فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (6)
قولُهُ ـ تَعَالَى جَدُّهُ: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ} الفاءُ: للتَفْريعِ، والآيَةُ تَفْرِيعٌ عَلَى جُمْلَةِ قَوْلِهِ في الْآيةِ الرابعةِ السَّابِقَةِ مِنْ هذِهِ السُّورَةِ المُباركَةِ: {وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَدًا} بِاعْتِبَارِهِمْ كَافِرينَ باللهِ، مُكَذِّبِينَ لِرَسُولِهِ وكتابِهِ، بِقَرِينَة مُقَابلَةِ الْمُؤْمِنِينَ بِهِمْ فِي قَوْلِهِ مِنَ الآيَةِ الثانيةِ: {وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ}، ثُمَّ في قَوْلِهِ بَعَدَهَا: {وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَدًا} الْآيةَ الرَّابعةَ أَيضًا. و "لَعَلَّكَ: قيلَ للإِشْفاقِ فهيَ هُنَا عَلى بَابِها. وَقِيلَ: هِيَ للنَّهْيِ، أَيْ: لَا تَبْخَعْ. وَقِيلَ: وقالَ الكُوفِيِّونَ هِيَ للاسْتِفْهامِ. وحَقِيقَتُهَا إِنْشَاءُ الرَّجَاءِ وَالتَّوَقُّعِ، وَتُسْتَعْمَلُ فِي الْإِنْكَارِ وَالتَّحْذِيرِ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَجَازِ الْمُرْسل لِأَنَّهُ لَا زمَانَ لِتَوَقُّعِ الْأَمْرِ الْمَكْرُوهِ.
وَهِيَ هُنَا مُسْتَعْمَلَةٌ فِي تَحْذِيرِ الرَّسُولِ ـ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، مِنَ الِاغْتِمَامِ وَالْحُزْنِ عَلَى عَدَمِ إِيمَانِ مَنْ لَمْ يُؤْمِنُوا مِنْ قَوْمِهِ. وحَضِّهِ على قِلَّةِ الِاكْتِرَاثِ بِهِمْ، وَفيهِ تَسْلِيَةً لقَلْبِهِ الشَّريفِ ـ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ.
وَ "باخِعٌ نَفْسَكَ" مُهْلِكها، فَالبَخْعُ: الإِهلاكُ. قالَ الرَّاغِبُ الأَصْفهانيُّ: البَخْعُ: قَتْلُ النفسِ غَمًّا. ثُمَّ قَالَ: وَبَخَعَ فُلانٌ بِالطَّاعَةِ، وَبِمَا عَلَيْهِ مِنَ الحَقِّ: إِذَا أَقَرَّ بِهِ وَأَذْعَنَ مَعَ كَرَاهَةٍ شَديدَةٍ، تَجْرِي مَجْرَى بَخْعِ نَفْسِهِ فِي شِدَّتِهِ. ويُقَالُ: بَخَعَ الرَّجُلُ نَفْسَهُ، يَبْخَعُها بَخْعًا، وبُخُوعًا، إِذا أَهْلَكَ نفسَهُ وَجْدًا. ومِنْ ذَلِكَ قوْلَ الشَّاعِرِ ذِي الرُّمَّةِ:
أَلا أَيُّهَذا الباخِعُ الوَجْدُ نَفْسَهُ ............ لِشَيْءٍ نَحَتْهُ عَنْ يَدَيْهِ المَقَادِرُ
يُريدُ الشاعِرُ: "نَحَّتْهُ" بالتَشْديدِ، فَخَفَّفَ. رَوَاهُ أَبُو عُبَيْدَةَ بِالرَّفْعِ عَلَى الفَاعِلِيَّةِ بـ "البَّاخِعِ"، وكانَ الأَصْمَعِيُّ يُنْشِدُهُ: "الوَجْدَ" بِالنَّصْبِ عَلَى المَفْعُولِ لَهُ. وقَالَ الكِسائيُّ: البَخْعُ: أَنْ تُضْعِفَ الأَرْضَ بِالزِّرَاعَةِ. وَقِيلَ: هُوَ جَهْدُ الأَرْضِ، وَفِي حَديثِ السِّدةِ عائِشَةَ الصِّدِّيقَةِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، عَنْ أَميرِ المؤمنينَ عُمَرَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: بَخَعَ جَهْدُ الأَرْضِ. (تَعْنِي جَهَدَهَا حَتَّى أَخَذَ مَا فِيهَا مِنْ أَمْوالِ مُلُوكِها، وَهَذَا اسْتِعَارَةٌ، وَلَمْ يُفَسِّرْهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: هُنَا بِغَيْرِ القَتْلِ والإِهَلاكِ. وقَالَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الشُّعَرَاءِ: والبَخْعُ أَنْ يَبْلُغَ بالذَّبْحِ البِخَاعَ بالباءِ، وَهُوَ عِرْقٌ مُسْتَبْطِنُ الفِقَارِ مِنَ القَفا، وَذَلِكَ أَقْصَى حَدَّ الذَّابِحِ.
وأَخْرَجَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ فِي كتابِهِ (الْوَقْفُ والابتِداءُ) عَنِ ابْن عَبَّاس ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما، أَنَّ نَافِعَ بْنَ الْأَزْرَقِ قَالَ لَهُ: أَخْبِرْنِي عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: "فَلَعَلَّكَ بِاخِعٌ نَفْسَكَ"، مَا الباخِعُ؟. فَقَالَ: يَقُولُ: قَاتِلَ نَفْسِكَ، وفِيهِ قَالَ لَبِيدُ بْنُ رَبِيعَةَ:
لَعَلَّكَ يَوْمًا إِنْ فَقَدْتَ مَزَارَها ............. عَلَى بُعْدِهِ يَوْمًا لِنَفْسِكَ بَاخِعُ
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "فَلَعَلَّكَ بِاخِعٌ نَفْسَكَ" قَالَ: قَاتِلُ نَفْسِكَ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: "فَلَعَلَّكَ بِاخِعٌ نَفْسَكَ" قَالَ: قَاتِلٌ نَفْسَكَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنِ مُجَاهِدِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، مِثْلَهُ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِ السِّدِّ يِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: "فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ" قَالَ: قَاتِلٌ نَفْسَكَ.
وَقَوْلُهُ: "عَلَى آثارِهِمْ" عَلَى: هوَ هُنَا حرفُ جَرٍّ لِلِاسْتِعْلَاءِ الْمَجَازِيِّ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: لَعَلَّكَ مُهْلِكٌ نَفْسَكَ لِأَجْلِ إِعْرَاضِهِمْ عَنْكَ. وهو مُتَعَلِّقٌ بـ "باخعٌ"، أَيْ: مِنْ بَعْدِ هَلاكِهِمْ، خَوْفًا عَلَيْهِمْ مِنْ غَضَبِ اللهِ تَعَالَى وَعَذَابِهِ إِذا مَا نزَلَ بهِمْ بِسَبَبِ كُفْرِهِم وعدِمِ إِيمانِهِم. وَ "آثارِهِمْ" أَعْمَالِهمْ، وَالْآثَارُ: جَمْعُ أَثَرٍ، وَهُوَ مَا يُؤْثِرُهُ، أَيْ يُبْقِيهِ الْمَاشِي أَوِ الرَّاكِبُ فِي الرَّمْلِ أَوِ الأَرْض مِنْ مَوَاطِئِ أَقْدَامِهِ وَأَخْفَافِ رَاحِلَتِهِ. وَالْأَثَرُ أَيْضًا مَا يُبْقِيهِ أَهْلُ الدَّارِ إِذَا تَرَحَّلُوا عَنْهَا مِنْ آلَاتِهِمُ الَّتِي كَانُوا يُعَالِجُونَ بِهَا شُؤُونَهُمْ كَالْأَوْتَادِ والأَثافي وَالرَّمَادِ. وَذَلِكَ أَنَّ نَفْسَ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، دَاخَلَهَا الحَزَنُ مِنْ فَرْطِ شَفَقَتِهِ عَلَى قَوْمِهِ لمَّا امْتَنَعوا عَنْ الإِيمانِ، فَهَوَّنَ اللهُ ـ سُبْحَانَهُ وتَعَالَى، عَلَيْهِ تلكَ الحَالَ، بِهَذِهِ الآيَةِ الكَريمَةِ، بِمَا يُشْبِهُ في ظَّاهِرِهِ العِتَابَ، وكَأَنَّهُ يَقولُ لَهُ: لِمَ كُلُّ هَذَا الحُزْنِ عَلَيْهِمْ؟ لَا عَلَيْكَ مِنْ ذَلِكَ، فَإنَّهُ لَيْسَ فِي امْتِنَاعِهِمْ هَذَا عندَنَا أَثَرٌ، وَلَا عَلَى هذا الدِّينِ مِنْهُ ضَرَرٍ. فَقَدْ أَشْهَدَ اللهُ عَبْدَهُ ورَسُولَهُ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، جَرَيانَ التَقْديرِ، وَعَرَّفَهُ أَنَّ هَذا هُوَ مُرَادُ الحَقِّ حَقِيقَةً، وَإِنْ كانَ كُفْرُهُمْ مَنْهِيًّا عَنْهُ شَرْعًا.
قوْلُهُ: {إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} الْحَدِيثُ في الأَصْلِ: الْخَبَرُ. وهُوَ الْكَلَامُ الطَّوِيلُ الْمُتَضَمِّنُ أَخْبَارًا وَقِصَصًا. وسُمِّي حَدِيثًا لاشْتِمَالِهِ عَلَى الْأَمْرِ الَّذِي حَدَثَ وَجَدَّ، والْأَخْبَارِ الْمُسْتَجَدَّةِ الَّتِي لَا يَعْلَمُهَا الْمُخَاطَبُ، فَالْحَدِيثُ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ. والمُرادُ بـ "الحديثِ" هُنَا القرآنُ الكريمُ المُنَزَّلُ على سيِّدِنا محمَّدٍ ـ صلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ، وَإِطْلَاقُ اسْمِ الْحَدِيثِ عَلَيْهِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ إِخْبَارٌ مِنَ اللهِ لِرَسُولِهِ ـ صَلَّى اللهُ عليْهِ وسَلَّمُ، قال تَعَالَى في الآية: 23، منْ سورةِ الزُمَرِ: {اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ}. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِ السِّدِّيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: "إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الحَدِيثِ" قَالَ: الْقُرْآن. وَ "أَسَفًا" قَالَ: حَزَنًا، إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا. فَالأَسَفُ هُنَا هو الحُزْنُ والجَزَعُ والحِرْصُ عَلَى إِيمانِهم. فقَد أَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ الصَّنْعانيُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "أَسَفًا" قَالَ: جَزَعًا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: "فَلَعَلَّكَ بِاخِعٌ نَفْسَكَ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الحَدِيثِ أَسَفًا" قَالَ: حُزْنًا عَلَيْهِم، نَهَى اللهُ نَبِيَّهُ أَنْ يَأْسَفَ عَلى النَّاسِ فِي ذُنُوبِهِم. وَلَا جَوَابَ للشَّرْطِ "إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا" لِلِاسْتِغْنَاءِ عَنِ الْجَوَابِ بِمَا قَبْلَ الشَّرْطِ.
وَقَدْ ورَدَ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ مِرْدُوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: اجْتَمَعَ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَشَيْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَأَبُو جَهْلِ بْنِ هِشَامٍ، وَالنَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ، وَأُمَيَّةُ بْنُ خَلْفٍ، وَالْعَاصُ بْنُ وَائِلٍ، وَالْأَسْوَدُ بْنُ الْمُطَّلِبِ، وَأَبُو البُخْتُرِيِّ، فِي نَفَرٍ مِنْ قُرَيْشٍ، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ كَبُرَ عَلَيْهِ مَا يَرَى مِنْ خِلافِ قَوْمِهِ إِيَّاهُ، وإِنْكارِهِمْ مَا جَاءَ بِهِ مِنَ النَّصِيحَةَ، فَأَحْزَنَهُ حُزْنًا شَدِيدًا، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالى: "فَلَعَلَّكَ بِاخِعٌ نَفْسَكَ" الْآيَةَ.
قوْلُهُ تَعَالى: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ} الفاءُ: اسْتِئْنَافِيَّةٌ تَفْريعِيَّةٌ. و "لَعَلَّ" حَرْفٌ ناصِبٌ ناسِخٌ للتَرَجي مُشَبَّهٌ بالفعلِ مِنْ أَخَوَاتِ "إِنَّ". وَكافٌ الخِطابِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ النَّصْبِ اسْمُهَا. و "بَاخِعٌ" خَبَرُهَا مرفوعٌ بها. و "نَفْسَكَ" مَفْعُولٌ بِهِ لاسْمِ الفاعِلِ "بَاخِعٌ" والضَمِيرُ عائدٌ عَلَى سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ ـ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلَّمَ، وَ "نَفْسَ" مُضافٌ والكافُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ. و "عَلى" حرفُ جرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "بَاخِعٌ"، و "آثارِهِمْ" مجرورٌ بحرفِ الجرِّ مُضافٌ، والهاءُ: ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ، والميمُ للجَمْعِ المُذكَّرِ، وجُمْلَةُ "لَعَلَّ" مُسْتَأْنَفَةٌ لا محلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرَابِ.
قولُهُ: {إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} إِنْ: حَرْفُ شَرْطٍ جازم، و "لَمْ" حرفٌ للنَّفيِ والقلبِ والجَزمِ، وَ "يُؤْمِنُوا" فِعْلٌ مُضارعٌ مَجْزومٌ بِـ "لم" وعلامةُ جزمِهِ حذْفُ التَّنوينِ مِنْ آخِرِهِ لأنَّهُ مِنَ الأَفعالِ الخمسَةِ، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السُّكونِ في محلِّ الرفعِ فاعِلُهُ، والأَلِفُ فارقةٌ، والجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ الجَزْمِ بِـ "إِنْ" الشَّرْطِيَّةِ عَلَى كَوْنِهَا فِعْلَ شَرْطٍ لَهَا. وَلَا جَوَابَ لهذا الشَّرْطِ لِلِاسْتِغْنَاءِ عَنهُ بِمَا قَبْلَ الشَّرْطِ، والتقديرُ: إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الحَديثِ، فَلَا تَحْزَنْ، وَلَا تُذْهِبْ نَفْسَكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ. وَ "بِهَذَا" الباءُ: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "يُؤْمِنُوا"، والهاءُ: للتَّنْبِيهِ، وَ "ذا" اسْمُ إِشارةٍ مَبْنِيٌّ على السُّكونِ في محلِّ الجرِّ بحرْفِ الجرِّ. و "الْحَدِيثِ" بَدَلٌ مِنِ اسْمِ الإِشَارَةِ مجرورٌ مِثْلُهُ. و "أَسَفًا" مَفْعُولٌ لِأَجْلِهِ مَنْصُوبٌ بِـ "باخِعٌ"، أَوْ منصوبٌ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ وَاقِعٌ مَوْقِعَ الحَالِ وَجُمْلَةُ الشَّرْطِ مُسْتَأنَفَةٌ لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
قَرَأَ العامَّةُ: {إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ} بِكَسْرِ همزةِ "إِنْ" عَلَى أَنَّهَا شَرْطِيَّةٌ، والجَوَابُ مَحْذُوفٌ عِنْدَ الجُمْهُورِ لِدَلَالَةِ الترجِّي عَلَيْهِ، كَمَا تَقَدَّمَ في مَبْحَثِ الإِعْرَابِ، وهو عِندَ غَيْرِ الجمهورِ جَوابٌ مُتَقَدِّمٌ. وَقُرِئَ: "أَنْ" بفَتْحِها عَلَى حَذْفِ الجارِّ، أَي: لأَنْ لَمْ يُؤْمِنُوا.
قَرَأَ الجُمْهورُ: {باخِعٌ نَفْسَكَ} وتَقَدَّمَ توجيهُ هذِهِ القراءةِ في مبحثِ الإعرابِ، وَقُرِئَ "باخِعُ نَفْسِكَ" بالإِضافَةِ، والأَصْلُ فيها النَّصْبُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَقُرِئَ "باخِعُ نَفْسَكَ" عَلَى الأَصْلِ، وَعَلَى الإِضَافَةِ. أَيْ: قَاتِلُهَا وَمُهْلِكُهَا، وَهُوَ للاسْتِقْبالِ فِيمَنْ قَرَأَ "إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا"، وَلِلْمُضِيِّ فِيمَنْ قَرَأَ "أَنْ لَمْ تُؤْمِنُوا" بِمَعنَى: لأَنْ لَمْ يُؤْمِنٌوا. يَعْنِي أَنَّ باخِعًا للاسْتِقْبالِ فِي قِراءَةِ كَسْرِ "إِنْ" فإِنَّها شَرْطِيَّةٌ، وَلِلْمُضِيِّ فِي قِراءَةِ الفَتْحِ، وَذَلِكَ لَا يَجِئُ إِلَّا في قِراءَةِ الإِضافَةِ، إِذْ لَا يُتَصَوَّرُ المُضِيُّ مَعَ النَّصْبِ عِنْدَ البَصْرِيِّينَ. وَعَلى هَذَا يَلْزَمُ أَنْ لَا يَقْرَأَ بِالفَتْحِ إِلَّا مَنْ قَرَأَ بِإِضافَةِ "باخِعٌ"، وَيُحْتَاجُ في ذَلِكَ إِلَى نَقْلٍ وَتَوْقِيفٍ.