قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (19)
قولُهُ ـ تَعَالَى شأْنُهُ: {قالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ} جَوابُ الملاكِ الرسولِ جِبْريلَ لِلسيِّدةِ مَرْيَمَ ـ عَلَيْهِما السَّلامُ، وَقَدْ أَفادَتْ أَداةُ الحَصْرِ: "إنَّما"، أَنَّ مُهِمَّتَهُ مَحْصُورةٌ في هَذَا الأَمْرِ وَحَسْبُ، وَلَا غَايَةَ لَهُ سِواهَا، وذَلِكَ طَمْأَنَةً لَهَا عِنْدَمَا خَافَتْهُ، وَاسْتَعَاذَتْ باللهِ مِنْهُ.
قوْلُهُ: {لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا} أَيْ: أَرْسَلَني رَبِّي ـ سُبْحانَهُ، لِأَهَبَ لَكِ بِأَمْرٍ مِنْهُ، بِحَسَبَ قراءةِ الجمهورِ، أَوْ لِيَهَبَ لَكَ ـ بحسَبِ القراءةِ الثانيةِ، "غُلَامًا زَكِيًّا" أَيْ: غلامً يكونُ نَبِيًّا. قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُما. و "زَكِيًّا" أَيْ: كَثِيرَ الْبَرَكَاتِ، طَاهِرًا مِنَ الْمَعَاصِي والذُّنُوبِ. وَفِي غَيْرِ هَذَهِ الْآيةِ ذكرَ صِفَاتٍ أُخْرَى لهَذَا الْغُلَامِ الْذي وَهَبَهُ لَهَا، وَهُوَ سيِّدُنا عِيسَى ـ عَلَى نَبِيِّنَا وعَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فقَالَ مِنْ سُورَةِ آلِ عِمْرانٍ: {إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى بْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ * وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ} الآيتانِ: (45 و 46).
قولُهُ تَعَالَى: {قالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ} قَالَ: فِعْلٌ مَاضٍ مَبْنِيٌّ على الفتْحِ، وفاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعودُ عَلَى المَلاكِ، والجُمْلَةُ: مُسْتَأْنَفَةٌ لا محلَّ لها مِنَ الإعراب. و "إِنَّمَا" أَدَاةُ حَصْرٍ. و "أَنَا" ضميرٌ مُنْفَصِلٌ مُبْنيٌّ عُلى السُّكونِ في محلِّ الرَّفعِ بالابْتِداءِ. و "رَسُولُ" خَبَرُهُ مرفوعٌ بِهِ، وهوَ مُضافٌ. و "رَبِّكِ" مجرورٌ بالإضافةِ إليْهِ، مُضافٌ، وكافُ الخطابِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إليْهِ، والجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ مَقولُ القولِ لـ "قال".
قولُهُ: {لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا} اللامُ: حَرْفُ جَرٍّ لِلْتَعْلِيلِ بمعنى "كي"، مُتَعَلِّقٌ بـ "رَسُولُ". وَ "أَهَبَ" مَنْصُوبٌ بِـ "أَنْ" مُضْمَرةً بَعْدَ لَامِ "كَيْ" وَفَاعِلُهُ: ضَمِيرٌ مُسْتترٌ فيِهِ وُجوبًا تقديرُهُ (أنا) يَعودُ عَلى المَلاكِ. و "لَكِ" اللامُ: جرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "أَهَبَ"، وكافُ الخطابِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجَرِّ بحرفِ الجَرِّ. و "غُلَامًا" مَفْعُولٌ بِهِ منصوبٌ. و "زَكِيًّا" صِفَةٌ لِـ "غلامًا" منصوبةٌ مثلُهُ، والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هذهِ صِلَةٌ لـ "أَنْ" المُضْمَرَةِ، و "أَنْ" المُضْمرَةُ مَعَ صِلَتِها فِي تَأْويلِ مَصْدَرٍ مَجْرُورٍ بِاللامِ والتقديرُ لِهِبَتِي لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا.
قرَأَ الجمهورُ: {لِأَهَبَ} بِالهَمْزَةِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَأَبُو عَمْرٍو، وَوَرْشٌ عَنْ نَافِع: "لِيَهَبَ" بالياءِ. والظاهِرُ في هَذِهِ القراءةِ أَنَّ الضَّميرَ لِلرَّبِّ، أَيْ: لِيَهَبَ اللهُ تَعَالَى. وَقِيلَ: الأَصْلُ: لِأَهَبَ بالهَمْزِ، وإِنَّما قُلِبَتِ الهَمْزَةُ يَاءً تَخْفِيفًا؛ لِأَنَّها مَفْتُوحَةٌ بَعْدَ كَسْرَةٍ فَتَتَّفِقُ القِراءَتَانِ، وَفِيهِ بُعْدٌ. وَأَمَّا قِراءَةُ الجُمْهُورِ فَالضَّميرُ للمُتَكَلِّمِ، وَيعودُ عَلَى المَلَكِ، وَقد أَسْنَدَهُ لِنَفْسِهِ لأَنَّهُ كانَ سَبَبًا فِيهِ.
ويَجُوزُ أَنْ يَكونَ الضَّميرُ للهِ تَعَالَى، وَيَكونُ عَلى الحِكَايَةِ بِقَوْلٍ مَحْذوفٍ. ويُقَوِّيهِ أَنَّ في بَعْضِ المَصَاحِفِ: أَمَرَني أَنْ أَهَبَ لَكِ.