فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ} تدُلُّ فَاءُ التَّعْقيبِ عَلَى أَنَّ مَرْيَمَ ـ عَلَيْهَا السَّلامُ، جَاءَتْ أَهْلَهَا عَقِبَ انْتِهَاءِ الْكَلَامِ الَّذِي كَلَّمَهَا بِهِ ابْنُهَا. ورُوِيَ عَنِ ابْنِ عبَّاسً ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، فِيما أَخْرَجَهُ سَعيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْهُ، أَنَّهُ قالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: "فَأَتَتْ بِهِ قَومَهَا تَحْمِلُهُ" قَالَ: بَعْدَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، بَعْدَ مَا تَعَافَتْ مِنْ نِفَاسِهَا.
وَجاءَ فِي إِنْجِيلِ لُوقَا: أَنَّهَا بَقِيَتْ فِي (بَيْتِ لَحْمٍ) إِلَى انْتِهَاءِ وَاحِدٍ وَأَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَهِيَ أَيَّامُ التَّطْهِيرِ مِنْ دَمِ النِّفَاسِ. وَعَلَيهِ يَكُونُ التَّعْقِيبُ الْمُسْتَفَادُ مِنَ الْفَاءِ هنا تَعْقِيبًا عُرْفِيًّا، كَمَا تَقولُ: تَزَوَّجَ فُلانٌ فَأَنْجَبَ وَلَدًا. واللهُ أَعْلَمُ. وَ "قَوْمَها" هُمْ أَهْلُ مَحَلَّتِهَا التي تسْكُنُ فيها.
قولُهُ: {قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا} اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ. وَقَالَوا هَذا تَوْبِيخًا لَهَا وتأْنيبًا عَلى ظَنُّوهُ عملًا شائنًا اقْتَرَفَتْهُ، فقدِ اسْتَهْجَنوا أَنْ تَلِدَ وما سَبَقَ لَهَا الزَّواجُ.
والفَرِيُّ: العَظيمُ مِنَ الأَمْرِ، ويُقالُ في الخَيْرِ وَالشَّرِّ. وَهو مِنْ ذَوَاتِ الْيَاءِ بِوَزْنِ "فَعِيل" مِنْ "فَرَى". وَلَهُ إِطْلَاقَاتٌ عَديدةٌ، وَأَظْهَرُ مَحَامِلِهِ هُنَا أَنَّهُ الشَّنِيعُ فِي السُّوءِ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ ـ رَضيَ اللهُ عنهُما، فَقدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ تَعالى: "لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا" قَالَ: عَظِيمًا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أَحْمَدٍ فِي زَوَائِدِ الزُّهْدِ مِنَ المُسْنَدِ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: "لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا" قَالَ: عَظِيمًا. وَمثلُهُ رُوِيَ عَنِ السُّدِّيِّ ـ رَضيَ اللهُ عنهُ.
وَهُوَ مِنْ مَادَّةِ "افْتَرَى" إِذَا كُذِّبَ، لِأَنَّ الْمَرْأَةَ تَنْسِبُ وَلَدَهَا الَّذِي حَمَلَتْ بِهِ مِنْ زِنًى إِلَى زَوْجِهَا كَذِبًا. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى منْ سورةِ الممتحنَة: {وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ} الآيةَ: 12.
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّ "الْفَرِيَّ" وَ "الْفِرْيَةَ" مُشْتَقَّانِ مِنَ "الْإِفْرَاءِ" ـ بِالْهَمْزِ، وَيَعْني قَطْعَ الْجلْدِ لِإِفْسَادِهِ، أَوْ لِتَحْرِيقِهِ، تَفْرِقَةً بَيْنَ أَفْرَى وَفَرَى، وَأَنَّ فَرَى الْمُجَرَّدَ لِلْإِصْلَاحِ.
وقيلَ: الفَرِيُّ: العَجيبُ. ومِنْهُ ما رواهُ البخاريُّ وغَيْرُهُ في وَصْفِ سيِّدِنا عُمَرَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْه: ((فَلم أَرَ عَبْقَرِيًّا يَفْرِيْ فَرْيَهُ)). وردَ هذا فيما أخرجَ البُخَارِيُّ في صحيحِهِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، أَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: ((أُرِيتُ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَنْزِعُ بِدَلْوِ بَكْرَةٍ عَلَى قَلِيبٍ، فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ فَنَزَعَ ذَنُوبًا أَوْ ذَنُوبَيْنِ نَزْعًا ضَعِيفًا، وَاللهُ يَغْفِرُ لَهُ، ثُمَّ جَاءَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَاسْتَحَالَتْ غَرْبًا، فَلَمْ أَرَ عَبْقَرِيًّا يَفْرِي فَرِيَّهُ، حَتَّى رَوِيَ النَّاسُ وَضَرَبُوا بِعَطَنٍ)). أَخْرَجَهُ الأئمَّةُ: أَحْمَدُ: (2/27، رقم: 4814)، والبُخَارِي: (4/250، رقم: 3633)، ومسلم: (7/113، رقم: 6272)، والتِّرْمِذِيُّ: (2289)، والنَّسَائي في "الكُبْرَى: (7589). وَقيلَ: المُفْتَعَلُ. والفَرْيُ: قَطْعُ الجِلْدِ للخَرْزِ والإِصلاح. والإِفراءُ: إِفسادُهُ. وَفي المَثَلِ: جاءَ يَفْري الفَرِيَّ، أَيْ: يَعْمَلُ العَمَلَ.
قولُهُ تَعَالَى: {فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ} الفاء: استئنافيَّةٌ، و "أَتَتْ" فِعْلٌ مَاضٍ مبنيٌّ على الفتْحِ المُقدَّرِ عَلى الأَلِفِ المحذوفةِ لالْتِقاءِ السَّاكِنَيْنِ، وَفاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتَتِرٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هيَ) يَعودُ عَلى "مَرْيَمَ" ـ عَلَيْها السَّلامُ، والتاءُ الساكنةُ لتأْنيثِ الفاعلِ. و "بِهِ" مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذوفِ حالٍ مِنْ ضَميرِ الفاعِلِ المُسْتَتِرِ فِي "أَتَتْ"؛ أَيْ: أَتَتْ مُصاحِبَةً لَهُ، نَحْوَ: جاءَ بِثِيابِهِ، أَيْ: مُلْتَبِسًا بِهَا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكونَ حالًا مِنَ الهاءِ فِي "بِهِ". وهوَ ظاهرُ كَلامِ أَبي البقاءِ العُكْبُريِّ، أَيْ: أَنَّها حَالٌ مِنْ ضَمِيريْ "مَرْيَم" و "عِيسى" مَعًا، وَفِيهِ نَظَرٌ. ويَجُوزُ أَنْ تَكونَ مُتَعَلِّقَةً بالإِتْيَانِ، وَأَمَّا "تَحَمِلُهُ" فَيَجوزُ أَنْ يَكونَ حَالًا ثانيَةً مِنْ فاعِلِ "أَتَتْ". وَ "قَوْمَهَا" مَفْعُولٌ بِهِ منصوبٌ، وهوَ مُضافٌ، و "ها" ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ عَلى السُّكونِ في محلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إليْهِ، والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئنافًا بَيَانيًّا لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ. و "تَحْمِلُهُ" فِعْلٌ مُضارعٌ مرفوعٌ لتجرُّدِهِ منَ الناصِبِ والجازمِ، وفاعِلُهُ مُسْتَتِرٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هي) يعودُ على (مريمَ) ـ عليْها السَّلامُ، والهاءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ النَّصْبِ على المَفْعُوليَّةِ، والجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ على أَنَّها حالٌ ثَانِيَةٌ مِنْ فاعِلِ "أَتَتْ".
قوْلُهُ: {قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا} قَالُوا: فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ الضَّمِّ لاتِّصالِهِ بواوِ الجماعةِ، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السُّكونِ في محلِّ الرَّفعِ بالفاعِليَّةِ، والألِفُ فارقةٌ. والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ. و "يَا مَرْيَمُ" يا: أَداةٌ لِلنِداءِ، و "مريمُ" مُنَادَى مُفْرَدُ العَلَمِ، مبنيٌّ على الضمِّ في محلِّ النَّصْبِ بالنداءِ. والجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ بِـ "قَال". و "لَقَدْ" اللامُ مُوَطِّئَةٌ للْقَسَمِ، و "قَدْ" للتَحْقيقِ. و "جِئْتِ" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على السُّكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رفعٍ متحرِّكٍ هو تاءُ الفاعلِ، وتاءُ الفاعِلِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الرَّفعِ بالفاعليَّةِ. و "شَيْئًا" مَفْعولٌ بِهِ منصوبٌ، لأَنَّ "جِئْتِ" هُنَا بمعنى: "فَعَلْتِ". وَيَجوزُ أَنْ يكون "شيْئًا" منصوبًا على المصْدَرِيَّةِ، أَيْ: نَوْعًا مِنَ المَجِيءِ فَرِيًّا. و "فَرِيًّا" صِفَةٌ لِـ "شَيْئًا" منصوبةٌ مثلُهُ. وَالجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هذِهِ جَوَابُ القَسَمِ المَحْذوفِ، وَجُمْلَةُ القَسَمِ المحذوفِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ بالقولِ مَقولُ
"قَالُوا" عَلَى كَوْنِها جَوَابَ النِّداءِ.