الموسوعة القرآنية فيضُ العليم، سورة الكهف، الآية: 18
وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا (18)
قولُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ} الْحُسْبَانُ: الظَّنُّ، وَالْأَيْقَاظُ: جَمْعُ يَقِظٍ، أَوْ يَقُظٍ ـ بِكَسْرِ الْقَافِ وَضَمِّهَا، وَمِنْهُ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ:
فَلَمَّا رَأَتْ مَنْ قَدْ تَنَبَّهَ مِنْهُمُ .......... وَأَيْقَاظَهُمْ، قَالَتْ أَشِرْ كَيْفَ تَأْمُرُ
وَالرُّقُودُ: النِّيامُ، جَمْعُ رَاقِدٍ، وَهُوَ النَّائِمُ، أَيْ إنَّكَ أَيُّهَا الْمُخَاطَبُ لَوْ رَأَيْتَهُمْ لَظَّنَنْتَهُمْ أَيْقَاظًا، وَالْحَالُ أَنَّهُمْ رُقُودٌ، أَيْ: وَتَظُنُّ أنَّهُمْ يَقِظونَ، لأَنَّ أَعْيُنَهُمْ مَفْتوحةٌ، أَوْ لِتَقَلُّبِ أَجْسادِهِمْ، بَيْنَمَا هُمْ مَسْلُوبُونَ عَنْهُمْ، مُخْتَطَفُونَ مِنْهُمْ، مُسْتَهْلَكونَ فِيمَا كُوشِفُوا بِهِ مِنْ وُجُودِ الحَقِّ تَعَالى؛ فَظَاهِرُهُمْ ـ فِي رَأْيِ الخَلْقِ، أَنَّهُمْ بِأَنْفُسِهِمْ، وَلَكِنَّ القائمَ عَنْهُمْ ـ فِي التَحْقِيقِ غَيْرُهُمْ. فَهُمْ مَحْوٌ فِيمَا كُوشِفُوا بِهِ مِنَ الحَقَائِقِ. وكذلكَ أَهْلُ التَوْحِيدِ فإنَّ صِفَتَهُمْ مَا قَالَ الحَقُّ ـ سُبْحانَهُ، فِي صِفَةِ أَصْحَابِ الكَهْفِ: "وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ" فَهُمْ بِشَواهِدِ الفَرْقِ فِي ظَاهِرِهِمْ، لَكِنَّهُمْ بِعَيْنِ الجَمْعِ بِمَا كُوشِفوا بِهِ فِي سَرَائرِهم، يُجْرِي عَلَيْهِمْ أَحْوَالَهُمْ وَهُمْ غَيْرُ مُتَكَلِّفِينَ، بَلْ هُمْ يُثْبِتُونَ ـ وَهُمْ خُمُودٌ عَمَّا هُمْ بِهِ، أَنَّ القائِمَ بتَصَرُّفاتِهم عَنْهُمْ سِوَاهُمْ. وكَذلِكَ كانَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، في بِدَايةِ أَمْرِهِ، كَثِيرَ الانْقِطاعِ إِلَى اللهِ تعالى في بِدَايةِ أَمْرِهِ، ثُمَّ كانَ يَعْتَكِفُ بعدَ ذَلِكَ العَشْرَ الأَواخِرَ مِنْ رَمَضانَ كُلَّ عَامٍ.
وَكُلُّ مَنْ سَلَكَ سَبيلَهُم، واقْتَدَى بِسِيرَتِهِم، وتَشَبَّهَ بِهِمْ فِي الانْقِطاعِ إِلَى اللهِ، والتَجَرُّدِ عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ، والانْحِياشِ إِليْهِ ـ سُبحانَهُ، والفِرارِ مِنْ كُلِّ مَا يَشْغَلُهُ عَنْ رَبِّهِ ومولاهُ، التِمَاسًا لِرَحْمَتِهِ الخاصَّةِ، وَطَلَبًا لِتَهْيِئَتِهِ لَهُ لِكُلِّ رُشْدٍ وَصَوَابٍ. حَفِظَهُ اللهُ مِمَّنْ رَامَ أَذَاهُ، وَغَيَّبَهُ عَنْ حِسِّ نَفْسِهِ، وأَشْهَدَهُ عَجائبَ لُطْفِهِ وَقُدْرَتَهِ. والحمدُ للهِ رَبِّ العالَمِينَ.
قولُهُ: {وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ} إِخْبارٌ عَنْ حُسْنِ إيْوائِهِ ـ تَعَالَى لأَهلِ الكهْفِ؛ فقد أَجْرَى اللهُ عَلَيْهِمْ حَالَ الْأَحْيَاءِ الْأَيْقَاظِ إذْ جَعَلَهُمْ تَتَغَيَّرُ أَوْضَاعُهُمْ مِنْ أَيْمَانِهِمْ إِلَى شَمَائِلِهِمْ وَالْعَكْسُ، وَذَلِكَ لِحِكْمَةٍ لَعَلَّ لَهَا أَثَرًا فِي بَقَاءِ أَجْسَامِهِمْ بِحَالَةِ سَلَامَةٍ. إِذْ يُقَلَّبُونَ يَمينًا وَشِمالًا كَيْ لَا تَأْكُلَ الأَرْضُ مَا يَليها مِنْ أَبْدانِهِمْ. قالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: لَوْ لَمْ يَتَقَلَّبُوا لَأَكَلَتْهُمُ الأَرْضُ. لكِنَّ عَدَمَ تَقْلِيبِ كَلْبِهِمْ عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَقْلِيبَهُمْ لَيْسَ مِنْ أَسْبَابِ سَلَامَتِهِمْ مِنَ الْبِلَى وَإِلَّا لَكَانَ كَلْبُهُمْ مِثْلَهُمْ فِيهِ بَلْ هُوَ كَرَامَةٌ لَهُمْ. وقِيلَ: كانُوا يُقَلَّبونَ في السَّنَةِ مَرَّتَيْنِ. وقِيلَ: مرَّةً واحدةً في يومِ عَاشُوراءَ. وَقِيلَ: مرَّةً واحِدَةً كُلَّ تِسْعِ سِنينَ، ولَمْ نَجِدْ دَلِيلًا لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَاللهُ أَعْلَمُ.
أَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، قالَ: "وَتَحْسَبُهم" يَا مُحَمَّدُ "أَيْقاظًا وَهُمْ رُقُودٌ" يَقُولُ: فِي رَقَدَتِهِمُ الأُولَى، و "وَنُقَلِّبُهمْ ذَاتَ الْيَمينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ" قَالَ: وَهَذَا التَقْلِيبُ فِي رَقْدَتِهِمُ الأُولى كَانُوا يُقَلَّبونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما، فِي قَوْلِهِ: "وَنُقَلِّبُهمْ ذَاتَ الْيَمينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ" قَالَ: سِتَّةَ أَشْهُرٍ عَلَى ذِي الْجَنبِ وَسِتَّةَ أَشْهُرٍ عَلَى ذِي الْجَنبِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عِيَاضٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُ، فِي قَوْلِهِ: "وَنُقَلِّبُهمْ ذَاتَ الْيَمينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ"، قَالَ: فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّتَيْنِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُ، فِي قَوْلِهِ: "وَنُقَلّبُهُمْ" قَالَ: فِي التِّسْعِ سِنِينَ، لَيْسَ فِيمَا سِوَاهُ. وَأَخْرَجَ سَعيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنْ سَعيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُ، فِي قَوْلِهِ تعالى: "وَنُقَلِّبُهمْ ذَاتَ الْيَمينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ"، قَالَ: كَيْ لَا تَأْكُلَ الأَرْضُ لُحُومَهُمْ.
قولُهُ: {وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ} الذِّراعُ: مِنَ المِرْفَقِ إِلَى رَأْسِ الأَصَابِعِ. والوَصِيدُ: هوَ الْبَابُ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُما. وَيُؤَيِّدُهُ الْقُرْآنُ الكريمُ، وَيُقَالُ لَهُ "أَصِيدٌ" أَيْضًا، وذَلِكَ بقَوْلِهِ تَعَالى في الآيةِ: 20، مِنْ سورةِ البَلَدِ: {عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ}، وقَالَ مِنْ سُورَةِ الهُمَزةِ: {إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ} الآية: 8، أَيْ مُغْلَقَةٌ مُطَبَّقَةٌ، وَذَلِكَ بِإِغْلَاقِ كُلِّ وَصِيدٍ أَوْ أَصِيدٍ، وَهُوَ الْبَابُ مِنْ أَبْوَابِهَا، وَنَظِيرُ الْآيَةِ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
تَحِنُّ إِلَى أَجْبَالِ مَكَّةَ نَاقَتِي ........... وَمِنْ دُونِنَا أَبْوَابُ صَنْعَاءَ مُؤْصَدَةْ
فقد أَخْرَجَ الطِّستِيُّ فِي مَسَائِلِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما، أَنَّ نَافِعَ بْنَ الْأَزْرَقِ سَأَلَهُ عَنْ قَوْلِهِ تعالى: "مُؤْصَدَة" قَالَ: مُطْبَقَةٌ.
قَالَ: وَهَلْ تَعْرِفُ الْعَرَبُ ذَلِكَ؟. قَالَ: نَعَم. أَمَا سَمِعْتَ قَوْلَ الشَّاعِرِ: وذكَرَ البَيْتَ السابقَ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، قالَ: "مُؤْصَدَةٌ" قَالَ: هِيَ بِلُغَةِ قُرَيْشٍ مِنْ أَوْصَدَ الْبَابَ أَغْلَقَهُ.
وقالَ الأَعْشَى مخاطِبًا كِسْرَى حِينَ أَرَادَ مِنْ رَهَائِنَ مِنْ قومِهِ:
قَوْمٌ يُعَالِجُ قُمَّلًا أَبْناؤُهُمْ .................. وسَلاسِلًا حِلَقًا وبَابًا مُؤْصَدا
والبَيْتُ مِنْ قَصِيدَةٍ لَهُ يَقُولُ فِيهَا:
مَنْ مُبْلِغٌ كِسْرَى، إذَا مَا جَاءَهُ رُهُنًا، ....... عَنِّي مآلِكَ مُخْمِشَاتٍ شُرَّدَا
آلَيْتُ لا نُعْطِيهِ مِنْ أَبْنَائِنَا ............. رُهْنًا فَيُفْسِدُهُمْ كَمَنْ قَدْ أَفْسَدَا
حَتَّى يُفِيدُكَ مِنْ بَنِيهِ رَهِينَةً ............ نَعْشُ، وَيَرْهَنُكَ السِّمَاكُ الفَرْقَدَا
وَمِنْهُ أيضًا قَوْلُ ابْنِ قَيْسٍ الرُّقَيَّاتِ:
إِنَّ فِي الْقَصْرِ لَوْ دَخَلْنَا غَزَالًا ........... مُصَفَّقًا مُؤْصَدًا عَلَيْهِ الْحِجَابُ
وَمِنْ إِطْلَاقِ الْعَرَبِ "الْوَصِيدَ" عَلَى الْبَابِ قَوْلُ عُبَيْدِ بْنِ وَهْبٍ الْعَبْسِيِّ، وَقِيلَ زُهَيْرٌ:
بِأَرْضٍ فَضَاءٍ لَا يُسَدَّ وَصَيْدُهَا ............ عَلَيَّ وَمَعْرُوفِي بِهَا غَيْرُ مُنْكَرِ
أَيْ لَا يُسَدَّ بَابُهَا عَلَيَّ، يَعْنِي لَيْسَتْ فِيهَا أَبْوَابٌ حَتَّى تُسَدَّ عَلَيَّ.
وَقِيلَ: المُرادُ مَحَلُّ الوَصْدِ، أَيْ عَتَبَةُ البابُ. وَيُرْوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالى عَنْهُمْ جَمِيعًا، أَنَّ المُرادَ هُوَ الفِنَاءُ مِنَ الكَهْفِ، وَقِيلَ: الصَّعِيدُ. وَ "الوَصِيدُ"، و "الأَصِيدُ" لُغَتَانِ، مِثْلُ "الوِكَافِ" و "الإِكافِ".
وَأَيًّا كانَ فالْمُرَادُ بِالْإِيصَادِ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ: الْإِطْبَاقُ وَالْإِغْلَاقُ، لِأَنَّ الْعَادَةَ فِيهِ أَنْ يَكُونَ بِالْبَابِ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَكُونُ الْوَصِيدُ هُوَ الْبَابَ فِي الْآيَةِ، وَالْكَهْفُ غَارٌ فِي جَبَلٍ لَا بَابَ لَهُ؟. قُلْنا: إِنَّ الْبَابَ يُطْلَقُ عَلَى الْمَدْخَلِ الَّذِي يُدْخَلُ مِنْهُ إِلَى المَكانِ، فَلَا مَانِعَ مِنْ تَسْمِيَةِ الْمَدْخَلِ إِلَى الْكَهْفِ بَابًا، وَمَنْ قَالَ: الْوَصِيدُ: الْفِنَاءُ، لَا يُخَالِفُ مَا قدَّمْنَا، لِأَنَّ فِنَاءَ الْكَهْفِ هُوَ بَابُهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مِرَارًا أَنَّ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَيَانِ الَّتِي تَضَمَّنَهَا هَذَا الْكِتَابُ العَظِيمُ الْمُبَارَكُ، القُرْآنُ الكريمُ: أَنْ يَقُولَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي الْآيَةِ قَوْلًا وَتَكُونَ فِي الْآيَةِ قَرِينَةٌ تَدُلُّ عَلَى خِلَافِهِ.
وَقِيلَ: الكَلْبُ المَذْكورُ هُوَ كَلْبُ رَاعٍ مَرُّوا بِهِ فَتَبِعَهُمْ عَلى دِينِهِمْ، وَمَعَهُ كَلْبُهُ، وَيُؤَيِّدُهُ قِراءَةُ: "وَكَالِبُهُمْ"، أَيْ: وَصَاحِبُ كَلْبِهِمْ، وَقِيلَ: هُوَ كَلْبٌ مَرُّوا بِهِ فَتَبِعَهُمْ، فَطَرَدُوهُ مِرَارًا، فَلَمْ يَرْجِعْ، فَأَنْطَقَهُ اللهُ، فَقَالَ: يَا أَوْلِياءَ اللهِ لَا تَخْشَوْا إِصَابَتِي؛ فَإِنِّي أُحِبُّ أَحِبَّاءَ اللهِ، فَنَامُوا حَتَّى أَحْرُسَكُمْ. وَقِيلَ: هُوَ كَلْبُ صَيْدٍ لَهُمْ أَوْ زَرْعٍ. وقَالَ بَعْضُهم: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْكَلْبِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الكريمةِ رَجُلٌ مِنْهُمْ لَا كَلْبٌ حَقِيقِيٌّ، وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِبَعْضِ الْقِرَاءَاتِ الشَّاذَّةِ، كَقِرَاءَةِ: "وَكَالِبُهُمِ"، وَقِرَاءَةِ: "وَكَالِئُهُمْ"، وَيُبْطِلُ قَولَهمْ هذا قولُهُ تَعَالى: "بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ" لِأَنَّ بَسْطَ الذِّرَاعَيْنِ مِنْ صِفَاتِ الْكَلْبِ الْحَقِيقِيِّ، كَمَا هو مَعْرُوفٌ، وَمِنْ ذلكَ حَدِيثُ أَنَسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُ، عَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: ((اعْتَدِلُوا فِي السُّجُودِ وَلَا يَبْسُطْ أَحَدُكُمْ ذِرَاعَيْهِ انْبِسَاطَ الْكَلْبِ))، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَشْهُورٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، فَهُوَ قَرِينَةٌ عَلَى أَنَّهُ كَلْبٌ حَقِيقِيٌّ، وَقِرَاءَةُ "وَكَالِئُهُمْ" بِالْهَمْزَةِ لَا تُنَافِي كَوْنَهُ كَلْبًا، لِأَنَّ الْكَلْبَ يَحْفَظُ صاحِبَهُ، وَيَحْرُسُهُ، وَالْكَلَاءَةُ: الْحِفْظُ. وَاخْتُلِفَ أَيْضًا فِي لَوْنِهِ؛ فَقيلَ هوَ أَحْمَرُ اللَّونِ، وَقِيلَ: أَصْهَبُ اللَّونِ، وَقِيلَ: أَصْفَر. فَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، فِي قَوْلِهِ تَعَالى: "وَكَلْبُهُمْ" قَالَ: اسْمُ كَلْبِهِمْ (قطمور). وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِم أَيْضًا عَنِ الْحَسَنِ البَصْريِّ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، قَالَ: اسْمْ كَلْبِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ (قَطْمِير). وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنِ ابْنِ جُرَيجٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، قَالَ: قُلْتُ لِرَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: زَعَمُوا أَنَّ كَلْبَهُمْ كَانَ أَسَدًا، قَالَ: لَعَمْرُ اللهِ مَا كَانَ أَسَدًا، وَلَكِنَّهُ كَانَ كَلْبًا أَحْمَرَ خَرَجُوا بِهِ مِنْ بُيُوتِهِمْ يُقَالُ لَهُ "قطْمور). وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ كُثَيْرٍ النَّواءِ قَالَ: كَانَ كَلْبُ أَصْحَابِ الْكَهْفِ أَصْفَرَ اللونِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، قَالَ: قَالَ رَجُلٌ بِالْكُوفَةِ يُقَالُ لَهُ: عُبَيْدٌ وَكَانَ لَا يُتَّهَمُ بِكَذِبٍ، قَالَ: رَأَيْتُ كَلْبَ أَصْحَابِ الْكَهْفِ أَحْمَرَ كَأَنَّهُ كِسَاءٌ انْبِجِانِيٍّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ جُوَيْبِرٍ عَنْ عُبَيْدٍ السَّواقِ قَالَ: رَأَيْتُ كَلْبَ أَصْحَابِ الْكَهْفِ صَغِيرًا بَاسِطًا ذِرَاعَيْهِ بِفِنَاءِ بَابِ الْكَهْفِ وَهُوَ يَقُولُ: هَكَذَا يَضْرْبُ بِأُذُنَيْهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ حُمَيْدٍ الْمَكِّيِّ فِي قَوْلِهِ تعَالَى: "وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بالوَصِيدِ" قَالَ: جُعِلَ رِزْقُهُ فِي لَحْسِ ذِرَاعَيْهِ. هَذَا وَلَمْ نَجِدْ لِهَذَا كلِّهِ مَرجعًا يُطْمَأَنُّ إِليْهِ، وأَيْضًا مَا يَذْكُرُهُ الْمُفَسِّرُونَ مِنَ الْأَقْوَالِ فِي اسْمِ كَلْبِهِمْ، فَيَقُولُ بَعْضُهُمْ: اسْمُهُ قِطْمِيرٌ، وَيَقُولُ بَعْضُهُمْ: اسْمُهُ حُمْرَانُ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ فهوَ أَيضًا ممَّا ليسَ لهُ مَرجعٌ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ. فَإِنَّ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ أَشْيَاءُ كَثِيرَةٌ لَمْ يُبَيِّنْهَا اللهُ لَنَا، وَلَا رَسُولُهُ الكريمُ ـ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، وَلَمْ يَثْبُتْ فِي بَيَانِهَا شَيْءٌ، وَلَا طَائِلَ تَحْتَ الْبَحْثِ عَنْهَا، وَلَا فَائِدَةَ فِيهِ، واللهُ أَعْلَمُ.
وقَدْ ذَكَرَ كَلْبَهم كَمَا ذَكَرَهُم، وَكُلُّ مَنْ صَدَقَ فِي مَحَبَةِ أَحَدٍ أَحَبَّ كلَّ مَنْ انْتَسَبَ إِلَيْهِ، وَمَا يُنْسَبُ إِلَيْهِ أَيْضًا. فَإِنَّ الكَلْبَ لَمَّا صَحِبَ أَهلَ الكهْفِ، لَمْ تَضُرُّهُ نَجَاسَةُ صِفَتِهِ، وَلا خَسَاسَةُ قِيمَتِهِ. فَهَلْ تَرَى أَنَّ مُسْلِمًا يَصْحَبُ أَوْلِياءَ اللهِ مِنْ شَبابِهِ إِلَى مَشِيبِهِ وهَرَمِهِ يَرُدُّهُ اللهُ يَوَمَ القِيامَةِ خَائِبًا؟ حاشاهُ ـ سُبْحانَهُ وتَعَالَى. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ ـ رَحِمَهُ اللهُ فِي مَعْرِضِ تَفْسِيرِ لِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: (وَشَمَلَتْ كَلْبَهُمْ بَرَكَتُهُمْ، فَأَصَابَهُ مَا أَصَابَهُمْ مِنَ النَّوْمِ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ، وَهَذَهِ فَائِدَةُ صُحْبَةِ الْأَخْيَارِ، فَإِنَّهُ صَارَ لِهَذَا الْكَلْبِ ذِكْرٌ وَخَبَرٌ وَشَأْنٌ. اهـ. وَيَدُلُّ لِهَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِرَجُلٍ مِنَ المُسْلمينَ سَأَلَهُ: مَتَى السَّاعَةُ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: ((مَا أَعْدَدْتَ لَهَا))؟ قَالَ: مَا أَعْدَدْتُ لَهَا مِنْ كَثِيرِ صَلَاةٍ وَلَا صَوْمٍ وَلَا صَدَقَةٍ، وَلَكِنِّي أُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ. قَالَ: ((أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، رَوَاهُ البُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ بِرَقَم: (6167)، وَمُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ بِرَقَمِ: (2639)، وغيرُهُما، مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
كما يُفْهَمُ مِنَ الآيةِ أَيضًا أَنَّ في صُحْبَةِ الْأَشْرَارِ ضَرَرًا عَظِيمًا، بَيَّنَهُ اللهُ تَعَالَى في الآياتِ: (51 ـ 57) مِنْ سُورَةِ (الصَّافَّاتِ) فَقَالَ: {قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ * يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ * أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَدِينُونَ * قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ * فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ * قَالَ تَاللهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ * وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ}. صَدَقَ اللهُ مَوْلانَا العَظِيمُ.
قولُهُ: {لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ} الاطِّلاعُ عَلَى الشَّيْءِ: الإِشْرافُ عَلَيْهِ بِالمُشَاهَدَةِ والمُعَايَنَةِ، وَرُؤْيَتُهُ مِنْ مَكَانٍ مُرْتَفِعٍ، لِأَنَّهُ افْتِعَالٌ مِنْ طَلَعَ إِذَا ارْتَقَى جَبَلًا، فَصِيَغُ الِافْتِعَالِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الِارْتِقَاءِ، وَضُمِّنَ مَعْنَى الْإِشْرَافِ فَعُدِّيَ بِـ "عَلَى"، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ مَجَازًا مَشْهُورًا فِي رُؤْيَةِ الشَّيْءِ الَّذِي لَا يَرَاهُ أَحَدٌ، أَيْ: لَوْ أَنَّكَ عَايَنْتَهُمْ، وشَاهَدْتَهُمْ وهُمْ على هذِهِ حالِهِمْ تِلْكَ.
قولُهُ: {لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا} لَوَليتَ مِنْهُمْ هَارِبًا بِما شَاهَدْتَهُ مِنْ شَكْلِهِمُ المُخِيفِ، ومَنْظَرِهِمُ المُرعِبِ، لأَنَّهُ غَيْرُ مأْلوفٍ.
قَوْلُهُ: {وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا} أَيْ: خَوْفًا يَمْلَأُ الصُدُورَ بِرُعْبِهِ، لِمَا أَلْبَسَهُمُ اللهُ مِنَ الرَّهْبَةِ، أَوْ لِعِظَمِ أَجْرَامِهِمْ، وَانْفِتَاحِ أَعْيُنِهِمْ، فَقد كَانَتْ مُنْفَتِحَةً كَعَيْنَيِ المُسْتَيْقِظِ الذي يُريدُ أَنْ يَتَكَلَّمَ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ الرُّعْبَ مِنْ ذَوَاتِهِمْ إِذْ لَيْسَ فِي ذَوَاتِهِمْ مَا يُخَالِفُ خَلْقَ النَّاسِ، وَلَا الْخَوْفَ مِنْ كَوْنِهِمْ أَمْوَاتًا إِذْ لَمْ يَكُنِ الرُّعْبُ مِنَ الْأَمْوَاتِ مِنْ خِلَالِ الْعَرَبِ، عَلَى أَنَّهُ قَدْ سَبَقَ وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ.
وَالْمَلْءُ: كَوْنُ الْمَظْرُوفِ حَالًّا فِي جَمِيعِ فَرَاغِ الظَّرْفِ بِحَيْثُ لَا تَبْقَى فِي الظَّرْفِ سَعَةٌ لِزِيَادَةِ شَيْءٍ مِنَ الْمَظْرُوفِ، فَقد مُثِّلَتِ الصِّفَةُ النَّفْسِيَّةُ بِالْمَظْرُوفِ، وَمُثِّلَ عَقْلُ الْإِنْسَانِ بِالظَّرْفِ، وَمُثِّلَ تَمَكُّنِ الصِّفَةِ مِنَ النَّفْسِ بِحَيْثُ لَا يُخَالِطُهَا تَفْكِيرٌ فِي غَيْرِهَا بِمَلْءِ الظَّرْفِ بِالْمَظْرُوفِ، فَكَانَ فِي قَوْلِهِ: "لَمُلِئْتَ" اسْتِعَارَةٌ تَمْثِيلِيَّةٌ، وَهو عَكْسُ قَوْلِهِ تَعَالَى في الآيةِ: 10، منْ سُورَةِ الْقَصَصِ: {وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغًا}.
قولُهُ تَعَالى: {وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ} الواوُ: اسْتِئنافيَّةٌ، و "تَحْسَبُهُمْ" فِعْلٌ مُضارعٌ مرفوعٌ لتجرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وفاعِلُهُ مُسْتترٌ فيهِ وجوبًا تقديرُهُ "أَنْتَ" يَعُودُ عَلَى سيِّدِنا مُحَمَّدٍ ـ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، أَوْ عَلَى كلِّ مَنْ هو أَهْلٌ للخِطابِ، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ النَّصْبِ مفعولٌ بِهِ أَوَّل، والميمُ للجمعِ المُذكَّرِ. وَ "أيقاظًا" مَفْعُولٌ بهِ ثانٍ مَنْصوبٌ، والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا محلَّ لها مِنَ الإِعْرابِ. و "وَهُمْ" الواوُ: حَالِيَّةٌ. و "هُمْ" ضميرٌ منفصِلٌ مبنيٌّ في محلِّ الرَّفعِ بالابْتِداءِ. و "رُقُودٌ" خَبَرُهُ مَرْفُوعٌ، والجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ على الحالِ مِنْ هاءِ ضَميرِ المفعولِ بِهِ في "تَحْسَبُهُمْ".
قولُهُ: {وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ} الواوُ: للعَطْفِ، و "نُقَلِّبُهُمْ" فِعْلٌ مُضارعٌ مَرْفُوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ النَّاصِبِ وَالجازمِ، وفاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتتِرٌ فيهِ وُجوبًا تَقْديرُهُ "نَحْنُ" يَعْودُ عَلى صاحِبِ الذَّاتِ العَلِيَّةِ ـ سُبْحَانَهُ، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ النَّصْبِ مَفْعُولٌ بِهِ، والميمُ للجمعِ المُذكَّرِ. و "ذاتَ" منصوبٌ على الظَّرْفِيَّةِ المَكانيَّةِ مُتَعَلِّقٌ بِـ "نُقَلِّبُهُمْ"، وهو مُضافٌ، وَ "الْيَمِينِ" مجرورٌ بالإضافةِ إليْهِ. و "وَذاتَ الشِّمالِ" مثلُ "ذاتَ اليمينِ" مَعْطُوفٌ عَلَيْهِ، وَهذِهِ الجُمْلةُ الفِعْلِيَّةُ مَعْطُوفَةٌ عَلى جُمْلَةِ "تَحْسَبُهُمْ" على كونِها مُسْتَأْنفةً لا محَلَّ لها مِنَ الإِعْرابِ.
قوْلُهُ: {وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ} الواوُ: حَالِيَّةٌ، وَ "كَلْبُهُمْ" مَرْفوعٌ بالابْتِداءِ، وهو مُضافٌ، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بالإِضافةِ إِلَيْهِ، والميمُ عَلامَةُ الجَمْعِ المُذكَّرِ. وَ "باسِطٌ" خَبَرُهُ مَرْفوعٌ، وهَذِهِ الجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ عَلَى الحَالِ مِنْ الهاءِ ضَمِيرِ المفعولِ بِهِ في "نُقَلِّبُهُمْ". وَ "ذِراعَيْهِ" مَفْعُولٌ بِاسْمِ الفاعِلِ "باسِطٌ" مَنْصُوبٌ، وعَلامَةُ النَّصْبِ الياءُ لأَنَّهُ مُثَنَّى، وَهُوَ مُضافٌ، والهاءُ: ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بالإِضَافَةِ إِلَيْهِ. وَ "بَاسِطٌ" مَنْصُوبٌ بِهِ. وَ "بِالْوَصِيدِ" البَاءُ: حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِالخَبَرِ "بَاسِطٌ"، وَ "الوَصِيدِ" اسْمٌ مَجْرورٌ بِحَرْفِ الجَرِّ.
قولُهُ: {لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ} لَوِ: شَرْطِيَّةٌ غيرُ جازمةٍ، مَبْنِيَّةٌ عَلَى سُكُونٍ مُقَدَّرٍ، مَنَعَ مِنْ ظُهُورِهِ اشْتِغَالٌ بِحَرَكَةِ التَخَلُّصُ مِنِ الْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ. و "اطَّلَعْتَ" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ لاتِّصالِهِ بِضِميرِ رَفْعٍ مُتَحَرِّكٍ هوَ تاءُ الفاعِلِ، فِعْلُ شَرْطِ "لو"، وتاءُ الفاعِلِ ضَميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ فاعِلُهُ. و "عَلَيْهِمْ" عَلَى: حرفُ جرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "اطَّلَعْتَ"، والهاءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بِحَرْفِ الجَرِّ.
قولُهُ: {لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا} اللَّامُ: رَابِطَةٌ لِجَوابِ "لَوِ". و "وَلَّيْتَ" مثلُ "اطَّلَعْتَ" وَالجملةُ جَوَابُ شَرْطٍ غَيْرِ جَازِمٍ لا محلّ لها مِنَ الإعرابِ. و "مِنْهُمْ" مِنْ: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "فِرارًا"، والهاءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بحرفِ الجَرِّ، والميمُ للجمعِ المُذكَّرِ. و "فِرارًا" مَفْعولٌ مُطْلَقٌ مِنْ مَعْنَى الفِعْلِ قَبْلَهِ؛ لِأَنَّهُ مِرَادِفُهُ فِي المَعْنَى، فَالْتَوَلِّي وَالفِرارُ مِنْ وَادٍ وَاحِدٍ. وَيَجُوزُ أَنْ يُعْرَبَ مَصْدَرًا فِي مَوْضِعِ الحَالِ، أَيْ: فَارًّا، وتكونُ حالًا مُؤَكِّدَةً، ويَجوزُ أَنْ يَكونَ مَفْعُولًا لَهُ. وَجُمْلَةُ "لَوِ" الشَّرْطِيَّةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإِعْرَابِ.
قوْلُهُ: {وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا} الواوُ: عَاطِفَةٌ، وَاللَّامُ: وَاقِعَةٌ فِي جَوابِ "لَوِ"، و "مُلِئْتَ" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ للمجهولِ، مبنيٌّ على السُّكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رَفْعٍ متحرِّكٍ هو تَاءُ الفاعِلِ، وهي ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الرَّفعِ نائبٌ عَنِ الفاعِلِ. و "مِنْهُمْ" مِنْ: حرفُ جرٍّ للسَبَبيَّةِ مُتَعَلِّقٌ بِـ "رُعْبًا"، و "رُعْبًا" تَمْيِيزٌ مٌحَوَّلٌ عَنْ نَائِبِ الفاعِلِ، ورَجَّحَ الشَّيخُ أَبُو حَيَّان الأنْدَلُسِيُّ أَنْ يَكونَ مَفْعُولًا ثَانِيًا لِـ "مُلِئْتَ"، والهاءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بحرْفِ الجَرِّ، والميمُ للجمعِ المُذكَّرِ. وَالجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ قَوْلِهِ: "لَوَلَّيْتَ". على كونِها جوابَ شَرطٍ غيرِ جازِمٍ لا محلّ لها مِنَ الإعرابِ.
قرأَ ابْنُ عَامِرٍ وَعَاصِمٌ وَحَمْزَةُ: {وَتَحْسَبُهُمْ}، بِفَتْحِ السِّينِ عَلَى الْقِيَاسِ، وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَالْكِسَائِيُّ، "وتَحْسِبُهُم" بِكَسْرِ السِّينِ وَهُمَا قِرَاءَتَانِ سَبْعِيَّتَانِ، وَلُغَتَانِ مَشْهُورَتَانِ، وَالْفَتْحُ أَقْيَسُ وَالْكَسْرُ أَفْصَحُ.
قَرَأَ العامَّةُ: {نُقَلِّبهم} مُضارعًا مُسْنَدًا للمُعَظِّمِ نَفْسَهُ ـ سُبْحانَهَ. وَقُرِئَ كَذَلِكَ بِالياءِ مِنْ تَحْتُ، أَيْ: "اللهُ" أَوِ المَلَكُ. وَقَرَأَ الحَسَنُ: "يُقَلِبُهم" بالياءِ مِنْ تحتُ سَاكِنَ القافِ مُخَفَّفَ اللامِ، وَفاعِلُهُ كَمَا تَقَدَّمَ: إِمَّا اللهُ ـ تَعَالى أو المَلَكُ. وَقَرَأَ أَيْضًا "وَتَقَلُّبَهم" بِفَتْحِ التَّاءِ وَضَمِّ اللامِ مُشَدَّدَةً، وهو مَصْدَرُ "تَقَلَّبَ"، كَقَوْلِهِ تعالى منْ سورةِ الشعراءِ: {وَتَقَلُّبَكَ فِي الساجدينَ} الآية: 219، وَنَصْبِ الباءِ. وَخَرَّجَهُ أَبُو الفَتْحِ عَلى إِضْمارِ فِعْلٍ، أَيْ: وَنَرَى تَقَلُّبَهم أَوْ نُشَاهِدُ. ورُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا رَفْعُ الباءِ عَلَى الابْتِداءِ، والخَبَرُ هو الظَّرْفُ بَعْدَهُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكونَ مَحْذوفًا، أَيْ: آيَة عَظيمَة. وَقَرَأَ عِكْرِمَةُ "وتَقْلِبُهم" بِتَاءِ التَأْنيثِ مُضَارِع "قَلَبِ" مُخَفَّفًا، وفاعِلُهُ ضَميرُ المَلائكةِ المَدْلُولِ عَلَيْهِم بالسِّياقِ.
قَرَأَ العامَّةُ: {وَكَلْبُهُم}. وَقَرَأَ جَعْفَرُ الصَّادِقُ "كالِبُهم"، أَيْ: صَاحِبُ كَلْبِهمْ، كـ "لابِن" و "تامِرٍ". وَنَقَلَ أَبو عُمَرَ الزَّاهِدُ غُلامُ ثَعْلَبَ "وكالِئُهُم" بِهَمْزَةٍ مَضْمَومَةٍ اسْمَ فاعِلٍ مِنْ كَلأَ يَكْلَأُ: أَيِ: حَفِظَ يَحْفَظُ.
والعامَّةُ عَلَى كَسْرِ الواوِ مِنْ "لَوِ اطَّلَعْتَ" عَلَى أَصْلِ الْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ. وَقَرَأَهَا مَضْمُومَةً أَبُو جَعْفَر وَشيبةُ ونافعٌ ويَحْيَى ابْنُ وَثَّابٍ، والأَعْمَشُ تَشْبِيهًا بِواوِ الضَميرِ.
وَقَرَأَ ابْنُ كَثيرٍ وَنافعٌ: لَمُلِئْتَ" بِالتَشْديدِ عَلَى التكثيرِ. وأبو جعفر وشيبةُ كذلك إلا أنه بإبدال الهمزةِ ياءً. والزُّهْري بتخفيف اللام والإِبدال، وهو إبدالٌ قياسيٌّ.