وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا
(73)
قولُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ} أَيْ: إِذَا قُرِئَتْ عَلَى المُشْركينَ آياتُ القُرْآنِ الكَريمِ. فَالْمُرَادُ بِـ "آيَاتِنا بَيِّنَاتٍ" آيَاتُ الْقُرْآنِ الكريمِ، وَمَعْنَى كَوْنِهَا بَيِّنَاتٍ: أَنَّهَا وَاضِحَاتُ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ وَمُفْعَمَةٌ بِالْأَدِلَّةِ الْمُقْنِعَةِ. فَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقْرَأُ عَلَيهِمُ الْقُرْآنَ، فَيَسْمَعُونَ آيَاتِهِ البيِّناتِ بِالنَّعْيِ عَلَيْهِمْ، وَإِنْذَارِهِمْ بِسُوءِ الْمَصِيرِ والمَآلِ، وَآيَاتِ الْبِشَارَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ بِحُسْنِ الْعَاقِبَةِ، وعَظيمِ الأَجْرِ والثَّوَابِ. فَيُكَذِّبُونَ بِذَلِكَ وَيَقُولُونَ: لَوْ كَانَ لِلْمُؤْمِنِينَ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَعُجِّلَ لَهُمْ، فَنَحْنُ فِي نِعْمَةٍ وَأَهْلُ سِيَادَةٍ، وَأَتْبَاعُ مُحَمَّدٍ مِنْ عَامَّةِ النَّاسِ، وَكَيْفَ يَفُوقُونَنَا، بَلْ كَيْفَ يَسْتَوُونَ مَعَنَا، وَلَوْ كُنَّا عِنْدَ اللهِ كَمَا يَقُولُ مُحَمَّدٌ لَمَنَّ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِرَفَاهِيَةِ الْعَيْشِ فَإِنَّهُمْ فِي حَالَةِ ضَنْكٍ، وَلَا يُسَاوُونَنَا، فَلَوْ أَقْصَاهُمْ مُحَمَّدٌ عَنْ مَجْلِسِهِ لَاتَّبَعْنَاهُ، فَقَالَ اللهُ تَعَالَى في سُورةِ الْأَنْعَامِ مُخاطِبًا رَسُولَهُ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ * وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ الآيتان: (52 و 53)، وَقَالَ في الآيةَ: 11، مِنْ سُورَةِ الأَحْقافِ: {وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً مَا سَبَقُونا إِلَيْهِ}. فَلِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يَقِيسُونَ هَذَا الْقِيَاسَ الْفَاسِدَ، وَكانوا يُغَالِطُونَ بِهِ جُعِلَ قَوْلُهُمْ بِهِ مُعَلَّقًا بِزَمَانِ تِلَاوَةِ آيَاتِ الْقُرْآنِ الكَريمِ عَلَيْهِمْ.
قوْلُهُ: {قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا} يَجُوزُ أنْ تكَونَ هَذِهِ اللَّامُ فِي قَوْلِهِ: "لِلَّذِينَ" لِلتَّعْلِيلِ، أَيْ قالوا مِنْ أَجْلِ شَأْنِهِمْ، فَيَكُونُ هَذَا قَوْلُ الْمُشْرِكِينَ فِيمَا بَيْنَهُمْ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكَوْنَ مُتَعَلِّقَةً بِفِعْلِ "قالَ" لِتَعْدِيَتِهِ إِلَى مُتَعَلِّقَهِ، فَيَكُونُ قَوْلُهمْ خِطَابًا مِنْهُمْ لِلْمُؤْمِنِينَ.
قولُهُ: {أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا} اسْتِفْهَامٌ تَقْرِيرِيٌّ مِنْ كُبراءِ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ لِيَحْمِلُوا ضُعَفَاءَ الْمُسْلِمِينَ وفُقَراءَهم عَلَى الاعْتِرافِ بِأَنَّ المُشْرِكِينَ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا مِنَّا نَحْنُ المُؤْمِنِينَ.
وَالْمُقَامُ ـ بِضَمِّ المِيمِ: مَحِلُّ الْإِقَامَةِ، وَهُوَ الْمَنْزِلُ وَالْمَسْكَنُ، والْمَقَامُ - بِفَتْحِ الْمِيمِ: مَكَانُ الْقِيَامِ وَهُوَ مَوْضِعُ القِيَامِ وَالمَسْكَنُ وَالمَنْزِلُ، وَقِيلَ: هُوَ مَوْضِعُ الْقِيَامِ بِالْأُمُورِ الْجَلِيلَةِ.
وَالنَّدِيُّ: المَجْلِسُ وَالمُجْتَمَعُ، والمَصْدَرُ: النَّدْوُ، وَأَصْلُهُ "نَدِيْوٌ"، وَهُوَ "فَعِيلُ"، لِأَنَّ أَصْلَ لَامِهِ وَاوٌ، فَيُقالُ: نَدَوْتُهم أَنْدَوْهم، أَيْ: أَتَيْتُ نَادِيَهُمْ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ العَلَقِ: {فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ} الآيةَ: 17، أَيْ: فَلْيَدْعُ أَهْلَ نَادِيَهَ. و "النَّدِيُّ" وَ "النادي": مَجْلِسُ القَوْمِ ومُتَحَدِّثُهم. وَقِيلَ: هُوَ مُشْتَقٌ مِنَ النَّدَى الذي هُوَ الكَرَمُ؛ لِأَنَّ الكُرَماءَ يَجْتَمِعُونَ فِيهِ، تَقُولُ: انْتَدَيْتُ المَكَانَ، وانْتَديْتُ المُنْتَدَى. وَقَالَ حَاتِمٌ الطائيُّ:
وَدُعِيْتُ في أُوْلَى النَّدِيَّ وَلَمْ ..................... يُنْظَرْ إليَّ بأَعْيُنٍ خُزْرِ
وَالنَّدَى أَيْضًا: المُجالَسَةِ، تقولُ: نَادَيْتُهُ، إِذا جَالَسْتَهُ، وَتَنَادَوْا: تَجَالَسُوا فِي النَّادِي، وَالنَّدِيُّ: المَجْلِسُ مَا دَامُوا مُجْتَمِعِينَ فِيهِ، فَإِذَا تَفَرَّقُوا عَنْهُ فَلَيْسَ بِنَدِيٍّ.
تَتَحَدَّثُ هَذِهِ الآيَةُ عَنْ لَوْنٍ مِنْ أَلْوانِ غُرُورِ الْمُشْرِكِينَ بِمَتَاعِ الدُّنْيَا، واغْتِرارِهم بِطِيبِ الْعَيْشِ فِي الدُّنْيَا، وَكَانَ ذَلِكَ دَلِيلَهُمْ عَلَى أَنَّهُمْ عَلَى الْحَقِّ، وَأَنَّهُمْ أَكْرَمُ عَلَى اللهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ.
قولُهُ تَعَالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ} الواوُ: اسْتِئْنافِيَّةٌ، و "إِذَا" ظَرْفٌ لِمَا يُسْتَقْبَلُ مِنَ الزَّمانِ خافضٌ لِشَرْطِهِ مُتَعَلِّقٌ بِجَوَابِهِ. و "تُتْلَى" فِعْلٌ مُضَارِع ٌمَبْنِيٌّ للمَجْهُولِ (مُغَيَّرُ الصِّيغَةِ)، مَرْفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازَمِ، وَعَلامَةُ رَفعِهِ ضَمَّةٌ مُقدَّرةٌ على آخرِهِ لِتَعَذُّرِ ظهورِها على الأَلِفِ. و "عَلَيْهِمْ" عَلَى: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "تُتْلَى"، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بحرفِ الجَرِّ، والميمُ علامةُ الجمعِ المُذكَّرِ. و "آيَاتُنَا" نائِبُ فاعِلِهِ مرفوعٌ بِهِ، مُضافٌ، و "نَا" ضميرُ المُعظِّمِ نفسَهُ ـ سُبْحانَهُ، مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلى السُّكونِ في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إليْهِ. و "بَيِّنَاتٍ" مَنْصوبٌ عَلى الحَالِ مِنْ "آيَاتُنَا"، وعلامةُ نَصْبِهِ الكسْرُ عِوَضًا عِنِ الفَتْحِ لأَنَّهُ مُلْحَقٌ بِجَمْعِ المُؤَنَّثِ السَّالِمُ. والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هذِهِ فِي مَحَلِّ الجَرِّ بإِضافةِ "إذا" إِلَيْهَا عَلَى كَوْنِهَا فِعْلَ شَرْطٍ لَهَا.
قولُهُ: {قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا} قَالَ: فِعْلٌ ماضٍ مَبْنيٌّ عَلى الفَتْحِ، و "الَّذِينَ" اسمٌ مَوْصولٌ مبنيٌّ على الفتْحِ في محلِّ الرَّفْعِ بالفاعِليَّةِ، والجُمْلَةُ جَوَابُ "إِذا" الشَّرطيَّةِ غَيْرِ الجازمةِ لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرَابِ. وجُمْلَةُ "إِذَا" مِنْ فعْلِ شَرْطِها وَجَوَابِها جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرابِ. و "كَفَرُوا" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلى الضَّمِّ لِاتِّصالِهِ بِوَاوِ الجَمَاعَةِ، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلى السُّكُونِ في محلِّ الرَّفْعِ بالفاعليَّةِ، والأَلِفُ للتَّفْريقِ. والجُملةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ صِلَةُ المَوْصُولِ لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإعرابِ. و "لِلَّذِينَ" اللامُ: حَرْفُ جَرٍّ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ للتَّبْلِيغِ، ويَجُوزُ أَنْ تَكُونَ للتَّعْلِيلِ، مُتَعَلِّقٌ بِـ "قَالَ"، وَ "الذينَ" اسْمٌ مَوْصُولٌ مَبْنِيٌّ عَلَى الفَتْحِ في مَحَلِّ الجَرِّ بِحَرْفِ الجَرِّ. وَ "آمَنُوا" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلى الضَّمِّ لِاتِّصالِهِ بِوَاوِ الجَمَاعَةِ، وَواوُ الجَمَاعَةِ ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلى السُّكُونِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ بالفاعِلِيَّةِ، والأَلِفُ للتَّفْريقِ. والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ صِلَةُ المَوْصُولِ لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإعرابِ.
قولُهُ: {أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا} أَيُّ: اسْمُ اسْتِفْهامٍ مَبْنِيٌّ عَلى الضَمِّ في محلِّ الرَّفعِ بالابْتِداءِ، وهوَ مُضافٌ. و "الْفَرِيقَيْنِ" مَجْرُورٌ بالإضافةِ إِلَيْهِ، وعلامةُ جرِّهِ الياءُ: لأَنَّهُ مثنًى، والنُّونُ عِوَضٌ مِنَ التنوينِ في الاسْمِ المُفْرَدِ. و "خَيْرٌ" خَبَرُهُ مَرْفوعٌ، وَهذِهِ الجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ في مَحَلِّ النَّصْبِ مَقُولُ "قَالَ". و "مَقَامًا" تَمْيِيزٌ مُحَوَّلٌ عَنِ المُبْتَدَأِ مَنْصُوبٌ باسْمِ التَّفْضيلِ. وَ "وأَحْسَنُ" الواوُ: للعطْفِ، و "أَحْسَنُ" مَعطوفٌ عَلَى "خَيْرٌ". و "نَدِيًّا" تَمْيِيِزٌ مَنْصُوبٌ بِـ "خيرٌ".
قَرَأَ العَامَّةُ: {مَقَامًا} بِفَتْحِ المِيمِ، عَلَى أَنَّهُ اسْمُ مَكَانٍ مِنْ "قَامَ"، وَإِطْلاقُهُ عَلَى الْحَظِّ وَالرِّفْعَةِ منَ المَجَازِ، كَمَا هو فِي قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سورةِ الرَّحمَنِ: {وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ} الآيةَ: 46، فَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ الْقِيَامِ الْمُسْتَعْمَلِ مَجَازًا فِي الظُّهُورِ وَالْمَقْدِرَةِ. وَقرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ "مُقامًا" بضَمِّها، وَرُوِيَتْ أَيْضًا عَنْ أَبِي عَمْرٍو، وَهِيَ قِراءَةُ ابْنِ مُحَيْصِنٍ أَيْضًا، مِنْ أَقَامَ بِالْمَكَانِ، وَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْكَوْنِ فِي الدُّنْيَا، وَالْمَعْنَى: خَيْرٌ حَيَاةً. فَيُحْتَمَلُ فِي كِلْتَا القِراءَتَيْنِ أَنْ يَكونَ اسْمَ مَكَانٍ أَوْ اسْمَ مَصْدَرٍ، إِمَّا مِنْ "قام" الثُلاثيَّ، أَوْ مِنْ "أَقَامَ" الرُّباعِيَّ، أَيْ: خَيْرُ مَكَانِ قَيامٍ أَوْ إِقَامَةٍ.
قَرَأَ العامَّةُ: {تُتْلى} بالتاءِ مِنْ فَوْقُ، وَقَرَأَ أَبُو حَيَوَةَ، والأَعْرَجُ، وابْنُ مُحَيْصِنٍ: "يُتْلَى" بالياءِ مِنْ تَحْتُ.