كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82)
قولُهُ ـ تَعَالَى شأْنُهُ: {كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ} كَلَّا: حَرْفُ رَدْعٍ للمُشْركينَ وَزَجْرٍ لَهُمْ عَنْ عَقيدَتِهِمُ الفاسِدَةِ تِلْكَ الَّتِي تَقَدَّمَ ذِكْرُها في الآيَةِ السَّابِقَةِ وَهِيَ اعْتِقادُهُمْ بِأَنَّ عِزَّتَهم في عِبَادَةِ الأَوْثانِ، فإِنَّهُم سَيَتَبرَّؤونَ مِنْ تَلْكَ الأَصْنَامِ والأَوْثانِ الَّتي كانوا يَعْبَدُونَها وذلكَ حينَ يرونَ غدًا يَوْمَ القيامةِ عَاقِبَةَ شِرْكِهمْ، وَسَيُنْكِرونَ أَنَّهمْ عَبَدُوهَا وَأَشْرَكُوا باللهِ، قَالَ ـ تَعَالَى، مِنْ سُورَةِ الأَنْعَامِ: {لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُواْ وَاللهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} الآيةَ: 23. بَلْ سَتَتَبَرَّأُ هِيَ مِنْهُمْ وَمِنْ عِبَادَتِهِمْ لَهَا، وَإِنْ كانَتْ اليَوْمَ صَمَّاءَ بَكَمَاءَ لا تَسْمَعُ ولا تُبْصِرُ ولا تنطقُ، وَلَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ، فَسَيُنطقها اللهُ تَعَالَى غَدًا كَمَا ـ جَلَّ وعَزَّ، فِي الآيةِ: 86، مِنْ سُورَةِ النَّحلِ: {وَإِذَا رَءا الذين أَشْرَكُواْ شُرَكَاءهُمْ قَالُواْ رَبَّنَا هَؤُلاءِ شُرَكَاؤُنَا الذين كُنَّا نَدْعُوْا مِنْ دُونِكَ فَألْقَوْا إِلَيْهِمُ القَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ}. وقالَ ـ سُبْحانَهُ، منْ سُورَةِ القَصَصِ: {تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ} الآيةَ: 63، وَقَالَ أَيْضًا مِنْ سُورةِ فاطِر: {ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} الآيتان: (13 و 14)، وقَالَ أَيْضًا: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} الآيَتَانِ: (5 و 6)، منْ سُورةِ الأَحْقاف.
قوْلُهُ: {وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا} الضِّدُّ: اسْمُ مَصْدَرٍ، وَهُوَ خِلَافُ الشَّيْءِ فِي الْمَاهِيَّةِ أَوِ الْمُعَامَلَةِ. أَيْ: سَتَكُونُ الأَوثانُ والأَصْنَامُ الَّتي عَبَدوها فِي الدُّنيا أَعْوَانًا عَلَيهِمْ فِي الآخِرَةِ، فَتُكَذِّبُهمْ وتَلْعَنُهم، وَسَتَتَحوَّلُ إلى وَقودٍ في نَارِ جَهَنَّمَ فَيَكْتَوُونَ بِهَا كما قالَ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ الأَنْبِيَاءِ: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} الآية: 98، وَقدِ ابْتَغَوْهَا عِزًّا ـ كَمَا تَقَدَّمَ في الآيةِ التي قبلَها، فَسَتَكونُ لَهُمْ ذُلًا وَهَوَانًا، وَقَدْ أَرَادوهَا أَنْصَارًا لَهمْ وَشُفَعاءَ ووُسَطاءَ، فَسَيَجِدُونَها أَضْدَادًا لهم، وأَخْصَامًا، وأَعْوانًا عَلَيْهِمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما، فِي قَوْلِهِ ـ تَعَالَى: "وَيَكُونُونَ عَلَيْهِم ضِدًّا"، قَالَ: أَعْوانًا.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِم، عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُ، فِي قَوْلِهِ: "وَيَكُونُونَ عَلَيْهِم ضِدًّا"، قَالَ: أَوْثانَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي النَّارِ تَكوْنُ عَلَيْهِمْ عَوْنًا، يَعْنِي أَوْثانُهُمْ تُخَاصِمُهُمْ وُتُكَذِّبُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي النَّارِ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، فِي قَوْلِهِ: "وَيَكُونُونَ عَلَيْهِم ضِدًّا"، قَالَ: حَسْرَةً. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ عِكْرِمَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، مِثْلَهُ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "وَيَكُونُونَ عَلَيْهِم ضِدًّا"، قَالَ: قُرَنَاءَ فِي النَّارِ، يَلْعَنُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَيَتَبَرَّأُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِ الضَّحَّاكِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "وَيَكُونُونَ عَلَيْهِم ضِدًّا"، قَالَ: أَعدَاءً.
وَأَخْرَجَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ فِي "الْوَقْفُ والابتداءُ" عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، فِي قَوْلِهِ: "وَيَكُونُونَ عَلَيْهِم ضِدًّا"، مَا الضِّدُّ؟ قَالَ: قَالَ فِيهِ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
وَأَنْ تَكُونُوا لَهُمْ ضِدًّا نَكُنْ لَكُمْ .......... ضِدًّا بِغَلْبَاءَ مِثْلَ اللَّيْلِ مَكْتُومِ
قولُهُ تَعَالَى: {كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ} كَلَّا: حَرْفُ رَدْعٍ وَزَجْرٍ، وقدْ فصَّلنا القولَ فٍيهِ غَيْر بعيدٍ عِنْدَ تفسيرِ الآيةِ: 79، مِمَّا أَغْنَى عَنِ الاسْتفاضةِ في ذَلِكَ هُنَا فَلْيَرْجِعْ إِلَيْهِ هناكَ مِنْ رَغِبَ في الاسْتِزَادَةِ. و "سَيَكْفُرُونَ" السِّينُ: حرفُ تَنْفيسٍ، و "يَكْفُرُونَ" فِعْلٌ مُضارعٌ مرْفوعٌ لتجرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وعلامةُ رفعِهِ ثباتُ النُّونِ في آخرِهِ، لِأَنَّهُ مِنَ الأفعالِ الخمسةِ، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في محلِّ الرَّفعِ بالفاعليَّةِ. و "بِعِبَادَتِهِمْ" الباءُ: حرفُ جرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "يَكْفُرُونَ"، و "عِبَادَتِهِمْ" مجرورٌ بحرفِ الجَرِّ، مُضافٌ، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجَرِّ بحرفِ الجَرِّ، والميمُ: علامةُ الجمعِ المُذكَّرِ، والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
قوْلُهُ: {وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا} الواوُ: حَرْفُ عَطْفٍ، وَ "يَكُونُونَ" فِعْلٌ مُضارعٌ ناقصٌ مرْفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وعَلامَةُ رَفْعِهِ ثَبَاتُ النُّونِ في آخِرِهِ لأنَّهُ مِنَ الأفعالِ الخَمْسَةِ، وَوَاوُ الجَمَاعَةِ ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ اسْمُها. و "عَلَيْهِم" على: حَرْفُ جرٍّ مُتعلِّقٌ بِحالٍ مِنْ "ضِدًّا"، والهاءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بحرفِ الجَرِّ، والميمُ للجمعِ المُذكَّرِ. و "ضِدًّا" خَبَرُ "يَكُونُ" منصوبٌ بهِ، وَقد وُحِّدَ وَهُوَ جَمْعٌ لَمْحًا لِأَصْلِهِ؛ لِأَنَّهُ فِي الأَصْلِ مَصْدَرٌ والمَصَادِرُ لَا تُثَنَّى وَلَا تُجْمَعُ، أَوْ لِأَنَّهُ مُفْرَدٌ فِي مَعْنَى الجَمْعِ، وَالجُمْلةُ: مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ "يَكْفُرُونَ" عَلَى كونِها جُملةً مُسْتَأْنَفَةً فلَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإعْرابِ.