وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا (98)
قولُهُ ـ تَعَالى شأْنُهُ: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ} أَي: وَكَمْ أَهْلَكْنَا أُمَمًا وَأَجْيَالًا قَبْلَ قَوْمِكَ يَا رَسُولَ اللهِ، لأَنَّهم كَفَرُوا بِآيَاتِ اللهِ، وَكَذَّبُوا رُسُلَهُ، فَبَادُوا وَانْقَرَضُوا، وَلَمْ يَبْقَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ أٌثَرٌ.
قوْلُهُ: {هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ} الخِطابُ لِسَيِّدِنا رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولِكُلِّ مَنْ هُوَ أَهْلٌ لِهَذَا الخِطابِ السَّامي مِنْ بعدِه، ومَنْ هوَ أَهْلٌ للنَّظَرِ. وَ "هَلْ" سُؤَالٌ يُرَادُ بِهِ النَّفْيُ، وَالْمَعْنَى: لَقَدْ أَهْلَكْنَا في الْمَاضِيَ الكَثِيرَ مِنَ الْأُمَمِ، ومَحَوْنَا كلَّ أَثَرٍ كأَنَّهمْ لَمْ يَكونوا مَوجَودينَ عَلى هَذِهِ الأرْضِ يومًا مِنَ الأيامِ، وَكَأَنَّهم لمْ يُؤتى بهم إِلى هذِهِ الحياةِ البتَّةَ، فَإِنَّكَ مَا تَرَى أَحَدًا مِنْهُمْ، وَلَا تَسْمَعُ لَهُمْ صَوْتًا أَبدًا.
وَ "تُحِسُّ" بِضَمِّ التَّاء: مُضَارِعُ "أَحَسَّ"، وَالْإِحْسَاسُ: هُوَ الْإِدْرَاكُ بِالْحِسِّ، والحِسُّ وَالحَسِيسُ: الصَّوْتُ الخَفِيضُ الخَفِيُّ المُبْهَم الذي لَا يُنْطَقُ فيهِ بِحَرْفٍ ولا يُفْهَمُ مِنْهُ شيءٌ أَبدًا. وَحَسَّهُ حَسًّا فَهُوَ حَسِيسٌ، مِثْلُ: قَتَلَهُ قَتْلًا فَهُوَ قَتِيلٌ، فهوَ وَحَسَسْتُ بِهِ مِنْ بابِ "قَتَلَ" لُغَةً، وَأَحَسَّ الرَّجُلُ الشَّيْءَ إِحْسَاسًا عَلِمَ بِهِ، فَهوَ يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ مَعَ الأَلِفِ، كَمَا في قَوْلِهِ تَعَالى مِنْ سُورَةِ آل عِمْرانَ: {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ} الآيةِ: 52، وَرُبَّمَا زِيدَتْ فِيهِ الباءُ، فَقِيلَ: أَحَسَّ بِهِ، بِمَعْنَى شَعَرَ بِهِ، والمَصْدَرُ: "الحِسُّ" بالكَسْرِ، فَيَتَعَدَّى بالباءِ أَيْضًا عَلى مَعْنى شَعَرَ.
وَمَعَ أَنَّ وَسائلَ الحِسِّ، أَوِ الإدْرَاكِ خَمْسَةٌ، وهِيَ المعروفةُ بالحَواسِّ الخَمْسِ: فَالعَيْنُ للرُّؤْيَةِ، والأُذْنُ للسَّمْعِ، والأَنْفُ للشَّمِّ، واللِّسَانُ للتَذَوُّقِ، واليَدُ للِّمَسِّ، وَهَذِهِ الأُمَمُ البائدةُ لَا يُحَسُّ بِهِمْ بِأَيِّ أَدَاةِ مِنْ أَدَوَاتِ الحِسِّ الخمسَةَ هذِهِ، فَلَا أَثَرٌ لَهُمْ على الإطْلاقِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: "هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ"، قَالَ: هَل تَرَى مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ.
قوْلُهُ: {أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا} رِكْزًا: صَوْتًا؟ والرِّكْزُ: الصَّوْتُ الخَفيضُ الخَفِيُّ المُبْهَمُ الذي لا يُفْهَمُ مِنْه شيءٌ لِشِدَّةِ خُفُوتِهِ وغُمُوضِهِ، كَما يُقالُ: رِكْزُ الْكَتِيبَةِ، وَعَلَيْهِ قَولُ لَبِيدِ بْنِ ربيعَةَ مِنْ مُعَلَّقَتِهِ:
وَتَوَجَّسَتْ رِكْزَ الْأَنِيسِ فَرَاعَهَا ......... عَنْ ظَهْرِ غَيْبٍ وَالْأَنِيسُ سَقَامُهَا
وَقَدْ رُوِيَ أَيْضًا "رِزَّ" فَـ "الرِّكْزُ" وَ "الرِّزُّ" أَيْضًا: هُوَ الصَّوْتُ الخَفِيضُ الْخَفِيُّ المُبْهَمِ، ومَا لَا يُفْهَمُ مِنْ صَوْتٍ أَوْ حَرَكَةٍ، وَمِنْهُ يُقَالُ: رَكَزَ الرُّمْحَ، إِذَا غَيَّبَ طَرَفَهُ فِي الأَرْضِ، ومِنْهُ قَوْلُ طَرَفَةَ بْنِ العَبدِ مِنْ مُعَلَّقَتِهِ الشَّهِيرَةِ:
وَصَادِقَتَا سَمْعِ التَّوَجُّسِ لِلسُّرَى ............ لِرِكْزٍ خَفِيٍّ أَوْ لِصَوْتٍ مُنَدَّدِ
وَقَالَ ذُو الرُّمَّةِ يَصِفُ ثَوْرًا تَسَمَّعَ إِلَى صَوْتِ صَائِدٍ وَكِلَابٍ:
إِذَا تَوَجَّسَ رِكْزًا مُقْفِرٌ نَدُسٌ ........... بِنَبْأَةِ الصَّوْتِ مَا فِي سِمْعِهِ كَذِبُ
أَيْ: مَا فِي اسْتِمَاعِهِ كَذِبٌ أَيْ هُوَ صَادِقُ الِاسْتِمَاعِ. وَالنَّدُسُ الْحَاذِقُ فيقال: نَدِسٌ وَنَدُسٌ كَمَا يُقَالُ: حَذِرٌ وَحَذُرٌ وَيَقِظٌ وَيَقُظٌ، وَالنَّبْأَةُ الصَّوْتُ الْخَفِيُّ.
فَالرِّكْزُ إِذًا هُوَ كِنَايَةٌ عَنِ اضْمِحْلَالِهِمْ وَتَلاشِيهِمْ، كُنِّيَ بِتَلَاشي لَوَازِمِ الْوُجُودِ عَنِ تَلاشِي وُجُودِهِمْ. وَمِنْهُ الرِّكَازُ ـ بِكَسْرِ الرَّاءِ: وَهُوَ دَفينُ أَهلِ الجَاهِلِيَّةِ، غُيِّبَ بِالدَّفْنِ فِي الْأَرْضِ كَأَنَّهُ رُكِزَ فيها. وَيُقَالُ أَرْكَزَ الرَّجُلُ: إِذا وَجَدَ الرِّكَازَ.
وفي الآيَةِ تَعْريضٌ بمُشْركي قُرَيْشٍ، لِأَنَّ فِي التَّعْرِيضِ بِالْوَعِيدِ لَهُمْ نِذَارَةٌ لَهُمْ، فَقَدْ أَثْبَتَهُمْ وَأَحْيَاهُمْ، وَعَلَى مَا شَاءَ فَطَرَهُمْ وَأَبْقَاهُمْ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ ـ لَمَّا شَاءَ، أَمَاتَهُمْ وَأَفْنَاهُمْ، فَبَادُوا بِأَجْمَعِهِمْ، وَهَلَكُوا عَنْ آخِرِهِمْ، فَلَا كَبِيرَ مِنْهُمْ وَلَا صَغيرَ، وَلَا جَلِيلَ وَلَا حَقيرَ، وَسَيُطالَبُونَ ـ يَوْمَ النُّشُورِ، بالنَّقيرِ وَالقِطْمِيرِ. كَمَا فِيها بِشَارَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ بِاقْتِرَابِ إِرَاحَتِهِمْ مِنْ ضُرِّهِمْ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: "هَلْ تُحِسُّ مِنْهُم مِّنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُم رِكْزًا"، قَالَ: هَلْ تَرَى لَهُمْ عَيْنًا أَوْ تَسْمَعُ صَوْتًا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنِ الْحَسَنِ البَصْرِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي الْآيَةِ، قَالَ: ذَهَبَ الْقَوْمُ فَلَا صَوتَ وَلَا عَيْنَ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، فِي قَوْلِهِ: "رِكْزًا" قَالَ: صَوْتًا. وَأَخْرَجَ الطَّسْتِيُّ فِي مَسَائِلِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، إِنَّ نَافِعَ بْنَ الْأَزْرَقِ سَأَلَهُ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالى: "رِكْزًا" فَقَالَ: حِسًّا. قَالَ: وَهَلْ تَعْرِفُ الْعَرَبُ ذَلِكَ قَالَ: نَعَم، أَمَا سَمِعْتَ قَوْلَ الشَّاعِرِ:
إِذَا تَوَجَّسَ رِكْزًا مُقْفِرٌ نَدُسٌ ........... بِنَبْأَةِ الصَّوْتِ مَا فِي سِمْعِهِ كَذِبُ
قوْلُهُ تَعَالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ} الواوُ: استئنافيةٌ، و "كَمْ" خَبَرِيَّةٌ عَنْ كَثْرَةِ العَدَدِ، مَبْنِيَّةٌ عَلى السُّكونِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ مَفْعُولٌ بِهِ مُقَدَّمٌ لِـ "أَهْلَكْنَا". و "أَهْلَكْنَا" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ على السُّكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رفعٍ متحرِّكٍ هو "نَا" المُعَظِّمِ نَفْسَهُ ـ سُبْحانَهُ وَتَعَالى، و "نا" التعظيمِ هذِهِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلى السُّكونِ في محلِّ الرَّفعِ بالفاعِلِيَّةِ، والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ. و "قَبْلَهُمْ" منصوبٌ على الظرفيَّةِ مُتَعَلِّق بِـ "أَهْلَكْنَا"، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بحرْفِ الجَرِّ، والميمُ للجمعِ المُذكَّرِ. و "مِنْ" حرفُ جرٍّ زائد، و "قَرْنٍ" مجرورٌ لفظًا بحرفِ الجرِّ الزائدِ منْصوبٌ عَلى التَمْيِيزِ لِـ "كَمْ".
قوْلُهُ: {هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ} هَلْ: للاسْتِفْهامِ الإِنْكارِيِّ. "تُحِسُّ" فِعلٌ مُضَارِعٌ مَرْفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وَفاعِلُهُ ضَمِيرٌ مسْتترٌ فيهِ وُجُوبًا تقديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلَى سيدِنا مُحَمَّدٍ رَسولِ اللهِ ـ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلَّمَ، و "مِنْهُمْ" حرفُ جرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِحَالٍ مِنْ "أَحَدٍ" لِأَنَّهُ كَانَ صِفَةً لِـ "أَحَدٍ"، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجَرِّ بحرفِ الجَرِّ، والميمُ علامةُ تذكيرِ الجمعِ. و "مِنْ" حرفُ جرٍّ زائدٍ، و "أَحَدٍ" مجرورٌ بـ "مِنْ" لَفْظًا منصوبٌ محلًا على أَنَّهُ مَفْعولٌ بِهِ، وَالجُمْلَةُ الفعلِيَّةُ هذِه جُمْلَةٌ إِنْشائِيَّةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإِعْرَابِ.
قولُهُ: {أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا} أَوْ: حرفُ عطْفٍ وتنويعٍ. و "تَسْمَعُ" فِعْلٌ مُضارِعٌ مرفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وفاعِلُهُ ضَمِيرٌ مسْتترٌ فيهِ وُجُوبًا تقديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلَى سيدِنا مُحَمَّدٍ رَسولِ اللهِ ـ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلَّمَ، والجُمْلَةُ مَعْطوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ "تُحِسُّ" عَلَى كَوْنِها مُسْتَأْنَفَةً لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرَابِ. و "لَهُمْ" اللامُ: حرفُ جرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِحالٍ مِنْ "رِكْزًا"، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجَرِّ بحرفِ الجَرِّ، والميمُ علامةُ تذكيرِ الجمعِ. و "رِكْزًا" مَفْعُولُهُ مَنْصُوبٌ بِهِ.
قَرَأَ العامَّةُ: {تُحِسُّ} بِضَمِّ التَّاءَ وَكَسْرِ الحاءِ، مِنْ "أَحَسَّ"، "يُحِسُّ". وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ عَاصِمٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّهُ قَرَأَ: "هَلْ تُحِسُّ مِنْهُم" بِرَفْع التَّاء وَكَسْرِ الْحَاءِ وَرَفْعِ السِّينِ وَلَا يَدْغَمُها.
وَقَرَأَ أَبُو حَيَوَةَ، وَأَبُو جَعْفَرٍ وَابْنُ أَبي عَبْلَةَ: "تَحُسُّ" بِفَتْحِ التَّاءِ وَضَمِّ الحاءِ. وَقَرَأَ بَعْضُهُمْ: "تَحِسُّ" بِفَتْحِ التاءِ وَكَسْرِ الحاءِ، مِنْ "حَسَّهُ"، أَيْ: شَعَرَ بِهِ، وَمِنْهُ "الحَوَاسُّ الخَمْسُ".
قَرَأَ العامَّةُ: {تَسْمَعُ} بِفَتْحِ التَّاءِ والمِيمِ، بالبناءِ للفاعِلِ. وَقَرَأَ حَنْظَلَةُ "تُسْمَعُ" بِضَمِّ التَّاءِ، وَفَتْحِ المِيمِ بالبِناءِ للمَفْعُولِ.
انْتَهَتْ سُورَةُ "مَرْيَمَ" بِحَمْدِ اللهِ، وَتَلِهَا سُورَةُ "طَهَ" بِعَوْنِ اللهِ.