قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى (21)
قولُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ} تَقَدَّمَ فِي الآيَةِ السَّابِقَةِ أَنَّ نَبِيَّ اللهِ مَوسَى ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، لَمَّا أَلَقَى عَصَاهُ عَلى الأَرْضِ بِأَمْرِ رَبِّهِ، ورَأَى ذَلِكَ المَشْهَدَ المُخيفَ عِنْدَمَا تَحَوَّلَّتِ العَصَا إِلَى حَيَّةٍ عَظِيمَةِ الخَلْقِ تزحَف وتهتزُّ بِشَكْلٍّ مُرْعِبٍ مُخِيفٍ، وتَبْتَلِعُ مَا تجدُهُ أَمَامها مِنْ شَجَرٍ وحَجَرٍ وَتَطْحَنُهُ بِأَنْيابِها، هَرَبَ في البِدَايَةِ، ثُمَّ تَذَكَّرَ أَمْرَ رَبِّهِ لَهُ فَعَادَ، فَأَتَاهُ الأمْرُ الإِلهيُّ أَنْ "خُذْهَا ولا تَخَفْ" فَتَشَجَّعَ ومَدَّ يَدَهُ لِيَأَخُذَها فوَقَعَتْ يَدُهُ في فَمِهَا، فَلَمَا صارتْ بَيْنَ شدْقَيْها إِذا بَهَا ترجعُ عصًا كَمَا كانَتْ، وإِذا بِيْدِهِ بَيْنَ شُعْبَيْ عَصاهُ. وفي سُورَةِ النَّمْلِ ناداهُ مَوْلاهُ فَقَالَ: {فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ} الآيةَ: 10. وَفي الآيةَ: 31، مِنْ سُورَةِ القَصَصِ قالَ: {فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ}.
قَوْلُهُ: {سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى} أَيْ: سَنُعِيدُها إِلى مَا كَانَتْ عَلَيْهَ، عَصًا خَشَبيَّةً يابِسَةً لا رُوحَ فيها وَلَا حَرَاكَ. وَالسِّيرَةُ فِي الْأَصْلِ: هِيَ هَيْئَةُ السَّيْرِ، بوزنِ "فِعْلَة" كَ "الرِّكْبَةِ"، مِنَ "الرُّكوب"، ثُمَّ اتُّسِعَ فيهِ فَعُبِّرَ بِهَا عَنِ المَذْهَبِ وَالطَّرِيقَةِ. مِنْ ذلكَ قَوْلُ خَالِدٍ الهُذَلِيِّ:
فَلَا تَغْضَبَنْ مِنْ سِيرَةٍ أَنْتَ سِرْتَهَا ........... فَأَوَّلُ رَاضٍ سِيرَةً مَنْ يَسِيرُها
وَقَدْ أُطْلِقَتْ أَيْضًا عَلَى الْعَادَةِ وَالطَّبِيعَةِ، أَيْ: سَنُعِيدُهَا إِلَى سِيرَتِهَا الْأُولَى الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهَا قَبْلَ أَنْ نَقْلِبُها حَيَّةً.
وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمَا: "سَنُعِيدُهَا سِيرَتِهَا الأُولَى"، قَالَ: حَالَتِهَا الأُولَى.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: "سَنُعِيدُهَا سِيرَتِهَا الأُولَى"، قَالَ: هَيْئَتِهَا الأُولَى.
وَالمُرادُ أَنْ يَعْرِفَ مُوسَى ـ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ، أَنَّ الْعَصَا تَطَبَّعَتْ بِالِانْقِلَابِ إِلَى حَيَّةٍ إِذا أَلْقاها مِنْ يَدِهِ، ثُمَّ العَوْدَةِ إِلَى أَصِلِها إِذا أَخَذَهَا إِلَيْهِ، فَيَتَذَكَّرَ ذَلِكَ عِنْدَما تَقُومُ المُنَاظَرَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَحَرَةِ فِرعَوْنَ، لِئَلَّا يَحْتَاجَ حِينَئِذٍ إِلَى وَحْيٍ مِنَ اللهِ تَعَالَى هُنَاكَ.
قولُهُ تَعَالى: {قَالَ خُذْهَا} قَالَ: فِعْلٌ مَاضٍ مبنيٌّ عَلى الفتْحِ، وفاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلَى اللهِ ـ جَلَّ جلالُهُ، والجُمْلَةُ الفِعليَّةُ هَذِهِ مُسْتَأْنَفَةٌ لا محلَّ لَهَا مِنَ الإِعرابِ. و "خُذْهَا" فِعْل أَمْرٍ مَبْنِيٌّ على السُّكونِ، وفاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتتِرٌ فيهِ وُجوبًا تقديرُهُ (أَنْتَ) يَعُودُ عَلَى مُوسَى ـ عليْهِ السَّلامُ، و "ها" ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ على السُّكونِ في محلِّ النَّصْبِ على المفعوليَّةِ، والجُمْلَةُ الفعْلِيُّةُ هذِهِ في مَحَلِّ النَّصْبِ مَقُولُ القولِ لِـ "قَالَ".
قوْلُهُ: {وَلَا تَخَفْ} الواوُ: عاطِفَةٌ، و "لَا" نَاهِيَةٌ جَازِمَةٌ. و "تَخَفْ" فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَجْزُومٌ بِـ "لَا" النَّاهِيَةِ، وَفَاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتتِرٌ فيهِ وُجوبًا تقديرُهُ (أَنْتَ) يَعُودُ عَلَى مُوسَى ـ عليْهِ السَّلامُ، والجُمْلَةُ في مَحَلِّ النَّصْبِ بالقولِ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ "خُذْهَا".
قولُهُ: {سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى} السَينُ: حرفُ تنفيسٍ، و "نُعِيدُهَا" فِعْلٌ مُضارعٌ مرفوعٌ لتجرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وَفاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتتِرٌ فيهِ وُجوبًا تقديرُهُ (نحن) للتعظيمِ يَعُودُ عَلى اللهِ ـ سُبْحانَهُ وتَعَالَى، وَ "هَا" ضَميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ النَّصْبِ عَلَى المَفْعُولِيَّةِ، و "سِيرَتَهَا" مَنْصُوبٌ بِنَزْعِ الخَافِضِ؛ أَيْ: إِلَى "سِيرَتَهَا". وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَنْصُوبَةً عَلى الظَّرْفِ أَيْ: فِي سِيرَتِهَا، أَيْ: طَريقَتِهَا. وَيَجوزُ أَنَّ تَكونَ مَنْصُوبَةً عَلَى أَنَّها بَدَلٌ مِنْ "هَا" فِي "سَنُعِيدُهَا" بَدَلَ اشْتِمَالٍ؛ لِأَنَّ السِّيرَةَ هِيَ الصِّفَةُ، أَيْ: سَنُعِيدُهَا صِفَتَهَا وَشَكْلَهَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا، مِنْ "عَادَهُ" أَيْ: عَادَ إِلَيْهِ، فَيَتَعَدَّى لِمَفْعُولَيْنِ، وَمِنْهُ بَيْتُ زُهَيْرِ بْنِ سُلْمَى:
فَصَرِّمْ حَبْلَها إِذْ صرَّمَتْهُ ...................... وعَادَكَ أَنْ تُلاَقِيَها العَدَاءُ
وهذا هُوَ مَعْنَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ عَلَى إِسْقَاطِ "إِلَى"، وَكانَ قَدْ جَوَّزَ أَنْ يَكونَ ظَرْفًا كَمَا تَقَدَّمَ. إِلَّا أَنَّ الشَّيْخَ أَبا حَيَّانَ الأنْدَلُسِيَّ رَدَّهُ بِأَنَّهُ ظَرْفٌ مُخْتَصٌّ، وَلَا يَصِلُ إِلَيْهِ الفِعْلُ إِلَّا بِوِسَاطَةِ "فِي" إِلَّا فِيمَا شَذَّ، وهوَ مُضَافٌ، وَ "ها" ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السُّكونِ في محلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ. وَ "الأُولَى" صِفَةُ "سِيرَتَها" مَنْصُوبَةٌ مِثلُها، وَعَلامَةُ نَصْبِها فَتْحَةٌ مُقدَّرةٌ عَلَى آخِرِهَا لِتَعَذُّرِ ظُهُورِهَا على الأَلِفِ. والجُمْلَةُ الفعليَّةُ هَذِهِ، جملةٌ تَعْلِيلِيَّةٌ لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرَابِ، ويجوزُ أَنْ تَكونَ اسْتِئنافًا للقولِ، فتكونَ في محلِّ النَّصْبِ. وَجُوِّزَ أَيْضًا أَنْ يَنْتَصِبَ "سِيرَتَها" بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ تَقَديرُهُ: يَسيرُ سِيرَتَها الأُولَى، فَتَكونُ هَذِهِ الجُمْلَةُ المُقَدَّرَةُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الحالِ، أَيْ: سَنُعِيدُها سَائِرَةً سِيرَتَها، واللهُ أَعْلَمُ.