قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (66)
قَوْلُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ} أَيْ: قالَ سَيِّدُنا مُوسَى للخَضِرِ ـ عَلَيْهِمَا السَّلامُ، عِنْدما الْتَقَيَا "هَلْ أَتَّبِعُكَ" أَيْ: هَلْ تَأْذَنُ لِي فِي مُصَاحَبَتِكَ وَاتِّباعِكَ. شَرْطَ أَنْ تُعَلِّمَني مِنَ العِلْمِ الذي عَلَّمَكَهُ اللهُ ـ سُبْحانَهَ وتَعَالَى. فَقَدْ رَاعَى سيُّدُنا موسَى فِي خِطابِهِ أَسْمَى أَنْواعِ الأَدَبِ وأَلْوانِهِ، وهو ما يَلِيقُ بِمِثْلِهِ مِنَ الأَنْبِيَاءِ ـ عَلَيْهِمُ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ، حَيْثُ استعمل في خِطابِهِ صِيغَةَ الاسْتِفْهامِ دَلالةً عَلَى التَلَطُّفِ بِهِ والتَزَلُّفِ إِلَيْهِ، وأَنْزَلَ نَفْسَهُ مِنْهُ مَنْزِلَةِ السَّائلِ المُتَعَلِّمِ المُعَظِّمِ لِمُعلِّمِهِ وما يَحْمِلُ مِنْ عِلْمٍ، واسْتَأْذَنَهُ فِي أَنْ يَكونَ تَابِعًا لَهُ، لِيَتَعَلَّمَ مِنْهُ الخَيْرَ والرَّشادَ. وَهَذَا إِقْرَارٌ مِنْهُ عَلَى نَفْسِهِ بِالْجَهْلِ وَعَلَى أُسْتَاذِهِ بِالعِلم. وَ "مِنْ" في قولِهِ "مِمَّا عُلِّمْتَ" هِي لِلتَّبْعِيضِ، فَقد طَلَبَ مِنْهُ أنْ يُعَلِّمَهُ بَعْضَ مَا عَلَّمَهُ اللهُ، وَهَذَا مُشْعِرٌ بِتَوَاضُعِهِ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، كَأَنَّهُ يَقُولُ لَهُ لَا أَطْلُبُ مِنْكَ أَنْ تَجْعَلَنِي مُسَاوِيًا لكَ فِي الْعِلْمِ، بَلْ أَنْ تُعْطِيَنِي بعضَ عِلْمِكَ، كَمَا يَطْلُبُ الْفَقِيرُ مِنَ الْغَنِيِّ أَنْ يَدْفَعَ إِلَيْهِ جُزْءًا مِنْ مَالِهِ. وفيهِ إِشارةٌ إِلَى أَنَّ اللهَ تَعَالَى هُوَ الذي عَلَّمَ الخَضِرَ هذَا الْعِلْمَ. وَفِي سُؤَالِ الْمُلَاطِفِ هَذَا مَا فِيهِ مِنَ الْمُبَالَغَةِ فِي التلطُّفِ وَحُسْنِ الْأَدَبِ، ولِذَلِكَ فَقَدِ اسْتَدَلَّ العُلَمَاءِ بِهَذِهِ الآيَةِ المُباركةِ عَلَى أَنَّ المُتَعَلِّمَ تَبَعٌ للعالِمِ، حَتَّى وإِنْ تَفَاوَتَتِ المَرَاتِبُ بَيْنَهُما، فكانَ المُتَعَلِّمُ أَعَلَى مَنْزِلَةً في المُجْتَمَعِ.
وَلَا يَظُنَّ ظانٌّ أَنَّ فِي تَعَلُّمِ سيِّدِنا مُوسَى مِنَ الْخَضِرِ ـ عَلَيْهِما السَّلامُ، مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْخَضِرَ كَانَ أَفْضَلَ مِنْهُ، فَإِنْ كَانَ الْخَضِرُ وَلِيًّا، فَإنَّ مُوسَى نَبِيٌّ، وَالنَّبِيُّ أَفْضَلُ مِنَ الْوَلِيِّ، وَإِنْ كَانَ الخَضِرُ نَبِيًّا، فَإنَّ مُوسَى رَسُولٌ مِنْ أُولي العَزَمِ فهوَ أَفْضَلُ مِنْهُ أَيْضًا بِمَا حُمِّلَ مِنْ رِسَالَةٍ عظيمةٍ، ولَكِنْ قَدْ يَشِذُّ عَنِ الْفَاضِلِ مَا يَعْلَمُهُ الْمَفْضُولُ، وَإنَّما الْفَضْلُ لِمَنْ فَضَّلَهُ اللهُ ـ تَعَالَى. وَاللهُ أَعْلَمُ.
قوْلُهُ: {عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا} أَيْ: شَريطةَ أَنْ تُعَلِّمَّني ما أَسْتَرْشِدُ بِهِ فِي حَياتِي، وَأُصِيبُ بِهِ الخَيْرَ فِي دِيني، مما علَّمَكَ اللهُ تَعَالى. فَـ "رَشَدًا" أَيْ: عِلْمًا ذَا رَشَدٍ. وَ "عَلَى" مُسْتَعْمَلَةٌ هنا فِي مَعْنَى الشَّرْطِ لِأَنَّها للاسْتِعْلَاءِ المَجَازِيِّ. فقد جُعِلَ الِاتِّبَاعُ كَأَنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ فَوْقَ التَّعْلِيمِ لِشِدَّةِ الْمُقَارَنَةِ بَيْنَهُمَا. فَصِيغَةُ: أَفْعَلُ كَذَا عَلَى أَنْ تَفْعَلَ كَذَا، مِنْ صِيَغِ الِالْتِزَامِ وَالتَّعَاقُدِ.
وَيُؤْخَذُ مِنَ الْآيَةِ جَوَازُ التَّعَاقُدِ عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ وَالْعِلْمِ، كَمَا فِي حَدِيثِ تَزْوِيجِ الْمَرْأَةِ الَّتِي عَرَضَتْ نَفْسَهَا عَلَى النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وسَلَّمَ، فَزَوَّجَهَا مِمَّنْ رَغِبَ فِيهَا عَلَى أَنْ يُعَلِّمَهَا مَا مَعَهُ مِنَ الْقُرْآنِ.
وَهو الْتِزَامٌ يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ. وَقَدْ تَفَرَّعَ عَنْ حُكْمِ لُزُومِ الِالْتِزَامِ هذا أَنَّ الْعُرْفَ فِيهِ يَقُومُ مَقَامَ الِاشْتِرَاطِ، فَيَجِبُ عَلَى الْمُنْتَصِبِ لِلتَّعْلِيمِ أَنْ يُعَامِلَ الْمُتَعَلِّمِينَ بِمَا جَرَى عَلَيْهِ عُرْفُ أَقَالِيمِهِمْ.
وَقَدْ ذَكَرَ القاضي عِيَاضٌ ـ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالى، فِي بَابِ "صِفَةِ مَجْلِسِ مَالِكٍ لِلْعِلْمِ" مِنْ كِتَابِ (الْمَدَارِكِ): أَنَّ رَجُلًا مِنْ أهلِ خُرَاسانَ جَاءَ إِلَى الْمَدِينَةِ لِيسْمَعَ مِنَ الإمامِ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُ، فَوَجَدَ النَّاسَ يَعْرِضُونَ عَلَيْهِ، وَهُوَ يَسْمَعُ وَلَا يَسْمَعُونَ قِرَاءَةً مِنْهُ عَلَيْهِمْ، فَسَأَلَهُ أَنْ يَقْرَأَ عَلَيْهِمْ فَأَبَى مَالِكٌ، فَاسْتَعْدَى الْخُرَاسَانِيُّ قَاضِيَ الْمَدِينَةِ. وَقَالَ: جِئْتُ مِنْ خُرَاسَانَ، وَنَحْنُ لَا نَرَى الْعَرْضَ، وَأَبَى مَالِكٌ أَنْ يَقْرَأَ عَلَيْنَا. فَحَكَمَ الْقَاضِي عَلَى مَالِكٍ: أَنْ يَقْرَأَ لَهُ، فَقِيلَ لِمَالِكٍ: أَأَصَابَ الْقَاضِي الْحَقَّ؟ قَالَ: نَعَمْ. وَفِيهِ أَيْضًا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ حَقَّ الْمُعَلِّمِ عَلَى الْمُتَعَلِّمِ اتِّبَاعُهُ وَالِاقْتِدَاءُ بِهِ.
وَهَذَا الْعِلْمُ الَّذِي سَأَلَهُ مُوسَى ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، هُوَ مِنَ الْعِلْمِ النَّافِعِ الَّذِي لَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّشْرِيعِ لِلْأُمَّتِهِ، لأَنَّهُ مُسْتَغْنٍ عَنِ الِازْدِيَادِ فيهِ إِلَّا ما كانَ مِنْ وَحْيِ اللهِ تَعَالى مُبَاشَرَةً، فإِنَّما أَرْسَلَهُ ربُّهُ لِذَلِكَ. وَإِنَّمَا رَامَ أَنْ يَعْلَمَ شَيْئًا مِنَ الْعِلْمِ الَّذِي خُصَّ بِهِ الْخَضِرُ لِأَنَّ الِازْدِيَادَ مِنَ الْعُلُومِ النَّافِعَةِ هُوَ مِنَ الْخَيْرِ. وَهَذَا الْعِلْمُ الَّذِي أُوتِيهِ الْخَضِرُ هُوَ عِلْمُ سِيَاسَةٍ خَاصَّةٍ غَيْرِ عَامَّةٍ تَتَعَلَّقُ بِمُعَيَّنِينَ لِجَلْبِ مَصْلَحَةٍ أَوْ دَفْعِ مَفْسَدَةٍ بِحَسَبِ مَا تُهَيِّئُهُ الْحَوَادِثُ وَالْأَكْوَانُ لَا بِحَسَبِ مَا يُنَاسِبُ الْمَصْلَحَةَ الْعَامَّةَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ} قالَ: فِعْلٌ مَاضٍ مَبْنِيٌّ عَلى الفَتْحِ. و "لَهُ" اللامُ: حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "قالَ"، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بحرفِ الجرِّ. و "مُوسَى" فَاعِلُهُ مرفوعٌ بِهِ، وعلامةُ رفعِهِ ضمَّةٌ مُقَدَّرةٌ عَلى آخِرِهِ لِتَعَذُّرِ ظُهُورِهَا عَلى الأَلِفِ، والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا مَبْنِيًّا عَلَى سُؤَالٍ نَشَأَ مِنَ السِّيَاقِ كَأَنَّهُ قِيلَ: فَمَاذَا جَرَى بَيْنَهُما مِنَ الكَلامِ؟ فَقِيلَ: قالَ لَهُ مُوسَى: "هَلْ أَتَّبِعُك ..". و "هَلْ" حَرْفُ اسْتِفْهَامٍ واسْتِئْذانٍ. و "أَتَّبِعُكَ" فِعْلٌ مُضارعٌ مَرْفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ النَّاصِبِ والجازِمِ، وفاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتترٌ فيهِ وُجوبًا تقديرُهُ "أنا" يَعُودُ عَلَى سيِّدِنا مُوسَى ـ عَليْهِ السَّلامُ، وكافُ الخِطابِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ النَّصْبِ، مفعولٌ بِهِ، وَالجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ مَقُولُ "قالَ".
قوْلُهُ: {عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا} عَلَى: حَرْفُ جَرٍّ للاستعلاءِ وفيهِ هنا مَعْنَى الشَّرْطِ، مُتَعَلِّقٌ بِحالٍ مِنْ الكافِ فِي "أَتَّبِعُك"، أَيْ: أَتَّبِعُك باذِلًا لِي عِلْمَكَ. و "أَنْ" حَرْفُ نَصْبٍ مَصْدَريٌّ. و "تُعَلِّمَنِ" فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَنْصُوبٌ بِـ "أَنْ"، وَ "النُّونُ" للوِقايَةِ، وَ "الياءُ" المَحْذوفَةُ للتَّخْفيفِ ضَميرُ المُتَكَلِّمِ في محلِّ النَّصْبِ مَفْعُولٌ بِهِ أَوَّلُ، وَفاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتتِرٌ فِيهِ وُجوبًا تقديرُهُ "أَنْتَ" يَعُودُ عَلَى الخَضِرِ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ مَعَ أَنْ المَصْدَرِيَّةِ فِي تَأْويلِ مَصْدَرٍ مَجْرُورٍ بِـ "عَلَى" والتَقْديرُ: عَلَى تَعْلِيمِكَ إِيَّايَ، والجَارُّ مُتعلِّقٌ بِحالٍ مِنَ كافِ الخِطابِ فِي "أَتَّبِعُكَ"، أَيْ: أَتَّبِعُكَ حَالَ كَوْنِكَ مُعَلِّمًا لِي. و "مِمَّا" مِنْ: حرفُ جَرٍّ للتَّبْعيضِ، مُتَعَلِّقٌ بِـ "تُعَلِّمَ" أَوْ بحالٍ مِنْ "رُشْدًا"، و "مَا" اسْمٌ مَوْصولٌ مبنيٌّ على السُّكونِ في محلِّ الجَرِّ بحرفِ الجَرِّ. و "عُلِّمْتَ" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ للمَجْهُولِ، مبنيٌّ على السُّكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رفعٍ متحرِّكٍ هوَ تاءُ الفاعِلِ، وتاءُ الفاعِلِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على الفتْحِ في مَحَلِّ الرَّفعِ نائبًا عَنْ فاعِلِهِ، والجُمْلَةُ صِلَةٌ لِـ "مَا" المَوْصُولَةِ، لا محلَّ لها مِنَ الإعْرَابِ والعائدُ مَحْذوفٌ تَقْديرُهُ: مِمَّا عُلِّمْتَهُ. و "رُشْدًا"، مَفْعُولٌ بِهِ ثانٍ لِـ "تُعَلِّمَنِ". لا لِـ "مِمَّا عُلِّمْتَ"، لأَنَّهُ لا عائدَ إِذًا عَلَى المَوْصولِ، يَعْنِي أَنَّهُ إِذَا تَعَدَّى لِمَفْعُولٍ ثانٍ غَيْرِ ضَمِيرِ المَوْصُولِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَعَدَّى لِضَميرِ المَوْصُولِ؛ لِئَلاَّ يَتَعَدَّى إِلى ثَلاثَةٍ، وَلَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ عائدٍ عَلَى المَوْصُولِ.
قَرَأَ الْجُمْهُورُ: {رُشْدًا} بِضَمِّ الرَّاءِ وَسُكُون الشِّينِ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو بْنُ العلاءِ، وَيَعْقُوبُ "رَشَدًا" بِفَتْحِ الرَّاءِ وَالشِّينِ، مِثْلَما قَرَآ اللَّفْظَيْنِ السَّابِقَيْنِ، وَهُمَا لُغَتَانِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، أَنَّهُ قرأَ "رُشُدًا" بِضَمِّ الرَّاءِ وَالشِّينِ معًا. وَهِيَ لُغَاتٌ فِي مَعْنًى وَاحِدٍ، يُقَالُ: "رُشْدٌ" وَ "رَشَدٌ"، مِثْلَ "نُكْرٌ" وَ "نَكْرٌ"، كَمَا يُقَالُ: "سُقْمٌ" وَ "سَقَمٌ" وَ "شُغْلٌ" وَ "شَغْلٌ" وَ "بُخْلٌ" وَ "بَخَلٌ" وَ "عُدْمٌ" وَ "عَدَمٌ"، وَهَكَذَا.