قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا
(21)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ} كذلِكِ قَالَ رَبُّكِ: أَيِ: الذي يَرْعاكِ ويَتَوَلَّى تَرْبِيَتَكَ، إِنَّ هذا الأَمْرَ هَيِّنٌ سهلٌ عليَّ إنجازُهُ. لِأَنَّهُ ـ سُبْحانَهُ، إِذَا أَرادَ أَنْ يَخْلُقَ شَيْئًا، أَوْ فِعْلَ شَيْءٍ، فإنَّما يقولُ لَهُ كُنْ فيكونُ، فالأَمرُ الذي يريدُهُ ـ جَلَّتْ قُدْرَتُهُ، يُنْجَزُ فوْرَ توجُّهِ الإرادةِ إِلَيْهْ بالإنْجازِ.
قولُهُ: {وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا} فإنَّهُ ـ جلَّ وعَزَّـ يريدُ أَنْ يحدِثَ أَمرًا معجزًا بولادةِ سيدِنا عيسى ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، مِنْ أُمٍّ دُونَ أَبٍ، أَيْ مِنْ مؤنَّثٍ دُونَ مُذَكَّرٍ، كمَا خلقَ أُمَّ البَشَرِيَّةِ حَوَّاءَ ـ عَلَيْها السَّلامُ، مِنْ ضِلْعِ سيِّدِنا آدمَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، فكانَ خلقُها مِنْ مذكَّرَ دونَ مُؤنَّثٍ، وخَلَقَ آدمَ منْ قَبْلُ ولا مُذَكَّرَ ولا مُؤنَّثَ. لِنَعْلَمَ أَنَّ التوالُدَ مِنْ مُذكَّرٍ ومُؤَنَّثٍ ـ كما جرَتِ عادَتُهُ ـ سُبحانَهُ وتعالى، هوَ بِأَمْرٍ مِنْهُ أَيضًا، وهو الخالقُ في كلِّ الأَحْوَالِ، قالَ تَعَالَى مِنْ سُورةِ آلِ عِمْرانَ: {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ} الآيةَ: 6، وقالَ مِنْ سورةِ الأعراف: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} الآية: 54، فقدْ يُوجَدُ أَبٌ وأُمٌّ، ذَكَرٌ وأُنْثى ولا يكونُ منهما خَلْقٌ، حَتَّى لَا نَغْفلَ عَنِ الخالقِ الوحيدِ في هَذا الوُجودِ ـ جَلَّ وَعَلَا.
قولُهُ: {وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا} أَمرًا مقضِيًّا: مَسْأَلَةً مُنْتَهِيَةً لَا يُقْبَلُ فيها مراجعةٌ وَلا نِقاشٌ، فإِيّاكِ أَنْ تُنَاقِشي في كَيْفِيَّةِ حدوثِها؛ وأتى بالفعلِ الناقصِ "كانَ" لإِفادَةِ أَنَّ الخَلْقَ والتَكْوينَ قدْ تَمَّ، فَلا نِقَاشَ فِي كَيْفِيَّةِ إِتْمامِهِ، وبِأَيَّةِ طريقةٍ سيكونُ ذلكْ.
قوْلُهُ تَعَالَى: {قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ} قَالَ: فِعْلٌ مَاضٍ مبنيٌّ على الفتحِ، وفاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلى المَلَكِ جبريلَ عليهِ السَّلامُ. والجُمْلةُ: مُسْتَأْنَفَةٌ استئنافًا بَيَانيًّا لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ. "كَذَلِكِ" الكافُ: حرفُ جَرٍّ وتشبيهِ، متعلِّقٌ بِخَبَرٍ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذوفٍ، والتقديرُ: الأَمْرُ كَذَلِكَ، و "ذا" اسمٌ إشارةٍ مبنيٌّ على السُّكونِ في محلِّ الجَرِّ بحرفِ الجرِّ، واللامُ للبُعدِ، والكافُ للخطابِ. وَهَذِهِ الجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ: في مَحَلِّ النَّصْبِ بـ "قَالَ". و "رَبُّكِ" فاعِلُهُ مرفوعٌ بِهِ، مُضافٌ، وكافُ الخطابِ ضَميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إِليْهِ. وَالجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ مُعَلِّلَةٌ للْجُمْلَةِ التي قَبْلَها، فكأَنَّهُ قِيلَ: الأَمْرُ كَذَلِكِ لِأَنَّهُ عَلَيْنا هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ ... إِلَخ.
قوْلُهُ: {هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ} "هُوَ" ضَمِيرٌ مُنْفصِلٌ مَبْنيٌّ على الفتحِ في محلِّ الرَّفع بالابْتِداءِ. و "عَلَيَّ" حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "هَيِّنٌ"، وياءُ المُتَكَلِّمِ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجَرِّ بِحَرْفِ الجَرِّ. و "هَيِّنٌ" خَبَرُهُ مرفوعٌ، وَهذهِ الجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ بـ "قَالَ".
قولُهُ: {وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا} الواوُ: للعَطْفِ عَلَى عِلَّةٍ مَحْذوفَةٍ لِمَعْلولٍ مَحْذوفٍ والتَقْديرُ: فَعَلْنا ذَلِكَ لِنُبَيِّنَ بِهِ قُدْرَتَنَا، وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ. واللَّامُ: حَرْفُ جَرٍّ وَتَعْلِيلٍ. و "نَجْعَلَهُ" فِعْلٌ مُضارِعٌ منْصوبٌ بـ "أَنْ" مُضْمَرَةٍ بَعْدَ لَامِ "كي"، وَفاعِلُهُ ضَمْيرٌ مُسْتترٌ فيهِ وُجوبًا تقديرُهُ "نحنُ" يَعودُ عَلى اللهِ ـ سُبْحانَهُ وتعالى، والهاءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ بِه في محلِّ النَّصْبِ مفعولٌ بِه أوَّلُ. و "آيَةً" مَفْعُولٌ بِهِ ثانٍ لـ "جَعَلَ" منصوبٌ بِهِ. و "لِلنَّاسِ" اللامُ حَرْفُ جَرٍّ متعلِّقٌ بِصِفَةٍ لِـ "آيَةً"، و "النَّاسٍ" مجرورٌ بحرفِ الجرِّ. والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ مَعَ أَنْ المُضْمَرَةِ: فِي تَأْويلِ مَصْدَرٍ مَجْرورٍ بِلامِ التَعْليلِ، والتَقديرُ: وَلِجَعْلِنا إِيَّاهُ آيَةً لِلنَّاسِ. والجارُّ مَعْطوفٌ عَلى الجَارِّ في قَوْلنا لِنُبَيِّنَ بِهِ قُدْرَتَنَا. وَ "رَحْمَةً" مَعْطوفٌ عَلى "آيَةً" منصوبٌ مثلُهُ. و "مِنَّا" حرفُ جَرٍّ متعلِّقٌ بصفَةٍ لِـ "رَحْمَةً" تقديرُهُ: رحمةً كائنةً مِنَّا، و "نا" ضميرُ التعظيمِ متَّصلٌ مَبْنِيٌّ عَلى السُّكونِ في محلِّ الجَرِّ بحرْفِ الجرِّ.
قولُهُ: {وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا} الوَاوُ: اسْتِئْنافيَّةٌ، وَ "كَانَ" فعلٌ ماضٍ ناقصٌ مبنيٌّ على الفتْحِ، واسْمُهُ ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلى خَلْقِ سيِّدنا عيسى ـ عَلَيْهِ السَّلامُ. و "أَمْرًا" خَبَرُ "كانَ" منصوبٌ بها. و "مَقْضِيًّا" صِفَةٌ لـ "أَمْرًا" منصوبةٌ مثلُهُ، والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا محلَّ لها مِنَ الإعْرابِ.