُ بِالْقَوْلِ أَوْ بِالْإِشَارَةِ، فَقد كانَ مْوسَى هوَ الأَصْلُ فِي الرِّسَالَةِ، وهارُونُ ـ عَلَيْهِما السَّلامُ، وَزَيرَهُ.
وَأَمَّا مَا قِيلَ مِنْ أَنَّ السَّبَبَ الذي دعاهُ لِتَخْصِيصِ موسى بهذا الخِطابِ دونَ أَخِيِهِ هَارُونَ هو أَنَّهُ عَرَفَ أَنَّ لِمُوسَى ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، آفَةً في النُّطْقِ لِحرقٍ تَعَرَّضَ لهُ لِسَانُهُ وهوَ صغيرٌ ـ كَمَا تَقَدَّمَ، ولذلكَ فقد أَرادَ فرعونَ أَنْ يُفْحِمَهُ لعَجْزِهِ عَنْ حُسْنِ البَيَانِ، وَلِذَلِكَ قَالَ في مَعْرِضِ إِظْهارِ عُيُوبِهِ: {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِين} الآيةَ: 52، مِنْ سورةِ الزُّخْرُفِ، فَمِنْ غُلُوِّهِ فِي الخُبْثِ، وَلِذَلِكَ فَقدْ أَرَادَ اسْتِنْطاقَهُ دَونَ أَخِيهِ، لِعِلْمِهِ أَنَّ هارونَ كانَ فَصِيحًا سَلِيمَ اللِّسانِ. ويجوزُ أَنْ يَكونَ قدْ بَدَأَ بِهِ وَحَذَفَ المَعْطُوفَ لِلْعَلْمِ بِهِ، أَيْ: فكأنَّهُ قالَ: يَا مُوسَى وَهَارُونَ، وَلَا حاجَةَ إِلى هَذا التَّعْلِيلِ الذي قالَهُ العُكْبُريُّ. وَقَدْ يُقَالَ: حَسَّنَ الحَذْفَ هُنَا كَوْنُ مُوسَى فَاصِلَةً، وكانَ يغني أَنْ يُقَدَّمَ هَارون ويُؤَخَّرَ مُوسَى فَيُقالُ: يَا هَارُونُ وَمُوسَى فَتَحْصُلُ مُجَانَسَةُ الفَوَاصِلِ مِنْ غيرِ حَذْفٍ لِأَنَّ البَدْءَ بِمُوسَى أَهمُّ فَهُوَ المَبْدُوءُ بِهِ.
قولُهُ تَعَالى {قَالَ} قَالَ: فِعْلٌ مَاضٍ مبنيٌّ عَلى الفتْحِ، وفاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلَى "فرعون". والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا محلَّ لها مِنَ الإِعْرَابِ.
قولُهُ: {فَمَنْ رَبُّكُمَا} فَمَنْ: الفاءُ: هيَ الفَصيحَةُ؛ أَفْصَحَتْ عَنْ جَوَاب ِشَرْطٍ تَقْديرُهُ: إِذَا قُلْتُمَا إِنَّا رَسُولا رَبِّكُمَا فَمَنْ رَبُّكُمَا؟. و "مَنْ" اسْمٌ لِلِاسْتِفْهَامِ التَّعَجُّبِيِّ، فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ بالابْتِدَاءِ، و "رَبُّكُمَا" ربُّ: خَبَرُهُ مرفوعٌ، وهو مُضافٌ، و "ضميرُ المُخاطَبِ المُثنَّى مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ، وَهَذِهِ الجُمْلَةُ الاسْميَّةُ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ مَقُولُ، لجواب "إذا" المُقَدَّرَةِ، وَجُمْلَةُ "إِذَا" المُقَدَّرَةِ فِي مَحَلِّ النَصْبِ مَقُولُ القوْلِ لِـ "قَالَ".
قوْلهُ: {يَا مُوسَى} يَا: أَداةُ نداءٍ للبعيدِ. و "مُوسَى" مُنَادَى مُفْرَدُ العَلَمِ مَبْنِيٌّ على الضَّمِّ المُقَدَّرِ على آخِرِهِ لتَعَذُّرِ ظُهُورِهِ عَلَى الأَلِفِ، في محلِّ النَّصْبِ على النِّداءِ، وَجُمْلَةُ النِّداءِ هَذِهِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ مَقُول القولِ لِـ "قَالَ".