بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ للهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {الْحَمْدُ للهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ} يُلَقِّنُ اللهُ ـ جَلَّ وعَزَّ، عِبَادَهُ كَيْفَ يَثْنُونَ عَلَيْهِ وَيَحْمَدونَهُ عَلَى أَجَلِّ نِعَمِهِ وأَجْزَلِ نَعْمَائِهِ، أَلَا وَهِيَ نِعْمَةُ الإِسْلامِ، وَمَا أَنْزَلَ عَلَى سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ ـ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ.
وَ "الْحَمْدُ": هُوَ الثَّنَاءُ عَلَى الْجَمِيلِ إِنْ قَوْلًا، وإِنْ عَمَلًا، وَإِنْ صُورَةً، أَيِ: الاتِّصافِ بِالْجَمِيلُ فِطْرَةً كَالشَّجَاعَةِ، أَوْ اخْتِيَارًا كَالْكَرَمِ، والنَّخْوةِ وَإِغَاثَةِ الْمَلْهُوفِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ. وَقَدْ عَدُّوا الثَّنَاءَ جِنْسًا لِلْحَمْدِ، فَهُوَ أَعَمُّ مِنْهُ، وَلَا يَكُونُ ضِدَّهُ، فَالثَّنَاءُ الذِّكْرُ بِخَيْرٍ مُطْلَقًا.
وَقَدْ شَذَّ مَنْ قَالَ: يُسْتَعْمَلُ الثَّنَاءُ فِي الذِّكْرِ مُطْلَقًا وَلَوْ بِشَرٍّ، فقد غَرَّهُ مَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ مِنَ الْحَدِيثِ الشَّريفِ، وَهُوَ قَوْلُهُ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ خَيْرًا وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ، وَمَنْ أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ شَرًّا وَجَبَتْ لَهُ النَّارُ)). فَقَدْ أَخْرَجَ الطَّيَالِسِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَالْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، وَالنَّسَائِيُّ، والحَكيمُ التِّرْمِذِيُّ فِي نَوَادِرِ الْأُصُولِ عَنْ أَنَسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، قَالَ: مَرُّوا بِجَنَازَةٍ فَأُثْنِيَ عَلَيْهِ خَيْرٌ، فَقَالَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَجَبَتْ، وَجَبَتْ، وَجَبَتْ. وَمُرَّ بِجَنَازَةٍ، فَأُثْنِيَ عَلَيْهِ بِشَرٍّ، فَقَالَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَجَبَتْ وَجَبَتْ. فَسَأَلَهُ عُمَر ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فَقَالَ: ((مَنْ أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ خَيْرًا وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ، وَمَنْ أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ شَرًّا وَجَبَتْ لَهُ النَّارُ، أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللهِ فِي الأَرْضِ، أَنْتُم شُهَدَاءُ اللهِ فِي الأَرْضِ، أَنْتُم شُهَدَاءُ اللهِ فِي الأَرْضِ)). وزَادَ الْحَكِيم التِّرْمِذِيُّ: ثُمَّ تَلَا رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قولَهُ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ البَقَرةِ: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} الآيةَ: 143. وَإِنَّ مَا وَردَ فِي الحَديثِ الشَّريفِ هذا مَجَازٌ دَعَتْ إِلَيْهِ الْمُشَاكَلَةُ اللَّفْظِيَّةُ وَالتَّعْرِيضُ، بِأَنَّ مَنْ كَانَ مُتَكَلِّمًا فِي مُسْلِمٍ فَلْيَتَكَلَّمْ بِثَنَاءٍ أَوْ لِيَدَعْ، فَسَمَّى ذِكْرَهُمْ بِالشَّرِّ ثَنَاءً تَنْبِيهًا عَلَى ذَلِكَ. وَأَمَّا الَّذِي يُسْتَعْمَلُ في الشَّرِّ فَهُوَ ـ كَمَا قِيلَ: "النِّثَاءُ"، بِتَقْدِيمِ النُّونِ، وَهُوَ فِي الشَّرِّ أَكْثَرُ مِنْهُ في الخَيْرِ.
فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَ الْقُرْآنُ أَجْزَلَ نِعَمِ اللهِ عَلَى عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ، إِذْ هُوَ سَبَبُ نَجَاتِهِمْ فِي حَيَاتِهِمُ الخَالِدَةِ الْأَبَدِيَّةِ، وَسَبَبُ فَوْزِهِمْ بِحَيَاةٍ كريمةٍ فِي حَيَاتِهِمُ الْعَاجِلَةِ وَانْتِظَامِ أَحْوَالِهم فيها، وَإِنْزَالُ هَذَا القُرْآنِ عَلَى رسولِهِ محمَّدٍ ـ صلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ، هُوَ أَيْضًا مِنِ أَعظَمِ نِعَمِهِ عَلَيْهِ، بِأَنْ جَعَلَهُ وَاسِطَةَ ذَلِكَ كُلِّهِ وَمُبَلِّغَهُ وَمُبَيِّنَهُ، فَلِأَجْلِ ذَلِكَ اسْتَحَقَّ اللهُ تَعَالَى أَكْمَلَ الْحَمْدِ إِخْبَارًا مِنْهُ وَإِنْشَاءً. فَالْجُمْلَةُ خَبَرِيَّةٌ إِذًا، أَخْبَرَ اللهُ نَبيَّهُ ـ عَلَيْهِ صَلَوَاتُ اللهِ وسلامُهُ، وَأَخْبَرَ الْمُسْلِمِينَ بِأَنَّهُ وَحْدَهُ مُسْتَحِقٌّ الْحَمْدَ، فَأَجْرَى الْوَصْفَ بِالْمَوْصُولِ عَلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ تَنْوِيهًا بِمَضْمُونِ الصِّلَةِ لِمَا يُفِيدُهُ الْمَوْصُولُ مِنْ تَعْلِيلٍ للْخَبَرِ.
وَ "الْكِتَابَ" هُوَ الْقُرْآنُ الكَريمُ. فَكُلُّ مِقْدَارٍ مُنَزَّلٍ مِنَ هَذا الْقُرْآنِ فَهُوَ مَشْمُولٌ بِـ "الْكِتابَ". والْمُرَادُ بِالْكِتَابِ هُنَا مَا نَزَلَ عَلَيْهِ ـ صَلَّ اللهُ عليْهِ وسلَّمَ، وهو فِي غَارِ حِرَاءٍ إِلَى يَوْمِ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ الكَريمَةِ، وَيُلْحَقُ بِهِ مَا يَنْزِلُ بَعْدَهَا، وَيُزَادُ بِهِ مِقْدَارُهُ.
وَقدْ وَصَفَ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِالْعُبُودِيَّةِ لَهُ رَفْعًا لِقدْرِهِ ومَنْزِلَتِهِ عِنْدَهُ، وتَقْرِيبًا لَهُ وَتَنْوِيهًا بِهِ، وبِمَا فِي إِنْزَالِ الْكِتَابِ عَلَيْهِ، وَنَظِيرُ هَذِهِ الآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْفُرْقَانِ: {تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلَى عَبْدِهِ}.
قوْلُهُ: {وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا} الْعِوَجُ ـ بِكَسْرِ الْعَيْنِ وَفَتْحِهَا، وَبِفَتْحِ الْوَاوِ: ضِدُّ الِاسْتِقَامَةِ، وهُوَ انْحِرَافُ جِسْمٍ مَا عَنِ الشَّكْلِ الْمُسْتَقِيمِ. وَيُطْلَقُ مَجَازًا عَلَى الِانْحِرَافِ عَنِ الصَّوَابِ وَالْمَعَانِي الْمُسْتَحْسَنَةِ المَقْبُولَةِ. والعِوَجُ فِي المَعَانِي كَالْعِوَجِ فِي الأَعْيانِ، فَيُقَالُ: فُلانٌ فِي رَأْيِهِ عِوَجٌ، كَمَا يُقَالُ: فِي عَصَاهُ عِوَجٌ، والمُرادُ نَفْيُ التناقُضِ والاخْتِلافِ عَنْ مَعَانِيهِ، وابْتِعادُ شَيْءٍ مِنْهُ عنْ الحِكْمَةِ. قالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما، فِيمَا رَوَاهُ عَنْهُ الوَالِبِيُّ: "وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا" مُلْتَبِسًا. (جَامِعُ البَيَانِ في تأْويلِ القرآنِ) للطَّبَرِيِّ: (169/127)، والكشْفُ والبَيَانُ عَنْ تفْسيرِ القرآنِ للثَعلبيِّ: (3/ 385/ أ)، وقالَ أَبُو إِسْحَاقٍ الزَّجَّاجُ: المَعْنَى: لَمْ يَجْعَلْ فِيهِ اخْتِلافًا. (مَعَانِي القُرْآنِ) لَهُ: (3/267). كَمَا قَالَ تَعَالَى مِنْ سُورةِ النِّساءِ: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} الآيَةَ: 82. يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالى بَعْدَهَا: {قَيِّمًا}.
وَمَكْسُورَ الْعَيْنِ كَمَفْتُوحِها، فهوَ سَوَاءٌ فِي الْإِطْلَاقَيْنِ الْحَقِيقِيِّ وَالْمَجَازِيِّ. وَقِيلَ: بَلْ مَكْسُورُ الْعَيْنِ يَخْتَصُّ بِالْإِطْلَاقِ الْمَجَازِيِّ، يَنْقُضُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى مِنْ سُورةِ طَهَ: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا * فَيَذَرُها قَاعًا صَفْصَفًا * لَا تَرَى فِيها عِوَجًا وَلا أَمْتًا} الآيَات: (105 ـ 107)، حَيْثُ اتَّفَقَ الْقُرَّاءُ عَلَى قِرَاءَةِ "عِوَجًا" بِكَسْرِ الْعَيْنِ. وَقالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: إِنَّ الْمَكْسُورَ أَعَمُّ، ويَجِيءُ فِي الْحَقِيقِيِّ وَالْمَجَازِيِّ، وَأَنَّ الْمَفْتُوحَ خَاصٌّ بِالْمَجَازِيِّ. وَالْمَقصودُ بِالْعِوَجِ هُنَا: عِوَجُ مَدْلُولَاتِ كَلَامِهِ، بِمُخَالَفَتِهَا لِلصَّوَابِ وَتَنَاقُضِهَا، وَبُعْدِهَا عَنِ الْحِكْمَةِ وَإِصَابَةِ الْمُرَادِ. فَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ عَلِيٍّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: "الْحَمْدُ للهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا قَيِّمًا" قَالَ: أَنْزَلَ الْكِتَابَ عَدْلًا قَيِّمًا، وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا مُلْتَبِسًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رضِيَ اللهُ عَنْهُما، فِي قَوْلِهِ: "أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا" قَالَ: هَذَا مِنَ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ قَيِّمًا، وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {الْحَمْدُ للهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ} الحَمْدُ: مَرْفوعٌ بالابْتِدَاءِ، و "للهِ" اللَّامُ حرفُ جَرٍّ متعلِّقٌ بِخَبَرِ المُبْتَدَأِ، ولفظُ الجلالةِ "الله" مجرورٌ بحرْفِ الجَرِّ. والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ. و "الَّذِي" اسمٌ موْصولٌ مَبْنِيٌّ عَلى السُّكونِ في مَحَلِّ الجَرِّ صِفَةً للجَلالَةِ. و "أَنْزَلَ" فِعْلٌ مَاضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى الفَتْحِ، وَفَاعِلُهُ ضَمَيرٌ مُسْتتِرٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلَى الاسْمِ المَوْصُولِ، وَ "عَلى" حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "أَنْزَلَ" و "عَبْدِهِ" مَجْرُورٌ بحرفِ الجَرِّ مُضافٌ، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إليْهِ. وَ "الْكِتابَ" مَفْعُولٌ بِهِ مَنْصوبٌ. والجُمْلَةُ صِلَةُ المَوْصُولِ لا محلَّ لها مِنَ الإِعْرَابِ.
قَوْلُهُ: {وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا} الواوُ: للعَطْفِ، و "لَمْ" حَرْفٌ للجَزْمِ والقلْبِ والنَّفْيِ. و "يَجْعَلْ" فعلٌ مُضارِعٌ مَجْزُومٌ بِهِ، وفاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلَى اللهِ ـ تَعَالَى. و "لَهُ" اللامُ حرفُ جَرٍّ مُتَعِلِّقٌ بمَفْعولٍ بِهِ أَوَّل، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجَرِّ بحرْفِ الجَرِّ. و "عِوَجًا" مَفْعُولُهُ الثاني منصوبٌ، والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ الصِّلَةِ أَوْ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْكِتابَ وَبَيْنَ الْحَالِ مِنْهُ وَهُوَ {قَيِّمًا}. وَالْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةٌ. وفي الحالَيْنِ لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرَابِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكونَ حَالًا فَي محلِّ النَّصْبِ، وَالْوَاوُ حَالِيَّةً.