فْلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (84)
قولُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {فْلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا} الخِطابُ لِحَضْرَةِ النَّبِيِّ ـ عَلَيْهِ صَلواتُ اللهِ وَسَلامُهُ، يَأْمُرُهُ أَلَّا يَسْتَعْجِلِ الْعَذَابَ لَلمُشْرِكينَ لأَنَّهمْ في قَبْضَتِهِ، وَتَحْتَ سُلْطانِهِ وسَيْطَرَتِهِ، فَإِنَّهُ ـ سُبْحَانَهُ، يَعُدُّ لَهُمْ كُلَّ مَا يتعلَّقُ بِهِمْ وبِشُؤُونِ حَياتِهِم حَتَّى أَنْفاسَهُمْ فإنَّهُ يَعُدُّها عَلَيْهِمْ عَدًّا، إِذْ لَهُمْ مَوْعِدٌ وَمِيقَاتٌ لَا يَتَعَدُّونَهُ وأَجَلٌ لَنْ يَتَجَاوَزُوه. فَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: "إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا" يَقُولُ: أَنْفَاسَهُمُ الَّتِي يَتَنَفَّسُونَ فِي الدُّنْيَا، فَهِيَ مَعْدُودَةٌ، كَسِنِّهِمْ وَآجَالِهِمْ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ أَبي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، فِي قَوْلِهِ تَعَالى: "إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا" قَالَ: كُلَّ شَيْءٍ حَتَّى النَّفَسَ. أَيْ: إِنَّنا نُنْظِرُهُمْ، وَنُؤَجِّلُهُمْ لِيَحِينَ مَوْعِدُ إهلاكِهِم، فَانْتَظِرْ يَا رَسُولَ اللهِ حُلولَ يَوْمِهِمُ الْمَوْعُودَ.
وَقَدِ اسْتُعْمِلَ "الْعَدُّ" مَجَازًا فِي قَصْرِ الْمُدَّةِ لِأَنَّ الشَّيْءَ الْقَلِيلَ يُعَدُّ وَيُحْسَبُ. بَيْنَمَا الكثيرُ لا يُعَدُّ ولا يُحْصَى، وَفِي هَذَا إِنْذَارٌ لَهُمْ بِاقْتِرابِ اسْتِئْصالِهِمْ، فَقِيلَ هُوَ يَوْمُ بَدْرٍ إِذْ أَهْلَكَ اللهُ فِيهِ طَوَاغِيتَهُمْ، كَأَبي جَهْلٍ وَغَيْرِهِ، وأَذَلَّ كِبْرِياءَهُمْ، وَأَرَغْمَ أَنُوفَهُم.
وَفِي مَعْرِضِ نَهْيِهِ ـ تَعَالَى، نَبِيَّهُ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَنْ اسْتِعْجالِ هَلَاكِهِمْ، عَبَّرَ بِـ "لَا تَعْجَلْ" مُعَدًّى بِحَرْفِ الِاسْتِعْلَاءِ "عَلَى" فَأَنُزَلَهُ مَنْزِلَةَ مَنْ بِيَدِهِ هَلَاكُهُمْ، تَكْريمًا لَهُ وَتَعْظِيمًا وتنويهًا بِشَأْنِهِ.
وَفي ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى قَبُولِهِ ـ تَبَارَكَ وَتَعَالى، دُعَاءَ نَبِيِّهِ ـ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلَّمَ، فيما لَوْ أَنَّهُ دَعَا عَلَيْهِمْ بِالعَذابِ والْهَلَاكِ، والاسْتِئْصَالِ، كما استجابَ دعاءَ غيرِهِ مِنَ الأَنْبِياءِ ـ عَلَيْهِمُ السَّلامُ، عَلى أَقْوَامِهِمْ، لكِنَّ مَنْ أَرْسَلَهُ اللهُ رَحْمَةً للعالمينَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، كانَ دُعاؤُهُ: اللهُمَّ اهْدِ قومي فإنَّهمْ لا يَعْلَمُونَ.
قوْلُهُ تَعَالَى: {فْلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ} الفاءُ: هِيَ الفَصيحَةُ أَفْصَحَتْ عَنْ جَوَابِ شَرْطٍ والتَقْديرُ: إِذَا عَرَفْتَ مَا ذَكَرْتُ لَكَ، وأَرَدْتَ بَيَانَ مَا هُوَ اللازِمُ لَكَ، فَأَقولُ: "لَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ"، و "لا" نَاهِيَةٌ جازِمَةٌ. و "تَعْجَلْ" فِعْلٌ مُضارِعٌ مَجْزُومٌ بِـ "لَا" النَّاهِيَةِ، وَفاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتِتِرٌ فيهِ وُجوبًا تَقْديرُهُ (أَنْتَ) يَعُودُ عَلَى حضْرةِ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ ـ صلَّى اللهُ علَيْهِ وسَلَّمَ. و "عَلَيْهِمْ" عَلَى: حَرْفُ جرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "تَعْجَلْ"، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بحرفِ الجَرِّ، والميمُ: علامةُ تذْكيرِ الجَمْعِ، والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ في مَحَلِّ النَّصْبِ مَقُولٌ لِجَوَابِ "إِذا" المُقَدَّرَةِ، وَجُمْلَةُ "إِذَا" المُقَدَّرَةِ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرابِ.
قوْلُهُ: {إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا} إِنَّمَا: كَافَّةٌ وَمَكْفُوفَةٌ. و "نَعُدُّ" فِعْلٌ مُضَارِعٌ مرفوعٌ لتجرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وَفَاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ فِيهِ وُجوبًا تَقْديرُهُ (نحن) للتَّعْظيمِ يَعُودُ عَلَى اللهِ ـ جَلَّ وعَلا. وَ "لَهُمْ" اللامُ: حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "نَعُدُّ"، والهاء: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بِحَرْفِ الجَرِّ، والمِيمُ للجَمْعِ المُذكَّرِ. و "عَدًّا" مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ منصوبٌ، وَالجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ مَسُوقَةٌ لِتَعْلِيلِ مَا قَبْلَهَا لا مَحَلَّ لها مِنَ الإِعْرابِ.