يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (85)
قَوْلُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا} الْحَشْرُ: الْجَمْعُ، ويَكُونُ فِي الْخَيْرِ كَمَا هُوَ هُنَا، وَيكونُ فِي الشَّرِ كَما في قَوْلِهِ تَعَالى مِنْ سُورَةِ الصَّافَّاتِ: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِرَاطِ الْجَحِيمِ} الآيَتانِ: (22 و 23)، وَلِذَلِكَ أَتْبَعَ فِعْلَ نَحْشُرُ هُنَا بِقَيْدٍ فَقَالَ: "وَفْدًا، أَيْ كما تُحْشَرُ الْوُفُودُ إِلَى الْمُلُوكِ، فَإِنَّ الْوُفُودَ تَكُونُ مَحَلَّ حفاوةٍ وتَكْريمٍ. والمَعْنَى: أَنَّهُ يَقُولُ ـ عَزَّ مِنْ قائلٍ: اُذْكُرْ لَهُمْ يا رَسُولَ اللهِ يَوْمَ نَجْمَعُ الذينَ اتَّقَوا رَبَّهُمْ في الحياةِ الدُنْيا، فأَطاعَوا أَوَامِرِهِ وَاجْتَنَبُوا مَعْصِيَتِهِ، فَتَراهمْ وَافِدينَ عَلَى الرَّحْمَنِ رَبِّهِمْ، كَمَا تَفِدُ الرَّعِيَّةُ عَلى مَلِكِها، مُلَبِّيةً دَعْوَتَهُ، مُتَطَلِّعَةً إِلَى إِنْعَامِهِ وَتَكْريمِهِ. فقدْ أَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ قتادةَ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالى عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "يَوْمَ نحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَن وَفْدًا" قَالَ: إِلَى الْجنَّةِ. وَكَانَتْ لِمُلُوكِ الْعَرَبِ وَكُرَمَائِهِمْ وُفُودٌ فِي أَوْقَاتٍ، وَلِأَعْيَانِ الْعَرَبِ وِفَادَاتٌ سَنَوِيَّةٌ عَلَى مُلُوكِهِمْ وَسَادَتِهِمْ، وَلِكُلِّ قَبِيلَةٍ وِفَادَةٌ، وَفِي الْمَثَلِ: "إِنَّ الشَّقِيَّ وَافِدُ الْبَرَاجِمِ". وَقَدِ اتَّبَعَ الْعَرَبُ هَذِهِ السُّنَّةَ فَوَفَدُوا عَلَى النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِأَنَّهُ أَشْرَفُ السَّادَةِ، وَذلِكَ في العامِ الذي تَلَا فَتْحَ مَكَّةَ وهوَ العامُ التاسِعُ للهجرةِ، فسمِّيَ بِعامِ الوفودِ، حَيْثُ عَمِّ الْإِسْلَامِ بعدَ ذلكَ بِلَادَ الْعَرَبِ. وَمناسَبَةُ ذِكْرُ صِفَةِ "الرَّحْمنِ" هُنَا لِلْوَفْدِ وَاضِحَةٌ.
أَمَّا طرقُ الحَشْرِ فهي أَنْواعٌ لَمَا أَخْرَجَ البُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ، مِنْ حديثِ أَبي هُرَيْرَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُول اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى ثَلاَثِ طَرَائِقَ: رَاغِبِينَ رَاهِبِينَ، وَاثْنَانِ عَلَى بَعِيرٍ، وَثَلاَثَةٌ عَلَى بَعِيرٍ، وَأَرْبَعَةٌ عَلَى بَعِيرٍ، وَعَشَرَةٌ عَلَى بَعِيرٍ، وَيَحْشُرُ بَقِيَّتَهُمُ النَّارُ، تَقِيلُ مَعَهُمْ حَيْثُ قَالُوا، وَتَبِيتُ مَعَهُمْ حَيْثُ بَاتُوا، وَتُصْبِحُ مَعَهُمْ حَيْثُ أَصْبَحُوا، وَتُمْسِي مَعَهُمْ حَيْثُ أَمْسَوْا)). صَحيحُ البُخَاري: (6522) والنَصُّ لَهُ، ومُسْلِمٌ: (2861) والنَّسائيُّ: (4/115 ـ 116) ، والبَغَوِيُّ في "شَرْحِ السُّنَّةِ" (15/12، برقم: 4314)، وابْنُ حِبَّانِ في صحيحِهِ: (16/331، برقم: 7336).
و "وَفدًا" اسْمُ الوَافدِينَ، منْ: وَفْدَ، يَفِدُ، وِفَادَةً، وَوُفُودًا، مفردُهُ: وَافِدٌ، كَ: رَكْبٍ و رَاكِبٍ، وَصَحْبٍ وَصَاحِبٍ. وفي قَوْلِهِ "وَفدًا" دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ يُثَابُونَ وَيُجْزَوْنَ؛ فهوَ مِنْ بابِ الإِيمَاءِ بِالشَّيْءِ إِلَى الشَّيْءِ؛ لِأَنَّ الوُفودَ هُمُ الرُّسُلُ يَقْدِمُونَ عادةً عَلَى المُلوكِ بِالْبِشَارَاتِ، وَفِي المُلِمَّاتِ وَعِنْدَ الحَاجاتِ وَيَتَوَقَّعُونَ الجَوَائِزَ وَقَضَاءَ حاجاتِهِمْ، وَكَذَلِكَ هوَ حالُ أَهْلِ الجَنَّةِ. ولَا يُطلَقُ العَربُ "الوَفْد" إِلَّا عَلَى الرُّكْبانِ؛ لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ مُشْتَقٌّ مِنْ قولِهِمْ: أَوْفَدَ عَلَى الشَّيْءِ، بِمَعْنَى: أَشْرَفَ عَلَيْهِ، ومِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الشّاعِرِ الرَّاجِزِ الصَّحابيِّ الجَلِيلِ حُمَيْدِ بْنِ ثَوْرٍ الهِلالِّيِّ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ:
تَرَى العِلاَفِيَّ عَلَيْهَا مُوْفَدًا ..................... كَأَنَّ بُرْجًا فَوْقَهَا مُشَيَّدَا
قولُهُ: "العِلاَفَّيَّ" أَيْ: المَنْسُوبِ إِلَى عِلافٍ، وهوَ رَجُلٌ مِنَ الأَزْدِ اسْمُهُ زَبَانُ أَبُو جَرْمٍ مِنْ قُضاَعَةَ، كانَ يَصْنَعُ الرِّحَالَ، وَقِيلَ هُوَ أَوَّلُ مَنْ عَمِلَهَا فَسُمِّيَتْ عِلافِيَّةً.
والمُسْتَوْفِدُ: الرَّجُلُ يَقْعُدُ مُنْتِصِبًا غَيْرَ مُطْمَئِنٍّ. وَلِذَلِكَ سُمِّيَ الرَّاكِبُ وافِدًا؛ لِأَنَّهُ أَشْرَفَ عَلى مَرْكوبِهِ، يَدُلُ عَليْه حَديثُ سيِّدِنا عَلِيٍّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ الكريمَةُ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ: قَدْ رَأَيْتُ المُلوكَ وَوُفودَهُمْ، فَلَمْ أَرَى وَفْدًا إِلَّا رُكْبانًا، فَمَا وَفْدُ اللهِ؟ وَأَخْرَجَ الإمامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ: (1/155). وَابْنُ أَبي شَيْبَةَ في "كِتابَ الجَنَّةِ" مِنْ "مُصَنَّفِهِ": (12/161)، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ أَحْمَدٍ فِي زَوَائِدِ الْمُسْنَدِ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ، وَالْحَاكِمُ في مُسْتَدْرَكِهِ: (2/377) وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي (الْبَعْثُ والنشُورِ) عَنْ عَليٍّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّهُ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ: "يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا" فَقَالَ: أَمَا وَاللهِ مَا يُحْشَرُ الْوَفْدُ عَلى أَرجُلِهِمْ، وَلَا يُسَاقونَ سَوْقًا، وَلَكنَّهُمْ يُؤْتَوْنَ بِنُوقٍ مِنْ نُوقِ الْجَنَّةِ لَمْ تَنْظُرِ الْخَلَائقُ إِلَى مِثْلِهَا، عَلَيْهَا رِحَالُ الذَّهَبِ، وَأَزِمَّتُهَا الزَّبَرْجَدُ، فَيَرْكَبُونَ عَلَيْهَا حَتَّى يَطْرُقُوا بَابَ الْجَنَّةِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي الدُّنْيَا فِي (صِفَةُ الْجنَّةِ)، وَابْنُ أَبي حَاتِم وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ مِنْ طُرُقٍ عَنْ عَلِيٍّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: سَأَلت رَسُول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ: "يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَن وَفْدًا" قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ هَلِ الْوَفْدُ إِلَّا الرَّكْبُ؟. فقَالَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهُم إِذا خَرجُوا مِنْ قُبُورِهِمُ اسْتُقْبِلُوا بِنُوقٍ بِيضٍ لَهَا أَجْنِحَةٌ، وَعَلَيْهَا رِحَالُ الذَّهَبِ، شِراكُ نِعَالِهِمْ نُورٌ يَتَلَأْلَأُ، كُلُّ خُطْوَةٍ مِنْهَا مِثْلُ مَدِّ الْبَصَرِ، ويَنْتَهُونَ إِلَى بَابِ الْجَنَّةِ، فَإِذا حَلْقَةٌ مِنْ يَاقُوتَةٍ حَمْرَاءَ عَلَى صَفَائِحِ الذَّهَبِ، وَإِذا شَجَرَةٌ عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ يَنْبُعُ مِنْ أَصْلِهَا عَيْنَانِ، فَإِذَا شَرِبُوا مِنْ إِحْدَى الْعَينَيْنِ، تَغْسِلُ مَا فِي بُطُونِهِم مِنْ دَنَسٍ، وَيَغْتَسِلُونَ مِنَ الْأُخْرَى فَلَا تَشْعَث أَبْشارُهُمْ وَلَا أشْعارُهُمْ بَعْدَهَا أَبَدًا، فَيَضْرِبُونَ بِالْحَلَقَةِ عَلى الصَّفِيحَةِ، فَلَوْ سَمِعْتَ طَنِينَ الْحَلَقَةِ يَا عَلِيُّ، فَيَبْلُغ ُكُلَّ حَوْرَاءَ أَنَّ زَوْجَهَا قَدْ أَقْبَلَ، فَتَسْتَخِفُّها العَجَلَةُ، فَتَبْعَثُ قَيِّمَهَا فَيَفْتَحُ لَهُ الْبَابَ، فَإِذَا رَآهُ خَرَّ لَهُ سَاجِدًا فَيَقُولُ: ارْفَعْ رَأْسَكَ، فَيقولُ: إِنَّمَا أَنَا قَيِّمُكَ، وُكِّلْتُ بِأَمْرِكَ، فَيَتْبَعُهُ وَيَقْفُو أَثَرَهُ فَتَسْتَخِفُّ الْحَوْرَاءَ العَجَلَةُ، فَتَخْرُجُ مِنْ خِيامِ الدُّرِّ وَالياقوتِ حَتَّى تَعْتَنِقَهُ، ثُمَّ تَقُولُ: أَنْتَ حِبِّي وَأَنَا حِبُّكَ، وَأَنَا الرَّاضِيَةُ فَلَا أَسْخَطُ أَبَدًا، وَأَنَا النَّاعِمَةُ فَلَا أَبْأَسُ أَبَدَا، وَأَنَا الخالِدَةُ فَلَا أَمُوتُ أَبَدًا، وَأَنَا المُقِيمَةُ فَلَا أَظْعَنُ أَبَدًا، فَيَدْخُلُ بَيْتًا مِنْ أَسَاسِهِ إِلَى سَقْفِهِ مِئَةُ أَلْفِ ذِرَاعٍ، بُنِيَ عَلى جَنْدَلِ اللُّؤْلُؤِ وَالياقوتِ، طَرَائقَ حُمْرٍ، وَطَرائقَ خُضْرٍ، وطَرَائقَ صُفْرٍ مَا مِنْهَا طَريقَةٌ تُشَاكِلُ صَاحِبَتَهَا. وَفِي الْبَيْتِ سَبْعُونَ سَريرًا عَلَى كُلِّ سَرِيرٍ سَبْعُونَ فِراشًا، عَلَيْهَا سَبْعُونَ زَوْجَةٍ، عَلَى كُلِّ زَوْجَةٍ سَبْعُونَ حُلَّةٍ، يُرَى مُخُّ سَاقِهَا مِنْ وَرَاءِ الْحُلَلِ، يَقْضِي جِمَاعَهُنَّ فِي مِقْدَارِ لَيْلَةٍ مِنْ لَياليكُمْ هَذِهِ، تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ، أَنْهَارٌ مُطَّرِدَةٌ: {أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ}، صَافٍ لَيْسَ فِيهِ كَدَرٌ، و: {أَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ} وَلَمْ يَخْرُجْ مِنْ ضُرُوعِ الْمَاشِيَةَ، و {أَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ للشَّارِبِينَ} لَمْ يَعْصُرْهَا الرِّجَالُ بِأَقْدامِهَا، و: {أَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفَّى} الآيةَ: 15، مِنْ سُورَةِ: مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم، لَمْ يَخْرُجْ مِنْ بُطُونِ النَّحْلِ. فَيَسْتَحْلِي الثِّمَارَ، فَإِنْ شَاءَ أَكَلَ قَائِمًا، وَإِنْ شَاءَ أَكَلَ قَاعِدًا، وَإِن شَاءَ أَكَلَ مُتَّكِئًا، فَيَشْتَهِي الطَّعَامَ، فَيَأْتيهِ طَيْرٌ بِيضٌ أَجْنِحَتُهَا فَيَأْكُلُ مِنْ جُنُوبِهَا أَيَّ لَوْنٍ شَاءَ، ثُمَّ تَطيرُ فَتَذْهَبُ، فَيَدْخُلُ الْمَلَكُ فَيَقُولُ: {سَلَامٌ عَلَيْكُم} الآيَةَ: 73، مِنْ سُورَةِ الزُّمَر، {تِلْكُمُ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} الآيَةَ: 43، مِنْ سُورَةِ الْأَعْرَافِ.
ورَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ مَرْزُوقٍ: "يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا"، قَالَ: يَسْتَقْبِلُ الْمُؤْمِنَ عِنْدَ خُرُوجِهِ مِنْ قَبْرِهِ أَحْسَنُ صُورَةٍ رَآهَا وَأَطْيَبُهَا رِيحًا، فَيَقُولُ: مَنْ أَنْتَ؟ فَيَقُولُ: أَمَا تَعْرِفُنِي؟ فَيَقُولُ: لَا إِلَّا أَنَّ اللهَ قَدْ طَيَّبَ رِيحَكَ، وَحَسَّنَ وَجْهَكَ، فَيَقُولُ: أَنَا عَمَلُكَ الصَّالِحُ، وَهَكَذَا كُنْتَ فِي الدُّنْيَا حَسَنَ الْعَمَلِ طَيِّبَهُ، فَطَالَمَا رَكِبْتُكَ فِي الدُّنْيَا فَهَلُمَّ ارْكَبْنِي، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: "يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا".
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما: "يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا"، قَالَ: رُكْبَانًا.
وَروى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُ: "يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا، قَالَ: عَلَى الْإِبِلِ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ أَبي سَعيدٍ الخِدْريِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: "يَوْم نحْشر الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَن وَفْدًا" قَالَ: عَلى نَجَائِبَ رَوَاحِلُها مِنْ زُمُرُّدٍ وَيَاقُوتٍ وَمِنْ أَيِّ لَوْنٍ شَاءَ. وَكذا قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: عَلَى النَّجَائِبِ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: عَلَى الْإِبِلِ النُّوقِ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ اللهِ ابْنُ الْإِمَامِ أَحْمَدِ بْنِ حَنْبَلٍ فِي مُسْنَدِ أَبِيهِ عَنِ النُّعْمَانِ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ عَلِيٍّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ: "يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا"، قَالَ: وَاللهِ مَا عَلَى أَرْجُلِهِمْ يُحْشُرُونَ، وَلَا يُحْشَرُ الْوَفْدُ عَلَى أَرْجُلِهِمْ، وَلَكِنْ بِنُوقٍ لَمْ يَرَ الْخَلَائِقُ مِثْلَهَا، عَلَيْهَا رَحَائِلُ مِنْ ذَهَبٍ فَيَرْكَبُونَ عَلَيْهَا حَتَّى يَضْرِبُوا أَبْوَابَ الْجَنَّةِ!.
وَهَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ إِسْحَاقَ الْمَدَنِيِّ بِهِ، وَزَادَ: "عَلَيْهَا رَحَائِلُ مِنْ ذَهَبٍ، وَأَزِمَّتُهَا الزَّبَرْجَدُ".
وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ هُنَا حَدِيثًا غَرِيبًا جِدًّا مَرْفُوعًا عَنْ عَلِيٍّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا أَبُو غَسَّانَ مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ النَّهْدِيُّ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ جَعْفَرٍ الْبَجَلِيُّ، سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ الْبَصْرِيَّ يَقُولُ: إِنَّ عَلِيًّا كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ: يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا، فَقَالَ: مَا أَظُنُّ الْوَفْدَ إِلَّا الرَّكْبَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنَّهُمْ إِذَا خَرَجُوا مِنْ قُبُورِهِمْ يُسْتَقْبَلُونَ ـ أَوْ: يُؤْتَوْنَ، بِنُوقٍ بِيضٍ لَهَا أَجْنِحَةٌ وَعَلَيْهَا رَحَائِلُ الذَّهَبِ، شِراكُ نِعَالِهِمْ نُورٌ يَتَلَأْلَأُ، كُلُّ خُطْوَةٍ مِنْهَا مَدُّ الْبَصَرِ، فَيَنْتَهُونَ إِلَى شَجَرَةٍ يَنْبُعُ مِنْ أَصْلِهَا عَيْنَانِ فَيَشْرَبُونَ مِنْ إِحْدَاهُمَا فَتَغْسِلُ مَا فِي بُطُونِهِمْ مِنْ دَنَسٍ، وَيَغْتَسِلُونَ مِنَ الْأُخْرَى فَلَا تَشْعَثُ أَبْشَارُهُمْ وَلَا أَشْعَارُهُمْ بَعْدَهَا أَبَدًا، وَتَجْرِي عَلَيْهِمْ نَضْرَةُ النَّعِيمِ فَيَنْتَهُونَ ـ أَوْ: فَيَأْتُونَ، بَابَ الْجَنَّةِ فَإِذَا حَلْقَةٌ مِنْ يَاقُوتٍ حَمْرَاءَ عَلَى صَفَائِحِ الذَّهَبِ، فَيَضْرِبُونَ بِالْحَلْقَةِ عَلَى الصَّفْحَةِ فَيُسْمَعُ لَهَا طَنِينٌ يَا عَلِيُّ، فَيَبْلُغُ كُلَّ حَوْرَاءَ أَنَّ زَوْجَهَا قَدْ أَقْبَلَ فَتَبْعَثُ قَيِّمَهَا لِيَفْتَحَ لَهُ فَإِذَا رَآهُ خَرَّ لَهُ) قَالَ سَلَمَةُ: أَرَاهُ قَالَ سَاجِدًا (فَيَقُولُ: ارْفَعْ رَأْسَكَ فَإِنَّمَا أَنَا قَيِّمُكَ وُكِّلْتُ بِأَمْرِكَ، فَيَتْبَعُهُ وَيَقْفُو أَثَرَهُ فَتَسْتَخِفُّ الْحَوْرَاءَ الْعَجَلَةُ فَتَخْرُجُ مِنْ خِيَامِ الدُّرِّ وَالْيَاقُوتِ حَتَّى تَعْتَنِقَهُ)). إِلَى آخِرِ الْحَدِيثِ بِطُولِهِ، وَفِي آخِرِ السِّيَاقِ: هَكَذَا وَقَعَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ مَرْفُوعًا، وَرُواهُ ابْنُ كثيرٍ فِي الْمُقَدِّمَاتِ مِنْ كَلَامِ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالى عَنْهُ، وَقالَ: هُوَ أَشْبَهُ بِالصِّحَّةِ، وَاللهُ أَعْلَمُ.
ورُكُوبُهُمُ الْمَذْكُورُ إِنَّمَا يَكُونُ مِنَ الْمَحْشَرِ إِلَى الْجَنَّةِ، أَمَّا مِنَ الْقَبْرِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ يُحْشَرُونَ مُشَاةً، بِدَلِيلِ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، الدَّالِّ عَلَى أَنَّهُمْ يُحْشَرُونَ (حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا)، هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ، وَاللهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ تَعَالى: {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا} يَوْمَ: مَنْصوبٌ عَلى الظَّرْفِيَّةِ الزَّمانيَّةِ بِفِعْلٍ مَحْذوفٍ تَقْديرُهُ: اذْكُرْ لَهُمْ يَا رسولَ اللهِ يَوْمَ نَحْشُرُ المُتَّقينَ، وهذِهِ الجُمْلَةُ المَحْذوفةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإعرابِ. و "نَحْشُرُ" فعلٌ مُضارعٌ مرفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِم، وفاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتترٌ فيهِ وُجوبًا تقديرُهُ (نحنُ) للتَّعْظيم، يَعُودُ عَلى اللهِ تعالى. و "الْمُتَّقِينَ" مَفْعُولٌ بِهِ منصوبٌ، وعلامةُ نَصْبِهِ الياءُ لأَنَّهُ جمعُ المذكَّرِ السَّالمُ، والنُّونُ عِوَضٌ مِنَ التَّنْوينِ في الاسْمِ المُفرَدِ. و "إِلَى" حرْفُ جرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "نَحْشُرُ"، و "الرَّحْمَنِ" اسْمٌ مِنْ أَسْماءِ الجَلالَةِ المقدَّسَةِ في محلِّ الجرِّ بحرفِ الجرِّ. و "وَفْدًا" منصوبٌ على الحالِ مِنَ "الْمُتَّقِينَ"؛ أَيْ: وَافِدينَ، والجُمْلَةُ الفعليَّةُ هذِهِ فِي مَحَلِّ الجَرِّ بإضافَةِ الظَّرْفِ "يومَ" إِلَيْها. وهذا الظَّرفُ مَنْصُوبٌ بـ {سَيَكْفُرونَ} أَوْ بـ {يَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا}، أَوْ بـ {نَعُدُّ} تَضَمَّنَ مَعْنَى المُجَازَاةِ، أَوْ بِقَوْلِهِ: {لا يَمْلكونَ} الآتي بَعْدَهُ، وَيجوزُ أنْ ينتَصِبَ بِمُضْمَرٍ تقديرُه "اذْكُرْ"، أَوْ احْذَرْ. وَقِيلَ: هُوَ مَعْمُولٌ لِجَوابِ سُؤالٍ مُقَدَّرٍ، كَأَنَّهُ قِيلَ: مَتَّى يَكونُ ذَلِكَ؟ فَقِيلَ: يَكونُ يَوْمَ يُحْشَرُ. وَقِيلَ: تَقْديرُهُ: يَوْمَ نَحْشُرُ وَنَسُوقُ نَفْعَلُ بالفَرِيقَيْنِ مَا لَا يُحيطُ بِهِ الوَصْفُ.