فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها قالَ أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْرًا
(71)
قولُهُ ـ تَعَالَى شأْنُهُ: {فَانْطَلَقا} أَيْ: انْطَلَقَ سيِدُنا مُوسَى بِصُحْبَةِ الخَضِرِ ـ عَلَيْهِما السَّلامُ، عَقِبَ تِلْكَ الْمُحَاوَرَةِ الَّتي جَرَتْ بَيْنَهما، فِي الاتِّجاهِ الذي حَدَّدَهُ الخَضِرُ.
قوْلُهُ: {حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خرقَها} السَّفينَةُ مَعْروفَةٌ، وتُجْمَعُ عَلى سُفُنٍ وَسَفائنٍ، نَحْوَ: صَحيفَةٍ وصُحُفٍ وصَحائفٍ. وَ "السفينُ" ـ بِحَذْفِ التاءِ: اسْمَ جِنْسٍ، نَحْوَ: ثَمَر وبَلَح. إِلَّا إِنَّ هَذَا المَصْنَوعَ قَلِيلٌ جِدًّا، نَحْوَ: "جَرَّةٍ" وَ "جَرَّ"، وعِمَامَةٍ وعِمَامٍ.
قالَ الشَّاعِرُ زُهَيْرُ بْنُ أَبي سلْمَى يَمْدَحُ هَرَمَ بْنَ سِنَانٍ:
مَتَى تَأْتِيهِ تَأْتي لُجَ بَحْرٍ ..................... تَقَاذَفُ في غَوَارِبِهِ السَّفِينُ
واشْتِقاقُها مِنَ السَّفْنِ، وهوَ القَشْرُ؛ لأَنَّهَا تَقْشُرُ الماءَ. كَمَا سُمِّيَتْ "بِنْتَ مَخْرٍ" لأَنَّها تَمْخُرُ الماءَ، أَيْ: تَشُقُّهُ. وَأَصْلُها: مِنَ السَّفْنِ وَهُوَ القَشْرُ، وَقَيلَ: سُمِّيَتْ بِهِ لِسَفْنِهَا وَجْهَ الماءِ فَكَأَنَّها تَقْشِرُهُ، وَهِيَ بِوَزْنِ "فَعِيلَةٍ" بِمَعْنَى "فَاعِلَةٍ". وَرَوَى ثَعْلَب عَنِ ابْنِ الأَعْرَابِيِّ أَنَهُ قَالَ: قِيلَ لَهَا سَفِينَةٌ؛ لِأَنَّها تَسْفِنُ الرَّمْلَ إِذَا قَلَّ الماءُ. قَالَ: وَيَكونُ مَأْخُوذًا مِنَ السَّفْنِ، وَهوَ الفَأْسُ التي يَنْجُرُ بِهِ النَّجَّارُ. وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعرِ أَبي كَبيرٍ الهُذَلِيِّ يَصِفُ ناقَةً لَهُ:
تَخَوَّفَ الرَّحْلُ مِنْهَا تَامِكًا صُلْبًا ........... كَمَا تَخَوَّفَ عُودَ النَّبْعَةِ السَّفَنُ
قولُهُ: تَخَوف، التَخَوُفُ هُنَا هوَ التَنَقُّصُ شَيْئًا فشَيْئًا. والتامِكُ: هوَ السَّنَامُ المُرْتَفِعُ. والنَّبْعَةُ: وَاحِدَةُ النَّبْعِ، وَهُوَ شَجَرٌ تُتَّخَذُ مِنْهُ القِسِيُّ. والسَّفَنُ: مِبْرَدُ الحَديدِ الذي يُنْحَتُ بِهِ الخَشَبُ. وَعَلى هَذَا فَهِيَ فَعِيلَةٌ بِمَعْنَى مَفْعولَةٌ؛ لأَنَّهُ نُحِتَتْ مِنَ الخَشَبِ بِالسَّفَنِ، فَهِيَ إِذًا مَسْفُونَةٌ، أَيْ: مَنْجُورَةٌ مَنْحُوتُةٌ. وَ "خَرَقَها" أَيْ: شَقَّها.
قولُهُ: {قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا} رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عبَّاسٍ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ، في الحَديثِ الصَّحيحِ الذي سَبَقَ روايتُهُ وإِخراجُهُ أَوَّلَ القِصَّةِ، مَرْفوعًا أَنَّهُ ـ صلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ، قالَ: ((فَانْطَلَقَا يَمْشِيَانِ عَلَى سَاحِلِ البَحْرِ، فَمَرَتْ بِهِمْ سَفِينَةٌ وكَلَّمُوهم أَنْ يَحْمِلوهُمَا، فَحَمَلُوهُمَا بِغَيْرِ أَجْرٍ، فَلَمَّا وَلَجُوا البَحْرَ أَخَذَ الخَضِرُ فَأْسًا فَخَرَقَ لَوْحًا مِنَ السَّفينَةِ، فَحَشَاهَا مُوسَى بِثَوْبِهِ، وَقالَ لَهُ: "أَخَرَقتَهَا ... " الآيَةَ. فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: "حَتَّى إِذَا رَكبَا في اَلسَّفِينَةِ خرقها". أَرادَ رَكِبَا البَحْرَ فِي السَّفِينَةِ، فَحُذِفَ المَفْعُولُ للعِلْمِ بِهِ.
قَوْلُهُ: {لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا} أَيْ: لَقَدْ جئتَ شَيْئًا عَظيمًا، وهو مِنْ: أَمِرَ الأَمْرُ، إِذا عَظُمَ وَتَفَاقَمَ. قالَ الرَّاجِزُ:
قَدْ لَقِيَ الْأَقْرَانُ مِنِّي نُكْرَا ........................ دَاهِيَةً دَهْيَاءَ إِدًّا إِمْرًا
وَقالَ مُجاهِدٌ وقَتَادَةُ، وَغَيْرُهُما مِنَ المُفَسِّرينَ ـ رَحِمَهُمُ اللهُ أَجْمَعينَ: "إِمْرًا": مُنْكَرًا. وَقالَ أَبُو عُبَيْدَةَ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ تَعَالَى: "إِمْرًا" دَاهِيَةً نُكْرًا، وَأَنْشَدَ عَلَيْهِ البيتَ السابقَ مِنَ الرَّجَزِ. "مَجَازُ القُرْآنِ" لِأَبي عُبَيْدَةَ: (2/409). وَقَالَ الكِسَائِيُّ: "إِمْرًا" شَديدًا، عَظيمًا. وَهُوَ مِنْ "أَمِرَ الأَمْرُ" إِذا كَبُرَ، و "أَمَرًا" أَيضًا ـ بِفَتْح المِيمِ، والاسْمُ مِنْهُ: الإِمْرُ. وَ "الإِمْرُ" أَيضًا فِي كَلَام الْعَرَبِ "الداهِيَةُ"، وَهُوَ أَيْضًا كُلُّ شَيْءٍ كَثِيرٍ شَدِيدٍ، فَتَقولُ: قَدْ أَمِرَ الْقَوْمُ: إِذا كَثُرَ عَدَدُهم، وَاشْتَدَّ أَمْرُهُمْ. والمَصْدَرُ مِنْهُ: الْأَمَرُ، وَالِاسْمُ منهُ: الإِمْرُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَانْطَلَقا} الفاءُ: هِيَ الفَصِيحَةُ؛ أَفْصَحَتْ عَنْ جَوَابِ شَرْطٍ، وَالتَقْديرُ: إِذَا عَرَفْتَ مَا كانَ بَيْنَهُما مِنْ حِوارٍ، وَأَرَدْتَ مَعْرِفَةَ ما كانَ بينَهِما بَعْدَ ذَلِكَ، فَأَقُولُ: فَانْطَلقا .. . و "انْطَلَقَا" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفتْحِ، وأَلِفُ التَثْنِيَةِ ضميرٌ متَصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السُّكونِ في محلِّ الرَفعِ بالفاعِليَّةِ، وَالجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ النَصْبِ، مَقولٌ لِجَوابِ "إِذَا" المُقَدَّرَةِ، وجُمْلَةُ "إِذا" المُقَدَّرَةِ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرابِ.
قوْلُهُ: {حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ} حَتَّى: حَرْفُ جَرٍّ وَغَايَةٍ. وَ "إِذا" ظَرْفٌ لِمَا يُسْتَقْبَلُ مِنَ الزَمَانِ خافضٌ لِشرْطِهِ مُتَعَلِّقٌ بِجَوَابِهِ. وَ "رَكِبا" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفتْحِ، وأَلِفُ التَثْنِيَةِ ضميرٌ متَصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السُّكونِ في محلِّ الرَفعِ بالفاعِليَّةِ. و "فِي" حرفُ جرٍّ مُتَعَلِّقٌ بـ "رَكِبا"، و "السَّفِينَةِ" مجرورٌ بحرفِ الجَرِّ، والجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ الجرِّ بِإِضافَةِ "إِذا" إِلَيْها، عَلَى كَوْنِهَا فِعْلَ شَرْطٍ لَهَا.
قوْلُهُ: {خَرَقَها} فِعْلٌ ماضٍ، مَبْنِيٌّ عَلَى الفتْحِ في محلِّ الجَزْمِ بـ "إِذا" الشرطيَّةِ، عَلَى أَنَّهُ جوابُ شَرْطٍ لَهَا، وَفاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا، تَقْديرُهُ: (هوَ)، يَعُودُ عَلَى الخَضِرِ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، وَ "هَا" ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ، مَبْنِيٌّ عَلَى السَّكونِ في مَحَلِّ النَّصْبِ على أَنَهُ مَفْعولٌ بِهِ، وَجُمْلَةُ "إِذا" الشرطيَةِ هَذِهِ، مِنْ فِعْلِ شَرْطِهَا وجَوَابِهَا، فِي مَحَلِّ الجَرِّ بِحَرْفِ الجرِّ "حَتَّى" التي هي بِمَعْنَى حرفِ الجرِّ "إِلَى"، فيكونُ التَقْديرُ: فَانْطَلَقَا إِلَى أَنْ خَرَقَ السَّفِينَةَ وَقْتَ رُكُوبِهِمَا إِيَّاها، وهَذَا الجَارُّ والمجرورُ مُتَعَلِّقانِ بِقولِهِ: "فَانْطَلَقَا".
قولُهُ: {قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا} قَالَ: فِعْلٌ مَاضٍ مبنيٌّ عَلى الفتحِ، وفاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هوَ) يَعودُ عَلَى موسَى ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، والجُمْلَةُ الفعليَةُ هذِهِ مُسْتَأْنفَةٌ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإِعْرَابِ. و "أَخَرَقْتَها" الهَمْزَةُ: للاسْتِفْهَامِ الإِنْكارِيِّ، و "خَرَقْتَها" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ عَلَى السُّكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رَفْعٍ متحرِّكٍ هوَ تاءُ الفاعِلِ، وتاءُ الفاعِلِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ عَلَى الفَتْحِ في محلِّ الرَّفعِ بالفاعليَّةِ، و "ها" ضميرٌ متَّصلٌ بِهِ مبنيٌّ عَلَى السُّكونِ في محلِّ النَّصْبِ مَفعولٌ بِهِ، والجُمْلَةَ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ بـ "قالَ". و "لِتُغْرِقَ" اللَّامُ: حَرْفُ جَرٍّ وَتَعْلِيلٍ، وقيلَ: هِيَ لامُ الصَّيْرورَةِ، و "تُغْرِقَ" فِعْلٌ مُضارعٌ مَنْصُوبٌ بِـ "أَنْ" مُضْمَرَةً بعدَ لامِ التعليلِ، وَفَاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُستترٌ فِيهِ وجوبًا تقديرُهُ (أنتَ) يَعُودُ عَلى الخَضِرِ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، و "أَهْلَهَا" منصوبٌ على المفْعولِيَّةِ، مُضافٌ، و "ها" ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌ على السُّكونِ في محلِّ الجرِّ بالإِضافةِ إِلَيْهِ، وَالجُمْلَةُ فِي تَأْويلِ مَصْدَرٍ مَجْرُورٍ بِـ اللَّامِ، والتقديرُ: لِغَرَقِكِ أَهْلها، وهَذا الجَارُّ مُتَعَلِّقٌ بـِ "خَرَقْتَها".
قولُهُ: {لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا} لَقَدْ: اللَّامُ هُنَا: هي المُوَطِّئَةُ للقَسَمِ، وَ "قَدْ" حَرْفٌ للتَحْقيقِ. وَ "جِئْتَ" فِعْلٌ ماضٍ، مَبْنِيٌّ عَلى السُّكونِ، لاتَّصالِهِ بِضَمِيرِ رَفْعٍ مُتَحَرِّكٍ، هوَ تاءُ الفاعِلِ، وتاءُ الفاعِلِ هذهِ ضَميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ، مَبْنِيٌّ عَلَى الفَتْحِ، في مَحَلِّ الرَّفعِ بالفاعِلِيَّةِ، وَ "شَيْئًا" مَفْعُولٌ بهِ مَنْصُوبٌ. وَ "إِمْرًا" صِفَةٌ لِـ "شَيْئًا" مَنْصُوبةٌ مثلُهُ، والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ واقعةٌ جَوابًا للقَسَمِ لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرابِ، وَجُمْلَةُ القَسَمِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ بِـ "قالَ".
قَرَأَ الجمهورُ: {لِتُغْرِقَ} بِضَمِّ التَّاءِ مِنْ فَوْقُ وَكَسْرِ الرّاءِ، أَيْ: لِتُغْرِقَ أَنْتَ أَهْلَهَا بِالنَّصْبِ مَفْعولاً بِهِ. وَقَرَأَ الأَخَوانِ (حمزةُ والكسائيُّ): "لِيَغْرَقَ" بِفَتْحِ الياءِ مِنْ تَحْتُ، وَسُكونِ الغَيْنِ، وَفَتْحِ الرَّاءِ، و "أَهْلُهُا" بالرَّفْعِ فاعِلًا. وقرأَ الحَسَنُ وَأَبو رَجَاءٍ "لِتُغَرِّقَ أَهْلَها"، بتَشْديدِ الرَّاءِ.