وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى (37)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى} وَلقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ: "مَنَنَّا" مِنَ الْمَنُّ: وَهُوَ الْعَطَاءُ تَفَضُّلًا، وَالإِحْسَانُ إِلَى مَنْ لَا تَرْجُوا مِنْهُ أَنْ يُثيبَكَ أَوْ يُكافِئَكَ عَلَى عَطَائِكَ وإِحْسَانِكَ إليْهِ. أَيْ: وَلَقَدْ أَحْسَنَّا إِلَيْكَ وَأَنْعَمْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ. ومُلَاطَفَتُهُ ـ سُبْحانَهُ وتَعَالَى، هَذِهِ لِسَيِّدِنَا مُوسَى ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، في هَذِهِ الآياتِ المُباركاتِ، كَمُلَاطَفَتَهُ لِسَيِّدِنا مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللهُ عَليِهِ وَسَلَّمُ، في قولِهِ مِنْ سورةِ الضُحى: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى * أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى * وَوَجَدَكَ عائِلًا فَأَغْنَى} الآياتِ: (5 ـ
. فهذِهِ الآيةُ معْطُوفَةٌ عَلَى الآية: 36، الَّتِي قَبْلَها: {قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسَى}، لِأَنَّ جُمْلَةَ {قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ} تَتَضَمَّنُ مِنَّةً عَلَيْهِ، فَعُطِفَ عَلَيْهَا تَذْكِيرُهُ بِمِنَّةٍ أُخْرَى عَلَيْهِ، وهي إِنْجَاؤُهِ مِنْ فِرْعَوْنَ وَهُوَ صَغِيرٌ، لِيَعْلَمَ أَنَّهُ كانَ وما يزالُ بِمَحَلِّ الْعِنَايَةِ مِنْ رَبِّهِ مِنْ أَوَّلِ أَوْقَاتِ وُجُودِهِ، لِأَنَّ تِلْكَ الْعِنَايَةَ الْأُولَى كانتِ التَمْهِيدَ لِاصْطِفَاهِ وتَحْمِيلِهِ الرِّسَالَةَ، رِسالةَ الهدايَةِ والخَيْرِ وَالرَّحْمَةِ، فَكَرَمُ رَبِّ العِزَّةِ يَقْتَضِي أَنَّ الِابْتِدَاءَ بِالْإِحْسَانِ يَسْتَدْعِي الِاسْتِمْرَارَ عَلَيْهِ.
وفَيهِ طَمْأَنَةٌ لِفُؤَادِهِ ـ عليْهِ السَّلامُ، وَشَرْحٌ لِصَدْرِهِ، وتثبيتٌ لَهُ لِيَعْلَمَ أَنَّهُ مُؤَيَّدٌ مِنْ اللهِ ـ عزَّ جارُهُ، فِي سَائِرِ أَحْوَالِهِ مُسْتَقْبَلًا، وَقدْ أَكَّدَ ذَلِكَ بِلَامِ الْقَسَمِ، وَ "قَدْ" التي تُفيدُ تَحْقِيقَ الْخَبَرِ، لِأَنَّ مُوسَى ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، كانَ قَدْ عَلِمَ ذَلِكَ مِنْ قبلُ، فَجاءَ تَحْقِيقُ الْخَبَرِ لَهُ تَحْقِيقًا لَلَازِمِهِ الْمُرَادِ مِنْهُ، وَهُوَ أَنَّ عِنَايَةَ اللهِ بِهِ دَائِمَةٌ لَا تَنْقَطِعُ عَنْهُ، وذلكَ زِيَادَةٌ فِي تَطْمِينِهِ.
وَ "مَرَّةً" الْمَرَّةُ: بوزنِ "فَعْلَة" مَصْدَرٌ مِنَ الْمُرُورِ، اسْمٌ لِلْمُرورِ الواحِدِ، ثُمَّ أُطْلِقَ عَلى كُلِّ فَعْلَةٍ وَاحِدَةٍ مَنَ الفَعَلاتِ سواءً كانتْ مُتَعَدِّيَةً أَوْ لَازِمَةً، ثُمَّ شَاعَ فِي كُلِّ فَرٍدٍ واحِدٍ مِنْ أَفْرادِ أَمْثَالِهِ، ك "الكَرَّة" و "الرَّجْعَة"، و "الدفعة"، و "التارَةُ" فغَلَبَتْ عَلَى مَعْنَى الْفِعْلَةِ الْوَاحِدَةِ مِنْ عَمَلٍ مُعَيَّنٍ يُعْرَفُ بِالْإِضَافَة أَوْ بِدَلَالَةِ الْمَقَامِ. فَقِيلَ: هَذَا بِنَاءُ المَرَّةِ، والمُرَادُ بِهَا هَهُنَا الوَقْتُ المُمْتَدُّ الذي وَقَعَ فِيهِ مَا سَيَأْتِي ذِكْرُهُ مِنَ المِنَنِ العَظِيمَةِ الكَثِيرَةِ.
لَقَدْ أَعْطَيْنَاكَ مَا سَأَلْتَ، وَتَنَاسَيْتَ حِينَ حَفِظْنَاكَ فِي اليَمِّ بِدْءَ أَمْرِكَ، وَنَجَّيْنَا أُمَّكَ مِنْ ذَلِكَ الغَمِّ، ورَبَّيْنَاكَ فِي حِجْرِ عَدُوِّك، وغرسْنا حُبَّكَ فِي قَلْبِ امْرَأَةِ فِرْعَوْنَ والشَفَقَةَ عَلَيْكَ، وأَلْقَيْنَا عليكَ رداءَ المَحَبَّةَ حَتَّى أَنَّ عدوَّكَ أحبّكَ، ورَبَّاكَ حَتَّى قَتَلَ بِسَبَبِكَ ما لا يُحْصَى مِنَ الوِلْدَانِ، فأين كان سُؤُالُكَ؟ وأَينَ اخْتِيارُكَ في ذلِكَ كلِّهِ وَدُعَاؤُكَ؟.
وَ "أُخْرَى" تَأْنِيثُ "آخَر" بِمَعْنَى غَيْر. وَبَعْضُهم زَعَمَ أَنَّها بِمَعْنَى "آخِرَة"، فَتَكونُ مُقابِلَةً لـ "الأولى"، قالَ: وقدْ سَمَّاها "أُخْرَى" وهِيَ الأُولَى في الوَاقِعِ لِأَنَّ ذِكْرَهَا جَاءَ آخِرًا.
قالَ الإمامُ الفخرُ الرَّازي في تَفْسيرِهِ (مَفاتيحُ الغَيْبِ) أَوِ التَفْسِيرُ الكَبيرُ: (22/46): فَنَبَّهَ الحقُّ بِذَلِكَ عَلَى أُمُورٍ:
أَحَدُهَا: كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: إِنِّي رَاعَيْتُ مَصْلَحَتَكَ قَبْلَ سُؤَالِكَ فَكَيْفَ لَا أُعْطِيكَ مُرَادَكَ بَعْدَ السُّؤَالِ.
وَثَانِيهَا: إِنِّي كُنْتُ قَدْ رَبَّيْتُكَ فَلَوْ مَنَعْتُكَ الْآنَ مَطْلُوبَكَ لَكَانَ ذَلِكَ رَدًّا بَعْدَ الْقَبُولِ وَإِسَاءَةً بَعْدَ الْإِحْسَانِ فَكَيْفَ يَلِيقُ بِكَرَمِي.
وَثَالِثُهَا: إِنَّا لَمَّا أَعْطَيْنَاكَ فِي الْأَزْمِنَةِ السَّالِفَةِ كُلَّ مَا احْتَجْتَ إِلَيْهِ، وَرَقَّيْنَاكَ مِنْ حَالَةٍ نَازِلَةٍ إِلَى دَرَجَةٍ عَالِيَةٍ، دَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّا نَصَّبْنَاكَ لِمَنْصِبٍ عَالٍ وَمَهَمٍّ عَظِيمٍ، فَكَيْفَ يَلِيقُ بِمِثْلِ هَذِهِ الرُّتْبَةِ الْمَنْعُ مِنَ المَطْلوبِ، وهَهُنَا سُؤَالَانِ:
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: لِمَ ذَكَرَ تِلْكَ النِّعِمَ بِلَفْظِ الْمِنَّةِ مَعَ أَنَّ هَذِهِ اللَّفْظَةَ لَفْظَةٌ مُؤْذِيَةٌ وَالْمَقَامُ مَقَامُ التَّلَطُّفِ؟ وَالْجَوَابُ إِنَّمَا ذَكَرَ ذَلِكَ لِيَعْرِفَ مُوسَى ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَنَّ هَذِهِ النِّعِمَ الَّتِي وَصَلَتْ إِلَيْهِ مَا كَانَ مُسْتَحِقًّا لِشَيْءٍ مِنْهَا بَلْ إِنَّمَا خَصَّهُ الله تَعَالَى بِهَا بِمَحْضِ التَّفَضُّلِ وَالْإِحْسَانِ.
السُّؤَالُ الثَّانِي: لِمَ قَالَ مَرَّةً أُخْرَى مَعَ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ مِنَنًا كَثِيرَةً؟ وَالْجَوَابُ: لَمْ يَعْنِ بِمَرَّةٍ أُخْرَى مَرَّةً وَاحِدَةً مِنَ الْمِنَنِ لِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ يُقَالُ فِي الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ.
قولُهُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى} الواوُ: اسْتِئْنَافِيَّةٌ، وَ اللَّامُ: مُوَطِّئَةٌ للقَسَمِ، و "قد" حَرْفٌ للتَحْقِيقِ. و "مَنَنَّا" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيُّ على السُّكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رفعٍ مُتَحَرِّكٍ هو "نا" المُعظِّمِ نَفْسَهَ ـ سُبْحانَهُ، و "نَا" التعظيمِ هذِهِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السُّكونِ في محلِّ الرَّفْعِ بالفاعِلِيَّةِ. و "عَلَيْكَ" عَلَى: حرفُ جرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "مَنَنَّا"، وكافُ الخِطابِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجَرِّ بحرفِ الجَرِّ. و "مَرَّةً" يجوزُ أنْ يكونَ مَنْصُوبًا عَلَى الظَّرْفيَّةِ الزَّمانيَّةِ، أَوْ عَلَى المُفْعوليَّةِ المُطْلَقَةِ. و "أُخْرَى" صِفَةٌ لِـ "مَرَّةً" منصوبَةٌ مِثْلُها، وَالجُمْلَةُ الفعليَّةُ هذِهِ واقعةٌ جَوَابًا للقَسَمِ فَلَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرابِ، وُجْمُلَةُ القَسَمِ: مُسْتَأْنَفَةٌ عَلَى كَوْنِها مَقُولًا لِـ "قَالَ" مَسُوقَةٌ لِتَقْريرِ مَا قَبْلَها، وَلِزِيادَةِ تَطِمينِ نَفْسِ مُوسَى ـ عليْهِ السَّلامُ، بِإِجابَةِ ما سَأَلَ.