فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا
(26)
قولُهُ ـ تَعَالى شأْنُهُ: {فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا} فَأَنْتِ فِي بُحْبُوحَةٍ وسَعَةِ عَيْشٍ، وَهوَ مِنْ قَوْلِ الطِّفْلِ عِيسَى ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، بِتَلْقينِ اللهِ ـ تَعالى، لَهُ، وَمِنْ بَقيَّةِ مَا ناداهَا بِهِ، فَما زَالَ الحديثُ حَديثَهُ.
وَقُرَّةُ الْعَيْنِ: تَشْمَلُ أُنْسَها بِطِفْلِها وَهَنَاءَةَ عَيْشِها. وهي كِنَايَةٌ عَنِ السُّرُورِ والرَّغَدِ. وَفِيهِ إشارةٌ لِضَمَانِ سَلَامَتِهِ وَنَبَاهَةِ شَأْنِهِ ـ عليْهِ السَّلامُ.
وَفَتْحُ الْقَافِ في "قَرِّي" لِأَنَّهُ مُضَارِعُ قَرِرَتْ عَيْنُهُ، فهوَ مِنْ بَابِ "رَضِيَ"، أُدْغِمَ فَنُقِلَتْ حَرَكَةُ عَيْنِهِ إِلَى فَائِهَا فِي الْمُضَارِعِ لِأَنَّ الْفَاءَ سَاكِنَةٌ.
وهوَ مَأْخوذٌ مِنَ "القُرِّ" الذي هوَ البَرْدُ: وَذَلِكَ أَنَّ العَيْنَ إِذا فَرِحَ صاحبُها كانَ دَمْعُها قارًّا أَيْ بارِدًا، وَإِذا حَزِنَ كانَ دمعُها حَارًّا، ولِذَلِكَ قالوا في الدعاءِ للرَّجُلِ: أَقَرَّ اللهُ عَيْنَهُ، وَفي الدُّعاءِ عَلَيْهِ قالوا: أَسْخَنَ اللهُ عَيْنَهُ. وفي ذلكَ يَقولُ أَبو تَمَّامٍ:
فأَمَّا عُيُونُ العاشِقينَ فَأُسْخِنَتْ ............. وأَمَّا عُيُونُ الشَّامِتِينَ فَقَرَّتِ
وقيلَ: هُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ الاسْتِقْرارِ، والمَعْنَى: أَعْطاهُ اللهُ مَا يُسَكِّنُ عَيْنَهُ فَلَا تَطْمَحُ إِلَى غَيْرِهِ.
قوْلُهُ: {فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا} مَا زَالَ الحَديثُ لِسَيِّدِنا عِيسَى ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، وَهُوَ وَحْيٌ مِنَ اللهِ ـ جَلَّ جلالُهُ، إِلَى مَرْيَمَ ـ عَلَيْها السَّلامُ، أَجْرَاهُ عَلَى لِسَانِ طِفْلِها الوليدِ، لِقَطْعِ الجِدالِ مَعَ مَنْ يُرِيدُ مُجَادَلَتَهَا، فَقد عَلَّمَهَا أَنْ تَنْذُرَ للهِ صَوْمًا عَنِ الْكَلَامِ، لِتَكُونَ فِي عِبَادَةٍ للهِ فَتَسْتَرِيحَ مِنْ سُؤَالِ السَّائِلِينَ، وَمُجَادَلَةِ الْجَاهِلينَ. فقدْ أَخْرَجَ ابْنُ مِرْدُوَيْهِ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ عَسَاكِرَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ تعالى عَنْهُما، فِي قَوْلِهِ تعالى: "إِنِّي نَذَرْتُ للرَّحْمنِ صَوْمًا} قَالَ: صَمْتًا.
وَأَخْرَجَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ عَنِ الشّعْبِيِّ قَالَ: فِي قِرَاءَةِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ ـ رَضِيَ اللهُ تعالى عَنْهُ: "إِنِّي نَذَرْتُ للرَّحْمَنِ صَوْمًا" صَمْتًا.
وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ فِي (الْمَصَاحِفِ)، وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكِ ـ رَضِيَ اللهُ تعالى عَنْهُ، أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ: "إِنِّي نَذَرْتُ للرَّحْمَنِ صَوْمًا" صَمْتًا.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، أَنَّهُ قَرَأَهَا: "إِنِّي نَذَرْتُ للرَّحْمَنِ صَوْمًا" صَمْتًا، وَقَالَ: لَيْسَ إِلَّا أَنْ حَمَلَتْ فَوَضَعَتْ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أبي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ ـ رَضِيَ اللهُ تعالى عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "إِنِّي نَذَرْتُ للرَّحْمَنِ صَوْمًا" قَالَ: كَانَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مَنْ إِذَا اجْتَهَدَ صَامَ عَنِ الْكَلَامِ، كَمَا يَصُومُ عَنِ الطَّعَامِ، إِلَّا عَنْ ذِكْرِ اللهِ.
فَقد كَانَ الصَّومُ عَنِ الْكَلَامِ مِنْ عِبَادَاتِ الأُمَمِ السَّابِقَةِ، فَنَسَخَتْهُ الشَرِيعَةُ الْإِسْلَاميَّةُ الغرَّاءُ، فَقدْ جاءَ في موَطَّأِ الإِمامِ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ، عَنِ ابْنِ عباسٍ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالى عنْهُما، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، رَأَى رَجُلًا مِنَ الأنْصارِ يُدْعَى أَبو إِسْرائيلَ، قَائِمًا فِي الشَّمْسِ، فَقَالَ: ((مَا بَالُ هَذَا؟. قَالُوا: نَذَرَ أَنْ لَا يَتَكَلَّمَ، وَلَا يَسْتَظِلَّ، مِنَ الشَّمْسِ، وَلَا يَجْلِسَ، وَيَصُومَ. فَقَالَ ـ عَلَيْهِ الصَلاةُ وَالسَّلامُ: ((مُرُوهُ فَلْيَتَكَلَّمْ وَلِيَسْتَظِلَّ وَلِيَجْلِسْ وَلِيُتِمَّ صِيَامَهُ)). سُنَنُ أَبي دَاودَ: (5/190)، وصحيحُ البُخارِيِّ: (6754)، وسُنَنُ بْنِ ماجَهْ: (2136م) وصَحيحُ ابْنِ حِبَّان: (4385). وفيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ يَتَأَذَّى بِهِ الإِنْسانُ مِمَّا لَمْ يَرِدْ في كِتابٍ وَلَا سُنَّةٍ مَشْروعِيَّتُهُ لَيْسَ فيهِ طاعَةٌ للهِ تَعَالى، فَلَا يَنْعَقِدُ بِهِ نَذْرٌ. وفي الأَثَرِ عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ قَالَ: دَخَلَ أَبُو بَكْرٍ ـ رضِيَ اللهُ عنْهُ، عَلَى امْرَأَةٍ مِنْ أَحْمَسَ يُقَالُ لَهَا زَيْنَبُ، فَرَآهَا لَا تَكَلَّمُ، فَقَالَ مَا لَهَا لَا تَكَلَّمُ؟ قَالُوا: حَجَّتْ مُصْمِتَةً، قَالَ لَهَا: تَكَلَّمِي فَإِنَّ هَذَا لَا يَحِلُّ هَذَا مِنْ عَمَلِ الْجَاهِلِيَّةِ. فَتَكَلَّمَتْ، فَقَالَتْ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ امْرُؤٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ. قَالَتْ: أَيُّ الْمُهَاجِرِينَ؟ قَالَ مِنْ قُرَيْشٍ. قَالَتْ مِنْ أَيِّ قُرَيْشٍ أَنْتَ؟ قَالَ إِنَّكِ لَسَؤولٌ، أَنَا أَبُو بَكْرٍ. قَالَتْ: مَا بَقَاؤُنَا عَلَى هَذَا الْأَمْرِ الصَّالِحِ الَّذِي جَاءَ اللهُ بِهِ بَعْدَ الْجَاهِلِيَّةِ؟ قَالَ بَقَاؤُكُمْ عَلَيْهِ مَا اسْتَقَامَتْ بِكُمْ أَئِمَّتُكُمْ. قَالَتْ: وَمَا الْأَئِمَّةُ؟ قَالَ: أَمَا كَانَ لِقَوْمِكِ رُؤوسٌ وَأَشْرَافٌ يَأْمُرُونَهُمْ فَيُطِيعُونَهُمْ؟ قَالَتْ: بَلَى قَالَ فَهُمْ أُولَئِكِ عَلَى النَّاسِ. صَحيحُ البُخاري: (12/206).
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ حَارِثَةَ بْنِ مُضَرِّبٍ، قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ ابْنِ مَسْعودٍ ـ رضي اللهُ تعالى عنْهُ، فجَاءَ رَجُلَانِ، فَسَلَّمَ أَحَدُهُمَا، وَلَمْ يُسَلِّمِ الآخَرُ، ثُمَّ جَلَسَا.
فَقَالَ الْقَوْمُ: مَا لِصَاحِبِكَ لَمْ يُسَلِّمْ؟ قَالَ: إِنَّهُ نَذَرَ صَوْمًا لَا يُكَلِّمُ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا. فَقَالَ عَبْدُ اللهِ: بِئْسَ مَا قُلْتَ، إِنَّمَا كَانَتْ تِلْكَ الْمَرْأَةُ، فَقَالَتْ ذَلِكَ لِيَكُونَ عُذْرًا لَهَا إِذا سُئِلَتْ ـ وَكَانُوا يُنْكرُونَ أَنْ يَكونَ وَلَدٌ مِنْ غَيْرِ زَوْجٍ إِلَّا زِنًا، فَتَكَلَّمْ، وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ، وانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ، فَإِنَّهُ خَيْرٌ لَكَ.
فَالصَّمْتُ كَانَ عِبَادَةً فِي شَرْعِ مَنْ قَبْلَنَا وَلَيْسَ هُوَ بِشَرْعٍ لَنَا لِأَنَّهُ الْإِسْلَامَ نَسَخَهُ بِقَوْلِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مُرُوهُ فَلْيَتَكَلَّمْ))، وَعَمَلِ أَصْحَابِهِ ـ رُضْوانُ اللهِ عليهم.
قوْلُهُ تَعَالى: {فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا} الفاءُ: هيَ الفصيحةُ فقد أَفْصحَتْ عَنْ جَوابِ شَرْطٍ تقديرُهُ: إِذَا تَمَّ لَكِ هَذَا المَذْكُورُ كُلُّهُ، وَأَرَدْتِ بَيَانَ الأَصْلَحِ لَكِ فَأَقولُ "كُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا". و "كُلي" فِعْلُ أَمْرٍ مَبْنِيُّ عَلى حَذْفِ النُّونِ مِنْ آخِرِهِ لأَنَّ مُضارعَهُ منَ الأَفْعالِ الخَمْسَةِ، والياءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِه في محلِّ الرَّفعِ بالفاعليَّةِ، والجُمْلَة في مَحَلِّ النَّصْبِ مَقولُ جَوابِ إِذا المُقَدَّرَةِ. و "اشْرَبِي" و " قَرِّي" مثلُ "كُلي" مَعْطوفانِ عَلَى "كُلِي" ولهما مثلُ ما لهُ مِنْ إعرابٍ. و "عَيْنًا" تَمْييزٌ مُحَوَّلٌ عَنِ الفاعِلِ إِذِ الأَصْلُ لِتَقَرَّ عَيْنُكِ.
قولُهُ: {فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا} الفاءُ: عاطِفَةٌ، "إنْ" حَرْفُ شَرْطٍ جازِمٌ مَبْنِيٌّ بِسُكونٍ عَلى النُّونِ المُدْغَمَةِ فِي مِيمِ "ما" المُؤكِّدَةِ. وَ "ما" لِتَأْكيدِ مَعْنَى الشَّرْطِ مَبْنِيَّةٌ عَلى السُّكونِ. و "تَرَيِنَّ" فِعْلٌ مُضارِعٌ مَجْزومٌ بِـ "إن" الشَّرْطِيَّةِ عَلَى كَوْنِهِ فِعْلَ شَرْطٍ لَها، وَعَلامَةُ جَزْمِهِ حَذْفُ النُّونِ منْ آخِرِهِ لأنَّهُ مِنَ الأفعالِ الخمسَةِ، والياءُ ضَمِيرُ المُؤنَّثِ المُخاطَبِ متَّصلٌ بهِ فِي مَحَلِّ الرَّفعِ بالفاعِليَّةِ، والنَّونُ المُشَدَّدَةُ نُونُ التَوْكِيدِ الثقيلةُ مَبْنِيٌّ عَلَى الفَتْحِ وَأَصْلُهُ "تَرَأَيِينَنَّ" بِهَمْزَةٍ هِي عَيْنُ الفِعْلِ، وَياءٍ مَكْسُورَةٍ هِيَ لَامُهُ وأُخْرَى ساكِنةٍ هِيَ ياءُ فاعِلِهِ والنُّونُ الأُولَى عَلامَةُ الرَّفْعِ وقد حُذِفَتْ علامةً على جَزْمِهِ، والنُّونُ الثانيةُ المُشَدَّدَةُ نُونُ التَوْكِيدِ الثقيلةُ، وَإِنَّما أُعْرِبَ الفِعْلُ هُنَا بِالْجَزْمِ لِعَدَمِ مُبَاشَرَةِ نُونِ التَوْكِيدِ بِهِ. و "مِنَ" حرفُ جرٍّ مُتَعَلِّقٌ بحالٍ مِنْ "أَحَدًا" لِأَنَّهُ صِفَةُ نَكِرَةٍ قُدِّمَتْ عَلَيْها، وَقالَ العكبُريُّ: "أَوْ مَفْعولٌ" يَعْني أَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِنَفْسِ الفِعْلِ قَبْلَهُ. و "الْبَشَرِ" مجرورٌ بحرْفِ الجَرِّ. و "أَحَدًا" مَفْعُولٌ بِهِ منصوبٌ لِأَنَّ "تَرَى" هُنَا بَصَرِيَّةٌ فتَتَعَدَّى لِمَفْعُولٍ وَاحِدٍ.
قولُهُ: {فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا} الفاءُ: رَابِطَةٌ لِجَوابِ "إِنْ" الشَّرْطِيَّةِ وُجُوبًا لِكَوْنِ الجَوَابِ جُمْلَةً طَلَبِيَّةً. و "قولي" مثلُ "كُلِي" وقدْ تقدَّمَ إِعرابُهُ. وَالجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هذِهِ فِي مَحَلِّ الجَزْمِ بِـ "أَنْ" الشَّرْطِيَّةِ عَلى كَوْنِهَا جَوَابَ الشَّرْطِ، وَبَيْنَ هَذَا الجَوَابِ وَشَرْطِهِ جُمْلَةٌ مَحْذوفَةٌ، والتقديرُ: فإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ البَشَرِ أَحَدًا، فَسَأَلَكِ الكلامَ، "فَقُولي". وَبِهَذَا المُقَدَّرِ نَتَخَلَّصُ مِنْ إِشْكالٍ: وهوَ أَنَّ قَوْلَها "فَلَنْ أُكَلِّمَ اليوم إِنسِيًّا" كَلامٌ، فَيَكونُ ذَلِكَ تَنَاقُضًا؛ لِأَنَّها قَدْ كَلَّمَتْ إِنْسِيًّا بِهَذَا الكَلامِ. وَجَوابُهُ مَا تَقَدَّمَ. وَقِيلَ: المُرادُ بِقَوْلِهِ "فَقُولي ..." إِلَى آخِرِهِ، أَنَّهُ بِالإِشارَةِ. وَلَيْسَ بِشَيْءٍ. بَلِ المَعْنَى: فَلَنْ أُكَلِّمَ اليَوْمَ إِنْسِيًّا بَعْدَ هَذَا الكلامِ. وَجُمْلَةُ "إِنْ" الشَّرْطِيَّةِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ "كُلِي" عَلَى كَوْنِهَا مَقُولًا لِجَوَابِ إِذَا المُقَدَّرَةِ. و "إِنِّي" إنَّ: حرفٌ ناصِبٌ ناسخٌ مُشَبَّهٌ بالفعلِ للتوكيدِ. والياء: ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ النَّصِبِ على كونِها اسْمَ "إنَّ". و "نَذَرْتُ" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على السُّكونِ لاتِّصالِهِ بِضَميرِ رَفْعٍ متحرِّكٍ، هو تاءُ الفاعِلِ، وهي ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الرَّفعِ بالفاعليَّةِ. و "لِلرَّحْمَنِ" لامٌ هي حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "نَذَرَ"، و "الرَّحْمَنِ" اسْمٌ للذاتِ المُقدَّسَةِ مجرورٌ بحرفِ الجَرِّ. و "صَوْمًا" منصوبٌ على المفعوليَّةِ، والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ خَبَرًا لـ "إِنَّ"، وَجُملةُ "إنَّ" فِي مَحَلِّ النَّصْبِ بـ "قُولِي".
قولُهُ: {فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا} الفاءُ: حَرْفُ عَطْفٍ وَتَفْريعٍ. و "لَنْ" حَرْفُ نَفْيٍ وَنَصْبٍ. و "أُكَلِّمَ" فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَنْصوبٌ بـ "لَنْ"، وَفَاعِلُهُ: ضَميرٌ يَعُودُ مُسْتترٌ فيهِ وُجوبًا تقديرُهُ "أَنَا" يَعْودُ عَلى "مَرْيَمَ" ـ عَلَيْهَا السَّلامُ. و "الْيَوْمَ" منصوبٌ على الظَّرْفِيَّةِ الزَّمانيَّةِ مُتَعَلِّقٌ بِـ "أُكَلِّمَ" و "إِنْسِيًّا" مَفْعولٌ بِهِ مَنْصوبٌ. وَجُمْلَةُ "أُكَلِّمَ" فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ "نَذَرْتُ" مُفَرَّعَةً عَلَيْها.
قَرَأَ العامَّةُ: {قَرِّي} بِفَتْحِ القافِ وهو فعلُ أَمْرٍ مِنْ "قَرَّتْ عَيْنُهُ"، "تَقِرُّ"، بِكَسْرِ عَيْنِ الفِعلِ في المُضارِعِ، وَفَتْحِها فِي الماضِي.
وقُرِئ أَيْضًا "قِرِّي" بِكَسْرِ القافِ، وَهِيَ لُغَةُ نَجْدٍ، يَقولونَ: قَرَّتْ عينُهُ تَقِرُّ ـ بِفَتْحِ العَيْنِ فِي الماضي وكَسْرِهَا في المُضارعِ، وَالمَشْهورُ أَنَّ مَكْسُورَ العَيْنِ في الماضِي يُقال للعينِ، ومَفْتُوحُها يقالُ في المَكانِ. فيُقالُ: قَرَرْتُ بِمَكانِ كذا أَقِرُّ بِهِ، وَقَدْ يُقالُ أَيضًا: قَرِرْتُ بِالمَكانِ بِكَسْرِ الراءِ الأُولى مِنْهُ.
قرَأَ العامَّةُ: {تَرَيِينَّ} عَلَى صَريحِ الياءِ المَكْسُورَةَ، وَقَرَأَ أَبو عَمْروٍ بْنُ العلاءِ في روايةٍ عنْهُ "تَرَئِنَّ" بِهَمْزَةٍ مَكْسُورَةٍ بَدَلَ الياءِ، وَرُوِيَ عَنْهُ كَذَلِكَ أَنَّهُ قرَأَ "لَتَرَؤُنَّ" بإِبْدالِ الواوِ هَمْزَةً. قالَ الزمخشري: هَذا مِنْ لُغَةِ مَنْ يَقولُ: (لَبَأْتُ بِالحَجِّ) وَ (حَلَأْتُ السَّوِيْقَ) ـ يَعْني بالهَمْزِ، وَذَلِكَ لِتَآخٍ بَيْنَ الهَمْزِ وَحُروفِ اللِّينِ. وتَجَرَّأَ ابْنُ خالَوَيْهِ عَلى أَبي عَمْرٍو فَقَالَ: هوَ لَحْنٌ عِنْدَ أَكْثَرِ النَّحْوِيِّينَ ، وهوَ مردودٌ عَلَيْهِ. وَقَرَأَ أَبو جَعْفَرٍ ـ قارِئُ المَدينَةِ، وشَيْبَةُ، وَطَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ: "تَرَيْنَ" بِيَاءٍ سَاكِنَةٍ وَنُونٍ خَفيفَةٍ. قَالَ ابْنُ جِنِّي: "وهِيَ شَاذَّةٌ". قالَ السَّمينُ: لِأَنَّهُ كانَ يَنْبَغي أَنْ يُؤَثِّرَ الجازِمُ، وتُحْذَفَ نُونُ الرَّفْعِ. كَقَوْلِ الأَفْوَهِ:
إمَّا تَرَيْ رَأْسِيَ أَزْرَى بِهِ ................. ماسُ زِمانٍ ذِيٍ انْتِكاثٍ مَؤُؤْسِ
ولَمْ يُؤَثِّرْ هُنَا شُذوذًا. وَهَذَا نَظيرُ قَوْلِ الآخَرِ:
لولا فَوارسُ مِنْ نُعْمٍ وأُسْرَتِهِمْ ........... يوْمَ الصُّلَيْفاءِ لمْ يُوفُوْنَ بالجارِ
فَلَمْ يُعْمِلْ "لم"، وَأَبْقَى نُونَ الرَّفْعِ. وقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ "صِيامًا" بَدَلَ "صَوْمٍ"، وَهُما مَصْدَرانِ.